307
0
النهاية غير المتوقعة لميزان العدالة الذهبي العظيم
بقلم: محمد شريم
المنسق العام لمنبر أدباء بلاد الشام
بعد أن سادت إقليم "مجدستان" حالة من الظلم الطاغي والفساد المستشري، في حقبة من تاريخه، شعر أمير الإقليم أن شعبه يوشك على الثورة عليه، فدعا كبار الأعيان ليتباحثوا في الأمر، فقرروا وضع حد للظلم وتطبيق قوانين العدالة، وحتى يؤكدوا للشعب صدق رغبتهم في أن يسود العدل أرجاء الإقليم، فقد أعلنوا عن الشروع ببناء قصر للعدل، وأن يشارك ممثلو الشعب في جلسات المحاكمات كمستشارين لقاضي قصر العدل، فيصدر القاضي أحكامه بناء على خلاصة آرائهم ضمن ما تسمح به القوانين.
فسر الناس من هذه القرارات، وتفاءلوا بقرب الخلاص من الظلم الذي ساد البلاد وأنهك العباد.
وعندما اكتمل بناء قصر العدل، طلب كبير القضاة من أمير الإقليم أن يزيد من هيبة القصر، وأن يعلي من قيمة العدالة بأن يأمر بصناعة ميزان ضخم من الذهب، يكون على صورة الميزان ذي الكفتين، وأن يعلق هذا الميزان بزرد ذهبي في سقف ديوان القاضي بقصر العدل، ليجلس القضاة تحته وهم يزاولون عملهم على مائدة القضاء، فيكون فوق رؤوس القضاة، وفوق مستوى أعين المتقاضين، كرمز لعلوّ العدالة وسموّ مكانتها، فوافق أمير الإقليم على طلب كبير القضاة، وأمره باختيار لجنة برئاسته للإشراف على صناعة الميزان وتعليقه، تسمى لجنة "ميزان العدالة الذهبي العظيم"، كما أمر الجهات المختصة بتزويد اللجنة بالذهب الكافي حتى لو جمعوا كل ما هو داخل حدود الإقليم من الذهب، لأن العدالة هي أغلى ما يطلبه سكان إقليم "مجدستان".
وعندما أصبحت صناديق الذهب تحت تصرف كبير القضاة ولجنته، وفيها ما فيها من السبائك والمصوغات الذهبية، قال كبير القضاة لأصحابه: والآن، كيف سنتصرف بهذا الذهب البراق أيها الرفاق؟ فقال نقيب الصّناع وكان عضوا في اللجنة: نصنع منه ميزان العدالة العظيم! فقال كبير القضاة وهو يلتفت إلى شاهبندر التجار وكان عضوا في اللجنة أيضا: نعم، ننفذ ما أمر به مولانا الأمير، ولكن كيف نبدأ عملنا؟ فقال الشاهبندر: لي رأي لا أدري إذا كنتم سترونه صائبا أم غير صائب! فقال كبير القضاة: هات.. أسمعنا رأيك! فقال الشاهبندر: ترى، لو اشترى كل واحد من تجار الإقليم بأمواله سبائك من الذهب وحفظها في بيته هل ازدهرت التجارة ووجد الناس من البضاعة ما يسدون به حاجاتهم؟ فقال كبير القضاة: لا! فقال الشاهبندر: ما دام الأمر كذلك، لماذا لا نرفع من شأن العدالة ونعمل على ازدهار التجارة في الوقت نفسه؟ فسأله كبير القضاة: كيف؟ فأجاب الشاهبندر: نصنع ميزانا من الخشب، ثم نكسوه بطبقة رقيقة من الذهب بطريقة متقنة، فيسد الميزان الخشبي مسد الميزان الذهبي! فقال نقيب الصناع: فكرة جيدة! وأنا أطلب من أفضل النجارين مهارة وأعظم الصاغة حذقا أن يقوموا بصناعة الميزان وتذهيبه مقابل أجرة يتقاضونها، بإعطائهم جزءا من الذهب، تشجيعا لهم! فقال شاهبندر التجار: على أن نقلل من أجرتهم قدر المستطاع حتى نوفر من الذهب مقدارا كافيا لنتجر به، فنأخذ نصيبا من الربح، ونتبرع لقصر العدل بما تجود به أنفسنا لإنفاقه على احتياجات القصر وتحقيق العدالة، فيزداد ما يعرض من الذهب في الأسواق فيرخص، ويتاجر به التجار فيربحون.
فصاح نقيب الصناع: هل تريد أن نقلل من حصة الصّناع رغم جهدهم المضني لتفوزوا أنتم التجار بنصيب الأسد من الغنيمة! ما لهذا كان اقتراحي!
فقام كبير سدنة المعبد عن مقعده وقال: تتجادلون وكأن المعبد أعطاكم فتوى بجواز تحويل كمية الذهب عن الغرض الذي جمعت لأجله أو بجواز الانتقاص منها! فقال كبير القضاة: بالطبع لا، فالقانون لا يسمح بهذا إلا بفتوى من سدنة المعبد! فقال النقيب والشاهبندر: لن يتم شيء بدون فتوى من المعبد يا سيدنا، سيكون المعبد راضيا، فعليه التزامات ونفقات نقدرها! فتابع كبير القضاة: ولكن فاتكم شيء واحد! فسألوه: ما هو؟ فأجاب: ماذا لو اكتشف الأمير هذا؟ فقال كبير الصناع: وكيف سيكتشف ذلك؟ لا تقلق.. عندما ننجز صناعة الميزان وتذهيبه ستظن - أنت نفسك - أننا عدلنا عن فكرة الشاهبندر!
وعندما أنهى الصناع صناعة الميزان وتذهيبه، وحان وقت تعليقه في سقف ديوان القاضي رأى نقيب الصناع أن المال الذي خصص لصناعة الميزان وتذهيبه وتعليقه أوشك على النفاد، فاستأجر عمالا قليلي الخبرة لتعليق الميزان مقابل أجر زهيد، فعلقوه.
وقبل انعقاد جلسة القضاء الأولى التي تعقد بقصر العدل، قرر كبير القضاة أن يختار ممثلي الشعب الذين سيحضرون الجلسة كمستشارين له، بعد أن أمره الأمير بأن يتولى القضاء بنفسه في القضية الأولى التي تعرض على القضاء في هذا القصر، وذلك احتفاء بالمناسبة، فأعلن كبير القضاة عن اختيار نقيب الصناع وشاهبندر التجار وكبير سدنة المعبد ليكونوا هم المستشارون في هذه القضية بسبب مكانتهم الرفيعة وبما ينسجم مع أهمية المناسبة، كما أعلن عن دعوة شيخ المدرسين كمستشار ضمن ممثلي الشعب بطلب من الأمير.
وعند انعقاد الجلسة، جلس كبير القضاة في المقعد الأوسط خلف مائدة القضاء، وعن يمينه جلس كبير سدنة المعبد يليه شاهبندر التجار، أما عن يساره فجلس نقيب الصناع يليه شيخ المدرسين. وقد افتتحت جلسة القضاء بحضور من شاء الحضور من أبناء الشعب لتعزيز ثقتهم بالقضاء. وكان المشتكي حاضرا، ثم حضر المشتكى عليه متأخرا، فسأله كبير القضاة عن السبب في تأخره، فقال: ليس مثلي من يسابق الزمن ليقف موقف المتهم في هذه الجلسة، لأن القضية هي إجراء انتقامي من المشتكي ليس غير!
فارتبك كبير القضاة والمستشارون بادئ الأمر، لأنهم يعرفون عظم مكانة المشتكى عليه لدى الأمير من ناحية، ولأن مصالح معظمهم - ضمن المهمات التي يتولونها - ترتبط به أيضا، باستثناء شيخ المدرسين، لكنهم لم يجدوا بدا من المتابعة!
فتقدم المشتكي لذكر حجته، فقال له كبير القضاة منبها: وأنت تقول حجتك أيها المشتكي فلتحرص على قول الحق، وتذكر أن ميزان العدالة الذهبي العظيم يعلونا جميعا كما ترى! فأجابه المشتكي: أعلم أن العدالة التامة هي التي تأتي من الأعلى يا كبير القضاة! وبدأ الرجل بطرح شكواه قائلا: لي بستان يا سيدي كبير القضاة، ورثته عن أبي، وأبي ورثه عن جدي الذي ورثه أيضا عن أبيه وجده، وقد كنت أكد فيه وأجد، وأتعب بالعناية به وأنصب، وأعيل من خيره أسرتي، حتى حضر المشتكى عليه، مستغلا مكانته ونفوذه، ومستعينا بضعفي وفقري، وأحضر معه جماعة من أجرائه، فاستولى على بستاني، وطردني منه. فسأل كبير القضاة المشتكي: وبأية حجة طردك من البستان؟ فأجاب المشتكي: بحجة أن أحد أجداده أتاه في المنام وأخبره أن جدا من أجدادي أخذ منه أرض هذا البستان، وأن عليه استرجاعها، فعلت ضحكة من أبناء الشعب الحضور، فقرع القاضي جرسا كان أمامه - لهذا الغرض - فصمتوا..
فصاح المشتكى عليه: ما هذه الضحكات يا كبير القضاة؟ أهذا مجلس قضاء أم عرض ساخر لخيال الظل؟ فعاود الحضور الضحك، فقرع كبير القضاة الجرس مرة ثانية بارتباك ظاهر، فصمتوا..
فسأل كبير القضاة المشتكي: وهل لجأت إلى أحد ليسوي الأمر بينك وبين المشتكى عليه قبل أن تلجأ للقضاء؟ فأجاب المشتكي: نعم يا سيدي.. لجأت لبعض الجيران وكبراء الحي ورجال المخفر، وكلهم مقتنع بقضيتي، وتحدثوا معه، فلم يفيدوني بشيء! ثم لجأت إلى كل من يجلسون حولك على مائدة القضاء الآن، لأنهم من كبراء الشعب فأقروا بحقي في البستان، وتحدثوا مع المشتكى عليه لعله يعود عن ظلمه، فلم يفلحوا!
فتوجه كبير القضاة للمشتكى عليه وقال: وبم ترد على المشتكي؟ فأجاب المشتكى عليه: أنا أخذت حق جدي المسلوب، وأتصرف في البستان تصرف المالك بملكه، والناس يتعاملون معي على هذا الأساس، وبينما كنت أتفقد بستاني فاجأني هذا الرجل بالاعتداء علي ظنا منه أنه سيخيفني فأتنازل له عن حقي الذي لن أتنازل عنه أبدا، بل إنني سأطالبه بأن يعوضني عما فقده أبي وأجدادي من خير البستان منذ أن استولى عليه جده القديم!
فعلت ضحكة أخرى من الحضور، فصاح المشتكى عليه محتجا بغضب عارم وهو يقترب من مائدة القضاء ويمد يده نحو الجرس ليقول: لقد تحولت جلسة القضاء إلى جلسة للمساخر يا كبير القضاة وأنت تقرع هذا الجرس دون جدوى! ثم تناول الجرس بحركة غاضبة ورماه للأعلى، فإذا بالجرس يحط في إحدى كفتي الميزان، فمالت الكفة قليلا نحو الأسفل، وارتفعت نظيرتها، وهنا علت ضحكات الجمهور دون توقف، فلم يستطع القاضي ضبط الجلسة فأمر بإخراج الحضور من ديوان القاضي، ولكنه لم يشأ أن يستأنف الجلسة وميزان العدالة الذهبي العظيم مائل بوضعه المضحك، فأمر بإحضار نبوت خشبي، وطلب من شيخ المدرسين لقربه من الكفة الهابطة أن يرفعها بطرف النبوت إلى الأعلى لتوازي نظيرتها حتى تختتم الجلسة ثم يصار إلى استرجاع الجرس وتعديل الميزان، فقبل الرجل المهمة على مضض!
فعاد كبير القضاة ومعه المستشارون ليستجوبوا المشتكي، وكل منهم يدرك أن حرارة الموقف لا تسمح باستفزاز المشتكى عليه بعد ما بدر منه، فإنهم يعلمون ما تربطهم به من المصالح، فقال كبير القضاة للمشتكي: ولكنك أخذت القانون بيدك أيها المشتكي، وهذا أمر مخالف للقوانين! فقال المشتكي: وهل احترم المشتكى عليه قوانين العدالة عندما استولى على بستاني؟ وهل التزم بالقوانين وهو يرفض نصائح جميع من لجأت إليهم ليردوه عن ظلمه؟! أأكون مخالفا للقوانين عندما أعمل على استرداد حقي السليب؟! فقال نقيب الصناع: ألم تعلم أيها المشتكي أنك ستضر بحال الصناعة في الإقليم عندما تشج رأس المشتكى عليه وهو من كبار الصناع؟ وهنا تحدث شاهبندر التجار وقال: ألم تعلم أن من يضر الصناعة يضر التجارة أيضا أيها الرجل؟ فتبعه كبير سدنة المعبد ليقول: ألا تعلم أن شريعتنا تحض على التسامح يا بني؟! فلم يجد شيخ المدرسين بدا من التدخل فقال: ولكن الرجل لجأ إليكم جميعا فلم تعيدوا إليه حقه! فصاح به كبير القضاة: انتبه لعملك يا شيخ المدرسين! لقد سهوت عن مهمتك وأنت تتحدث، فمال ميزان العدالة الذهبي العظيم! فعدل شيخ المدرسين نبوته وهو يتبرم مما حدث.
ثم أمال كبير القضاة برأسه تجاه المستشارين قبل أن يعلن الحكم، وبعدئذ أعلن القرار قائلا: نحكم بتثبيت ملكيتك للبستان أيها المشتكي، على أن تتفق مع المشتكى عليه بالطريقة المناسبة لتسليمه إليك دون تدخل من أحد، ولكننا نقضي بسجنك لأنك اعتديت على المشتكى عليه خلافا للقانون!
وعندما سمع شيخ المدرسين قرار الحكم الظالم بدرت منه حركة عصبية عفوية، فوكز كفة الميزان بنبوته، بشي من الحدة، وكان الميزان لم يعلق بشكل محكم، لقلة خبرة العمال الذين علقوه، فسقط الميزان على كبير القضاة والمستشارين، فجرح كبير القضاة ونقيب الصناع وشاهبندر التجار، أما كبير سدنة المعبد فمات من فوره تحت كفة الميزان.
وعندما تأمل شيخ المدرسين شرخا حدث في الميزان بعد سقوطه وجد الميزان خشبيا! ففوجئ مما رأى، لأنه لم يكن ضمن اللجنة التي أشرفت على صناعة الميزان، فنظر إلى المشتكي فوجده مضطربا، فسأله: ما بك؟ فقال: أفكر في طريقة للتظلم من حكم كبير القضاة! فقال شيخ المدرسين: ولم تجهد نفسك بهذا؟ فأجاب المشتكي: ألم يصدر الحكم بسجني؟ فأجابه شيخ المدرسين: من هذه الناحية فلتطمئن، فالحكم صدر عن قاض فقد نزاهته الآن، وسيكون السجن من نصيبه هو بعد أن غش في صناعة الميزان.. ألم تقل أنت لكبير القضاة: "أعلم أن العدالة التامة هي التي تأتي من الأعلى"!
وقال شيخ المدرسين، وكان هو شاعر الإقليم وحكيمه:
يا طالب العـدل المُتمّـم راجيــا
تحقيقــــه بقضيـــةٍ وقضـــــاءِ
ستعـودُ مَخذولا بأيّــة لحظـــةٍ
مستسلمـا لليـأس دون رجــاءِ
إِنْ يجمع الخبثاءَ خيـطُ تنافــعٍ
مع حاكـمٍ مِن زمرة الأجـراءِ!