486
0
الشاعرة هيلانة عطا الله .. تموت بين السطور احتفاء بالحياة

ذات احتفال بتكريم الفائزين في مسابقة لأفضل ديوان شعر على الساحة السورية، كان الفائزان الأول والثالث قد صاغا القصائد ديوانيهما على نظام القطرين أو ما اصطلح على تسميته بالقصيدة العمودية، ولأنني كنت مديرا لتلك الاحتفالية. قلت وبصوت عال أن القصيدة العمودية رغم كل الحروب التي شلت عليها من منتصف القرن العشرين حتى يومنا هذا قد صمدت وأثبتت حضورها وفازت بشاعريتها وتعريتها.
علماً أن اثنين من ثلاثة من لجنة التحكيم والمشهود لأعضائها بالنزاهة والمعرفة النقدية الأكاديمية العالية هم من أنصار غير القصيدة العمودية.
قادني إلى هذه المقدمة ديوان شعر بعنوان " من ما بين السطور " للشاعرة هيلانة عطا الله، والتي قطعت شوطاً طويلاً وفهما في كتابة الشعر بأشكاله الثلاثة العمودي والتفعيلة والنشر، كما إن لها تجربة مشهود لها في النقد، وهذا يعني إنها على دراية تامة بما تكتب، وكيف. تدير دفة اللغة حسب رياح القصائد الثلاث.
وهذا يحيلنا إلى رأي لا بد وأن يتشكل لدى قارى، حصيف في نهاية هذه القراءة الانطباعية حول هذا الديوان " مت ما بين السطور " عنوان مخاتل و مرواغ تواجهك به الشاعرة، وكان نار العشق والغرام قد أخذت منها ما أخذت، وأبقتها ميتة على قارعة القصيدة، من أجل جذوة حب وأشواق عالية حات بها.
ولكن عندما تحمل قنديل معرفتنا وقراءتنا في ضوء القصيدة عند هيلانة، وليس في عتمتها، تدرك كم من الألفة والعنفوان وعزة الذات تلف غلالها على كينونة الشاعرة، فإذا هو موت بطعم الكبرياء هو الموت المجازي الذي تفضل أن تتلقع به.
وتحجب نفسها عما تشتهي إذا كان العطاء من قبل المرء يفضي إلى تجاهل هذا العطاء ولو بالإيحاء والرمل، فهي وتكامل أهلية حضورها الزاهج من يمنح الجمال لمخيلة الآخر، وتزدهي لوحته وتتكامل بفضل ألوانها التي منحته إياها من فيضر مشاعرها، وسحر ودادها، فهي حفلة ريانة طافحة بالمواسم المحصلة والبيادر الوافرة الغلال، تقول:
واللوحة الغراء حين رسمتها.
كانت ببعض ملامحي تتكامل أقسمت أن في عقلتي بيادر وعلى يدي من القرام سنابل إنها تبع لل من العطاء تهب اللون والنبض والملاحة بكل طوعها وعبيرها، وإذ به تهل غيوفة على هضاب لا تقربها وعلى مروج غيرها، وتذهب غمار محبتها إلى بيادر لا علاقة لها بها، وتسلق مشاعره خارج إناتها، وتخضر أوراقه من على أغصان سواها، عندها تعلن عن كبريائها، وتشهر موتها والسحابها من موقع الهامها له، ومن وجودها في خياله، ومن تفاصيل لوحته، ومن بين سطوره، ليموت الجمال به وتحيا هي، وتبعث حياتها كالعنقاء من جديد.
خدام تصطاد الربيع بأضلعي أدوي، وغصتك في الربي يتطاول سأموت ما بين الشطور وينطفي وحي القصيد وليس فيه بدائل عنوان الديوان الذي يشي باللاحياة مخاتلة وهوارية، وجدنا خلف أكمته صوراً لا تعد ولا تحصى من صور الحياة النابضة بقلوب غز الاتها، والمشرقة بضياء أفكارها، والمائدة بأزهار أغصانها، والمخضرة بوريقات غنجها ودلالها، وما وراء العنوان من معان تحتفي بالحياة، وسمو مكانة المرأة وحضورها اللذي للرجل السحب على القصائد جلها، فهي على شراكة معه في العشق كما في غيره، تقول :
أنا أنتى إذا اشتعلت طقوسي جنونا، يحتمي في الأواز أنا أنثى وتسكنني حياة بعمر الورد والعمر انحسار ولكن في كلينا رب عشق سينقشه على الفلك المدار..
في دائرة الخلق اثنان يملكان الحسن بالجهر بما يحتاج في ضمير النفس البشرية، فلم البوح القنصر زمانا على الرجل دونها، وهنا عند الشاعرة هيلاتة وجدت محوراً قل حضورة في شعر النساء، ولا أحب التمييز بين شعر للرجال والنساء ولكن هذا استوجب الأمن ووقفت . عند غزل المرأة بالمرأة وأخذها دور الرجل، وهذا العمري غزل متبرعم من أن أهل الأنوثة أدرى بشعابها، وما على على الشريك جهرت هي به تتقول لنا أن الرجل لم يستطع أن يحوف الجمال فينا كله.
فاليكموة فينا شركاءنا في هذه الحياة، تقول نيابة عن الرجل وسكبت من تهد الأنوثة الهرا من قبل أن تجد الحياة مسازها یا دهشه مثل الدهور يشهقة عند الولادة أرخت أعمارها
إنه شعر يمنح المعنى من معين المعنى ذاته، فيتوقد الحرف جرأة وحضورا داهشا، لا تأخذة ربح إلى أقاصي الأمنيات فيلون عن البصر، ولا هو في ظلال حمائل الوجد مستنز يحتاج لمن يرفع النقاب عنه بل هو حالة من الوجود المشتعل. ليس احتراقاً، بل إضاءة وتتويراً خصباً للحياة.
وبذات المنحى تخاطب المرأة : في لحظ عينيك ارتمى كحل النسا وإلى الفؤاد بلحظة قد وافي فإذا احتظى بالقبلة الفجلي وما رقلة راح يرضع الأصداقا لا لا تقولي من بي هذا الفني إن الهوى لا يعرف الإنصافا.
فالشاعرة هنا هي الفتى العاشق، وهي التي لعبت دوره بمهارة بل وأكثر قليلا، وإذا ذهب بك الديوان إلى الشاعرة المرأة العاشقة تجدها المرأة التي تفرق في بحر الهوى، ولكن دائما الفاجئنا بمنعطفات خارجة عن المسار التكويني الاعتيادي. فهي المرأة التي تحبه ولكن كما تقول :
أنا لا أحب بفوضوية طفلة عند النساء تحكم الأشياء أنا في الهوى كون له عمل المدى وبكأسه أنا قطرة لو شاء ولرزما أغده محيطاً كاملا أهدى العيون زمرداً لآلاء
إذن هي المرأة العاشقة بوعي العشق وكينونته، والخبيرة بمساراته، وليست العاشقة الطفلة الغاوية التي يتملكها الغرام وتترك عاملها متقاداً لعواطفها، وفي هذا إيحاء تعليمي وتربوي بأن الفتيات كثيرات في هذا الزمن الصعب، فالحب ليس حراماً، ولكنه رغم فوضويته، إلا أنه محكوم بقواعد لا يعرفها إلا العاشقون العقلاء وبهذا تظهر فلسفة الحب عندها واضحة وجلية، تكشف خباياها لمن يعيها كما هنا:
الحب أن تلوي الضلوع طواعيا
وعلى التجمع تفرقط الحذاء لغز عصى الفهم لكن واضح مثل النجوم تبدد الظلماء باني على مثل كموت عاجل وعلى الموات يردنا أحياء
أها الشاعرة هيلانة عطا الله المرأة المحتشدة والمدججة بعواطفها الوطنية والإنسانية، فسنراها في كل مرابع الديوان وتضاريسه، فهي المسكونة بالأمومة والعطف الأسري، حيث المحنة السورية أرخت ظلالها على النفوس، وفرقت الأحياء والشاعرة تجوس كياتها لهفة اللقاء لعائلتها البعيدة، فتنداق أحاسيسها ومشاعرها حنانا وشوقاً وشعرا:
الباب يسألني من وقع خطوتهم والعطر معتكف في وكلهم مجعا حتى الأرائك عن هاماتهم سألت وفي حنين المرايا طيفهم لفعا
صغيرتي ساعد العمر من أفق يهدى إليك فطوليه بأجنحتي دان أفقت فوجه مثل أرنبة شقراء في عجل لاذت بخاصرتي
وفي وصفها لمن حموا البلاد ودافعوا عنها، وأراقوا دماءهم من أجل عزلها، تقول:
خوداتهم تفهم تعقد بالسنا ردا من الأقمار تعشقة النقل صلصالهم من طينة معجونة بالنور من كنه الملائك قد أظل
وأعود لما بدأت به، علماً أن الديوان قد تضمن قصائد تفعيلة وتتن، وأنا أكتب التفعيلة، وأجيد بقصيدة النثر وكتبت عنها في حال انتقادها، ولكن هنا تكمن قراءتي لعلو كعب قصيدة العمود في هذا الديوان، والتي برهنت على أن حضورها لنا يزل حافلا بألوان العذوبة والسحر والجمال، ولعل نازك الملائكة حين طيرت تجديدها بالشعر إلى آفاق شاسعة.
كانت تدرك جذر القصيدة العمودية الذي سيبقى يبرعم طويلة، حيث قالت : " وإني على يقين من أن تيار الشعر الحر سيتوقف في يوم غير بعيد، وميرجع الشعراء إلى الأوزان التطرية بعد أن خاضوا في الخروج عليها والاستهانة بها " وأنا هنا لا أدعو إلى التخلي عن قصيدتي التفعيلة والتي ولكني مؤمن أن قصيدة الشطرين قادرة على أن تكون حداثية في جوانيتها.
تراثية في شكلها، وهي قادرة على ذلك بدلالة قصائد هيلالة التي اتسمت بالتجديد البهار من حيث الصورة التي ضجت بها أرجاء الديوان، والتي تجاوزت الصورة المعتادة التي تشكلها التشبيهات والاستعارات والكتابات المعروفة على أهميتها، بل خلقت الصورة من ناتها، وشكلتها من إيحاء كلماتها، ولونتها من حداثة وجنة مفرداتها، فمنحتنا لذة ومتعة بصرية من خلال الإطار التقليدي الذي مازال خارج التنحيف الأثري والتحنيط الخشبي ، وقابلا للاستثمار في القصيدة المعاصرة.
والدلالة لصطفي هذه الصور : ( وتفرقط الحناء في خلجاتي، والعطر معتكف في ركهم، ساعد العمر في أفق ناي التحرر قد فتحت تقويه لتحيلني في لحظة المدينة، أغدو محيطا في الضحى . ) ومثل ذلك كثير، ولم أر أن الوزن والقافية ونظام التطرين قد حد من شاعرية أو شعرية الشاعرة، بل منح قصيدتها هويتها الحداثية الزاخرة بما تقتضيه الحداثة من رشاقة بالمفردات المتداولة، وحسن التجاور فيما بينها ما منحها القدرة على توليد معان خارجة على النفط المعجمي الراكد، وصعدت فيها إلى ألقها بسموها وارتقائها باصطفائها للألفاظ ذات المستوى العالي للدلالة على ما تريد، وقد رصدت لها تناصاً جميلا مع الشاعر الأموي أبي صخر الهذلي في قولها :
أقسمت أن في مقلني بيادر وعلى يدي من الغرام سنابل
مع قوله :
تكان يدي تلدى إذا ما لمسلها
وتنبت في أطرافها الورق الخضر
وفي التنويع بحور الشعر كانت موفقة ومختارة لكل قصيدة ما يناسبها من كامل البحور أو مجزوء انها، ومازاد من رقة
الجرس الموسيقي أحياناً هو الترقيل الذي ورد في أكثر من موضع مثل :
ولكم أزورك في الخيال بلهفة.
وشموع عمري قد ذوى فيها المثيل...
الديوان يحتوي على جزأين آخرين، أولهما لقصيدة التفعيلة والآخر القصيدة الشر، وكلاهما يستحقان الوقوف عندهما. ولكني أثرت الوقوف عند الجزء الأكبر والخاص بقصيدة العمود والذي يحتوي على أكثر من ثلاثين قصيدة، التظمت كحبات اللؤلؤ في العقد الجميل الذي يزين صدر قصيدة العمود التي لما نزل تعلن عن حضورها اللافت بكل ما أوتيت من
جمال الشكل وحداثة المضمون، على حد قول الشاعر:
قبل مانت قصيدة ذات شعر
قلت عاشت قصيدة وبحوز
فهي أم وكل تال وليد
و اخضرار قد برعمتة الجذور
الشاعرة هيلانة عطا الله والتي أمسكت بناصية اللغة وسرحت خيول شعرها في كل أشكال الشعر ووسعت قصائتها
بالبلاغة والاتزان والوضوح معا، استطاعت بمهارة أن تقول لنا أن الشعر عندها هو البيان الساحر بأي شكل كان، غير أنها
كانت الفائزة في حبها على مهار الخليل العتيقة الأصيلة، ولها مني الأمنيات الطبية بإبداع وإنجاز جديدين.