599

0

الشاعرة وفاء الحلبي تبحثُ عن كوّةٍ للضّوء في ( مَرايا الغَسق )

 

بقلم : فرحان الخطيب

ظنّت قصيدة التفعيلة أنّها انسلتْ من بحور الخليل كما تنسلُّ الشعرةُ من العجين، ولم تدري أنّها تناسلتْ منها، وظلت تحمل سماتها الموسيقية ولو ببعض التلوينات الجديدة، والمواصفات والحلل التي أسبغها عليها روّادها الأوائل وفي مقدمتهم الشاعرة نازك الملائكة التي جهدت بوضع مقاييسها، والتعريف بها، والتهليل لقدومها كشعر حُرٍّ وحديث، وزامَلها مواطنها ومعاصرها السّياب وسار بعد ذلك في هودج " التفعيلة " الكثيرون ممن وجدوا في أنفسهم الرغبة في التحرر والانعتاق من البيت الخليلي المتساوي بالقافية والوزن، والقائم على وحدة البيت في القصيدة، إلى وحدة القصيدة بشكل عام، ما ساهم في إضافة معانٍ ودلالات وصور في لغة لا تحتاج إلى جزالة ألفاظ، وعمارة فخمة في مداميكِ التراكيب، بقدر حاجتها إلى لغة يومية يشركونها في بنية الجملة الشعرية، والاستعاضة عن الجزالة بتطعيم القصيدة بمعطيات جديدة توحي بوعي الشاعر بثقافة الرمز والاسطورة والاستسرار ما بين التلميح والتصريح إلى أن استقرت قصيدة التفعيلة بعد مجادلات بها شيء من الحدة، وتوضّعت كشكل شعري جديد على ساحة إبداع الشعر العربي. ما دعاني إلى هذا الاستهلال ديوان شعر صدر حديثاً بعنوان " مرايا الغسق " للشاعرة وفاء الحلبي وسار جلّه على درب قصيدة التفعيلة. " مرايا الغسق " عنوان ذو إيحاء عالٍ وغير خافٍ على قارىء متيقظٍ ومن الوهلة الأولى يخطفنا إلى أنّه حمّال لحالات لا تقرب الفرح أو السرور، ولا الضوء أو الإشراق، فما هي هذه المرايا التي ستعكسُ الغسق، وماذا سيرشح عنها من معنى، إذا علمنا أن معنى الغاسق في القرآن الكريم ، الليل المظلم، فلابد وأن الشاعرة تعني وتعي عنوانها جيدا، وبما ستعكسه لنا مراياه. بعد ولوجنا إلى فناء الديوان، وَحمْلِنا لشموع قراءتنا لنهتدي عبر شعاب قصائده إلى مقاصد الشاعرة، ندرك أنّ غلالةً من الحزن واليأس تخيّم على أرجائه، وقصدية الشاعرة بالعتبة النّصية الأولى " العنوان " لا لبْس فيها ولا غُموض، فبكلّ ركن ، وكل بوابة قصيدة تتشاهقُ أوجاع الشاعرة الفرد تعبيراً عن حالةٍ جمعية، تحوط بها، ولعلّ هذا المقبوس يوضح ما أقول :

" قابلةٌ للطيّ عواطفنا طيّ الكتمان ..

  لكن إن هبّتْ نسماتٌ في غفلة غسق ..

  يفضحُنا دمعٌ لدموعٍ داخلنا ..

  منهمرٍ دون استئذان .."

وكأن الشاعرة قد استسلمت لحالة الغسق الطويلة الأمد، واستخدمت إنْ الشرطية لهبوب نسمات في غفلة من الغسق، لأن الغسق بمفهومها لا بد وأن يظل مخيماً على المرئي من أيامنا، وهذه دلالة على تدحرج موجات الحزن والألم الصاخبة دون توقف على حياتنا، والشاعرة هنا تمتحُ من معين واقع مستخدمةً مجسّات شعورية عالية الحساسية لشاعرة فيّاضة بعاطفة صادقة ومؤثرة . تدرك شاعرتنا أنّ الحياة إذا أتيح لها المناخ المناسب، فهي قابلة للأخذ بمعطيات الجمال وعناصر السعادة وألوان الفرح، وهي على قيد محاولة لاقتناص هذا الفرح المنشود، ولكنها ما أن ترفّ أجنحتها صوبه حتى تتلاشى الأمنيات وتقع في دائرة الخيبة، فتعلن :

" كلُّ الخلايا غادرتني ..

  خلتُها بين الغيومِ تجولُ ..

  فرأيتني طيراً عبرتُ بكوّةٍ للضوء..

  إذْ بي في حديقة بيتنا ..

  لكنّها لا تحتفي بالزقزقات فما بها ؟

  ذبلتْ هناكَ شتولُ .. " ص 65 .

والنفس أمّارة بالضوء والانعتاق رغم الظلال القاتمة التي تلفّها، ودائما تدرك الشاعرة أن خيولها رامحة باتجاه هذا الفضاء الأرحب، غير أن الخيوط الممتدة من غسق مراياها الحياتية تحيك لها جلباباً رماديا مفضياً إلى انغماس الروح بالصمت المرين، تقول :

" موجعة لحظات الصمت ..

  مبهرة لحظات الصمت ..

  تسبرُ أغوار مساحات لم تألفْ من شمسٍ ضوءْ ..

  تنزاح الأمكنة هناك ..

  والساعة تغدو كَشِبَاكْ .. " ص 93 .

هذا الطّباق في المعنى حادٌ كمشرط يخترقُ جسد اللهفة للحياة، فالصّمت موجعٌ ومبهرٌ بآن، ولكن مساحاتِه الشاسعة لم تألفْ ضَوْءاً من قبل، وساعة الوقت تغدو كشِباك أحاطت به، والسكون الذي وقفت عليه الشاعرة في قوافيها إعلانٌ على أن الجمل مقسورة على عليه لاندلاع السكون ولوْيِهِ عنق الجهر في النفس البشرية إلى البوح والتقاط أنفاس الحياة. وإذا استطاعَ النقد فضَّ مغاليق ما استتر من معان خلف حجاب تقنياتِ الشعر من كنايات وغموض وستائر رمادية، فإننا نجد الغسق عند الشاعرة بظلاله واستطالاته متولدٌ عن مصدرين : الأول : هو ما فاضَ من جوّانيةِ ذاتِ الشاعرة، التي خاصرتها عادات وتقاليدٌ كانت بمثابة عثرات وُضِعت في براري روحها كي تبقى غزالاتها قَيْدَ القًيدِ المجتمعي الحارس البليد على عطر أزهار " الأنا " ومنعه من الضوع والانتشار، وما يدلل على ما نقول :

" مشيتُ مَعكْ ..

  برغم انتظارِ القبيلة خلف ستائر سهدي..

  وخلفَ الغًسقْ ..

  ورغم الخدوش بأ قدام حلمي ..

  فكنتُ أقاومُ نزفي ..

  أروّضُ حرفي ..

  وعلّمتُ كلَّ القصائد تسجدُ ..

  من أجل عينيكَ في مهجتي والوَرقْ.." ص 6 .

والثاني : هو ما أنتجتهُ الحرب سوريتنا من فَقْدِ وألم وضياع وهجرة ومحاولة تشويه وطن، فلا تجد شاعراً سوريّاً إلّا وَعلّقتْ الحربُ على قمصان وجودهِ ندوبَها وآهاتها، فكان لا بدّ من رصد مشاهد كثيرة، وتسليط كاميرا الشاعر على حدوثها، وتبيان مواضع خدجها للذات السورية الصافية، تقول :

" هناكَ في بلادي ..

  فإنّ المعالم قد غيرتها حروب الأنام ..

  وتلك الأزقّةُ تنكرُ خطواتنا كلَّ وقتٍ ..

  وعنّا يغيبُ الحَنانْ .. " ص 50 .

ولعلّ من أكثر المشاهد التي حفرتْ عميقاً في الذات الشاعرة السورية، هو مشهد الهجرة إلى بلاد الله الشاسعة، وفراق رائحة التراب الذي ينتمون إليه، وقليل هم الشعراء الذين لم يتناولوا هذه الحالة الحزينة، وندر ما قرأت ديواناً خلال العقد المنصرم إلا ووجدت فيه جلال الألم، وعظيم الحزن، وعميق الوجع على هذا النزوح المهول ، تقول :

" فملامحٌ لأحبّةٍ صارت بمعتقل القدرْ ..

  والضوء معتصمٌ بها ..

  آهٍ فكم أخفت صُورْ ..

  هذي زجاجة عطرهم ..

  أمست كقنديلٍ أضاء ببعدهم ..

  أقواس ألوانٍ بها ..

  مطرّ من الدمع انهمرْ .. " ص 56 .

وأرى في هذا الشاهد صورة شعرية مركبة من بضع جمل مشدودة إلى بعضها بقوة المعنى وبجمالية الإيحاء، حتى لتكاد تربكك الفكرة والصورة معا إذا جَدَعْتَ منها كلمة واحدة، فتصبح غير قابلة لأن توضع في إطارها المناسب، فتندلق منه وتتبعثر هاربة من تشكيلها الرؤيوي والبصري الموْجِعَين، إنه مشهد الرحيل المضني في لغة الشعر. وبالتفاتة ذكية من وفاء الحلبي إلى مرآة ذاتها ، وبعد همسها بأذننا بأنّ :

" غبشَ المرايا ..

   سوف نمسحُ دائماً كي نستعيدَ نقاءَنا .. " ص 105 .

تطلق سؤالاً سهمياً باتجاه دريئةِ تفاؤلِها :

" ماذا لو أشعلنا البدرَ بفيضِ سنانا ..

  ماذا لو غنّينا موّالاً ريفيّاً ..

  أو غنّانا .. " ص 84 .

وتبارك ذاتُها خطوتَها الأولى بحملها لمشعل الضوء والدخول إلى فضاء الغسق كي تبدده ليتلاشى بوحاً فبوحاً، وتبرعمُ أنثاها فجراً وذكرى، فتبدأ بأولى خطواتها :

" سِرّاً سأودعُ قبلتي ..

  حتّى إذا الفجر استنارْ ..

  وبداخلي في موقدِ الذكرى جمارْ ..

  أخطو بأشواقي وتشربُ ..

  من دموعي ضحكتي .. " ص 85 .

إنها تُقطّرُ ضحكتَها من دموعها الفياضة بحزنها رويداً رويدا، وهذه صورة تدل على اتقانها لأدوات مشغلها الشّعري، لتصل إلى المرأة الأنثى، التي يتوهج كل احتفاء بالحياة بوجودها، وتزهر رياض عشقها في قواحل الوقت والأيام، وتمنح الحياة رهافة الابتسامة، المعجونة بلهفة الشريك، لتهطل غيومها شلالات غوى وهوى على مساحة الشغف والانتظار، وعندما تمور جداول عاطفة المرأة الصادقة بندى حبّها مجتمعة، تقتنص الشاعرة جذوة مشاعرها الصاخبة لتقول :

" غجرية في لهفتي ..

  أغتالُ لحناً كي أهيمَ بنشوتي ..

  فبنفسجي دوماً يفيضُ من الحنينِ زمردا..

  والوعدُ في عشقي تناثرهُ الأماني عسجدا .." ص 83 .

ليس أجمل من هذا الشاهد الذي يدلق معانيه كشمس تدلق ضوءها في رابعة النهار، ولكن من خلف غمام ربيعي نثّارٍ لرذاذ الملاذات الهانئة، وهنا نستطيع أن نستشفّ اللذاذات المشتهاة من خلف ستارة مفردات حريرية النسج والصياغة، حمّالة للغة تعج بألوان الغزل اللطيفة الوقع على الأذن، سهلة الجريان إلى حدائق القلب . والديوان محتشد بالصور الماتعة، والتي عرضتها علينا الشاعرة من خلال تجاور وانزياح دلالة، واستعارات كثيرة، ما منح الديوان وعبر قصيدة التفعيلة الجوّ الانفعالي الوجداني والغنائي كما في هذه النماذج مما ذكرت ( والمرأة توشوش قلبي فتصير النبضات سيولْ، مهما لهونا بوحل المعاني، الشعر عندي مزج ألوان تذوب بريشتي، تاج القصائد، ينقر قمح الدهشة من كف الوقت ..) هذه أمثلة على نضج لغة الشاعرة، ودللت بها على حسن استخدامها لسطوع البيان، ولصياغة الجملة الشعرية عبر تركيب أنيق تتوالد منه معان أخرى من تجاور يقدح زناد الكلمة لتتطاير شرارات المعاني الجديدة من جرّاء يقظة حس الشاعرة الجمالي. الديوان سار أغلبه وعلى امتداد أكثر من ثلاثين قصيدة تفعيلة، على عدد من التفعيلات السريعة والخفيفة، والتي تتحمل جوازاتها جزءا وافرا من القصيدة ماجعل الوزن ينفلت في بعض الأحايين من قبضة سمع وانتباه الشاعرة، ولأن ميزة شعر التفعيلة هي التكثيف والاقتصاد في اللغة، فقد رأينا الشاعرة قد ترهلت لديها الجملة الشعرية في مواضع عدة ما فسح الطريق لدخول التمطيط السردي الذي ترفضه القصيدة المعافاة والمكتنزة بالصور والأخيلية، وهذا يقع في دائرة قدرة الشاعرة وفاء الحلبي على إبداع قصيدتها وتشكيلها بإيقاعات أكثر سلامة ودقة، وتكثيف باللغة أكثر إشراقاً ودهشة، وهذه ملاحظات لا تفت من عضد الديوان، ولاتنال من جمالياته العالية، ولا تؤثرُ على صورته الشارقة ، ولنختم مع الشاعرة بهذا التفاؤل الذي انتزعته الشاعرة بمهارة من مرايا الغسق:

" لتعلمْ بأنّ مرايا الغسق..

  تخبّىء داخلها لوننا حلمنا ..

  عيدَ ميلادنا وانصهار الشفقْ ..

  وتغمرنا بانعتاق بعيدً رحيل الأماسي ..

  وتفتحُ بوابة للألقْ .. " ص 88 .

وفاء الحلبي شاعرة تسير صعوداً على دِراج الإبداع وأتمنى لك مزيدة من العطاء .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services