90
0
الحكواتي من مرآة المجتمع بالأمس إلى نافذة رقمية اليوم

كان الحكواتي الجزائري قديما، إذا خرج إلى السوق الأسبوعي أو إلى الساحة العامة التي تتوسط القرية أو المدينة، يشكل حضوره حدثا ينعش ذاكرة الناس ويحيي التراث الشعبي.
نسرين بوزيان
فقد كان الحكواتي يروي قصص الناس، سواء كانت مفرحة أو محزنة، وفي أحيان أخرى يسرد انتصاراتهم وطرفهم الفكاهية، مستهدفا نقل رسائل اجتماعية وثقافية مهمة، وبناء رابط حي بين الناس وتجاربهم اليومية، ليصبح صوت المجتمع ومرآة حياته.
أما اليوم، ومع انتشار التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، فقد تغيرت معالم هذه المهنة التقليدية بشكل كبير.
إذ أصبح بعض من يمارسون الحكاية يفتقدون المهارات الأساسية المطلوبة للحكواتي الحقيقي، ويهدفون غالبا إلى جذب المشاهدات فقط، ويكتفون بعرض القصص بطريقة عشوائية دون مراعاة المعايير الفنية والتربوية التي تميز هذا الفن العريق.
لذلك، أصبح من الضروري إعادة تنظيم مهنة الحكواتي وتطويرها من خلال دورات تدريبية متخصصة تهدف إلى صقل مهارات الحكواتي وتعليمه فنون الأداء وأساليب الحكي وكيفية التفاعل مع الجمهور، لا سيما الأطفال.
كما ينبغي ترويج هذا الفن ضمن مهرجانات وفعاليات ثقافية خاصة، لإعادة الحكاية إلى مكانتها الأصلية لتحافظ على التراث وتعيد ربط الأجيال الحديثة بتاريخهم وذاكرتهم الشعبية.
أصل الحكاية

في هذا السياق، قالت الحكواتية محايلية نعيمة أصل الحكاية الحكواتية في حديثها لـ " بركة نيوز" أن الحكايات تبدأ دائما بعبارات تفتح بها الأبواب بين الراوي والمستمع، مثل: "حاجيتكم ما جيتكم، من بلاد بعيدة قصدتكم."
وأضافت أن هذه الجملة ليست مجرد كلمات، بل جسـر يدخل السامع إلى عالم آخر، عالم تسكنه الشخصيات والأمكنة والدهشة.
ويروى أن حكواتيا جاء من بلاد إلى بلاد، كمن يسافر بين العوالم، قطع الوديان وعبر الصحاري، وتحدى الصخور القاسية والطرق الوعرة، حتى وصل إلى ساحة كبيرة قصدها الناس من كل جهة، حاملين شغفهم لسماع "قصة زمان"، وقف الحكواتي وسط الساحة وبدأ يحكي، وكان صوته يعلو وينخفض، وكلماته ترقص بين أنفاس الناس.
في اليوم الأول، كان الصمت سيد المكان، حتى قيل إنك لو رميت إبرة لسمع صوتها. ومع مرور الأيام بدأ الحضور يقل شيئا فشيئا ؛ فالحياة تسرق الناس، وتشتتهم الأعمال، وتنسيهم ما كانوا ينتظرونه بالأمس بشغف.
ومع أن الساحة بدأت تفرغ، ظل هناك غلام صغير يجلس في الصف الأمامي، عيناه واسعتان كمرآتين تعكسان حرارة الحكاية. اقترب الغلام من الحكواتي في أحد الأيام وسأله: "يا سيدي الحكواتي… لماذا تحكي؟"
فأجابه الحكواتي بابتسامة "أحكي لكي لا ينسى الناس… فالحكايات تحفظ القلوب قبل الذاكرة."
ظل الحكواتي يحكي والغلام يستمع، بينما كان ضوء القمر يرافقهما، ومع ذلك، واصل الحكواتي السرد وكأن الساحة ما زالت تعج بالآذان والوجوه.
اقترب الغلام مرة أخرى وقال بدهشة وبراءة: "يا سيدي الحكواتي… قلت لي إنك تحكي حتى لا ينسى الناس، لكن الآن لا يوجد أحد يستمع… فلمن تحكي؟"
رفع الحكواتي رأسه ببطء، وقال بصوت هادئ يحمل حكمة الحياة:"أنا أحكي الآن… كي لا ينساني الناس."
وأكدت الحكواتية أن تلك الجملة كانت أشبه بختام حكاية وبداية أخرى، فالحكواتي يحكي لأنه جزء من التاريخ، وإذا توقف عن الحكي انقطع الخيط الذي يصل الأمس باليوم وضاعت الوجوه التي كانت هنا ذات زمن.
ولذلك قيل: لا وجود لأمة بلا حكواتي، ولا وجود لحكواتي لا يعرف جذور أرضه ومسارات شعبه.
جمع المشاهدات فقط
من جانبها، تقول الحكواتية عوواش بن سعيد: "نعيش اليوم ظاهرة مؤسفة تتمثّل في دخول كثير ممن هبّ ودبّ إلى مجال الحكاية، فيقدمون أنفسهم حكواتيين دون امتلاك الحد الأدنى من مقومات هذا الفن، وقد أصبح الهدف عند بعضهم مجرد جمع المشاهدات ونيل الإعجابات، لا خدمة الحكاية ولا احترام هذا الإرث الثقافي الذي ظل عبر قرون واجهة للهوية الشعبية وذاكرة حية للمجتمعات."
مضيفة أنه لهذا السبب أصبح الجمهور يشعر بالحنين إلى الحكواتيين الحقيقيين، أولئك الذين عرفوا قديما باسم الراوي أو القوّال والذين جمعوا بين المعرفة والخبرة والأداء الفني والقدرة على أسر المستمعين.
وأكدت أن الحكاية ليست كلاما مرسلا، بل فن له قواعده وأعمدته، فهي تحتاج إلى حكواتي واسع الاطلاع، متمكن من اللغة، قادر على فهم التراث وتحليل دلالاته.
لذلك لا بد -كما تشير عوواش- من وضع أسس واضحة لهذا الفن، حتى لا يضيع بين أيدي من يحولون الحكاية إلى مجرد عرض عابر أو وسيلة للظهور.
وأضافت أنّ هذه الأسس تقوم أولا على المطالعة المتواصلة، لأن الحكاية لا تروى من فراغ، بل تبنى على معرفة بالتراث الشعبي وبالأدب والتاريخ وبطبيعة المجتمعات التي تخاطبها.
كما تقوم على التكوين الأكاديمي والثقافي؛ فالحكواتي المعاصر يحتاج إلى دراسة الكتب والتعمق فيها، وتطوير أدواته الفنية، وتعلم كيفية بناء السرد وإدارة الإيقاع وتحريك الخيال.
إنشاء مهرجانات خاصة بفن الحكاية

بدوره، يشير الحكواتي ومؤلف المسرح نذير حسين إلى أن الحكاية تؤثر تأثيرا إيجابيا في الطفل، لأنها تفتح أمامه باب الخيال، وتغرس فيه حب الوطن، وتساعده على فهم القيم الأولى التي تبنى عليها شخصيته.
ويؤكد ضرورة إنشاء مهرجانات خاصة بفن الحكاية، تشرك فيها الكتاب المسرحيون والحكواتيون معا، حتى يعاد لهذا الفن مكانته ويستعيد دوره التربوي والجمالي.
ويضيف أن الحكاية تعد فضاء رحبا يمكن للحكواتي أن يبدع فيه، لكن هذا الإبداع لا يتحقق إلا إذا امتلك مهارات أساسية، على رأسها الحس الفني الذي يمكنه من تجسيد أجواء الحكاية، وإحساسه بتحويل السرد إلى مشهد حي ينبض بالحركة والعاطفة.
ولا يكتمل دور الحكواتي إلا بخبرة حقيقية في المجال، تسمح له بفهم نفسية الجمهور، وخاصة الأطفال، وإثارة خيالهم، وتحويل الحكاية إلى تجربة ممتعة تربط الطفل بتراثه بطريقة مرحة وهادفة.
إدراج الحكواتي ضمن المؤسسات التعليمية

من جهته، أشار الحكواتي إيدير فارس إلى أن الجزائر تزخر بحكواتيين مبدعين منتشرين في مختلف ربوع الوطن، يعملون على إحياء هذا الفن وإبقائه نابضا بالحياة.
ويؤكد فارس ضرورة إدراج مهنة الحكواتي ضمن المؤسسات التعليمية والتربوية، لأن الحكاية ليست مجرد وسيلة للتسلية، بل أداة تربوية وفكرية ونفسية بالغة الأهمية. فالطفل يجد فيها متنفسا لخياله، وراحة لنفسيته، وطريقا لفهم العالم من حوله بأسلوب بسيط وعميق في الوقت نفسه ، كما تساعده على التعبير عن مشاعره، وتخفيف التوتر، وتنمية قدراته اللغوية والوجدانية.
الحكواتي بين التراث والحداثة
أما الباحث الجامعي عبد الحميد بورايو، فيشير إلى أن الحكواتي، المعروف قديما باسم المداح، لم يكن مجرد راوي يتجول لكسب رزقه، بل كان فنانا يمتلك وظيفة ثقافية عميقة، حلقة وصل بين التراث والمجتمع، وبين الذاكرة الشعبية وتجارب الناس اليومية.
وقد تمتع هؤلاء الحكواتيون بعلاقة وثيقة مع بيئتهم، فحفظوا الحكايات الشعبية واتقنوا أساليب أدائها، وعبروا من خلالها عن واقع مجتمعهم وحملوا همومه وقيمه.
مشيرا إلى أن هذا الدور لا يقتصر على الذكور ؛ إذ كان للنساء، خاصة الأمهات والجدات، دور أساسي في نقل القصص للأطفال، لتترسخ القيم الأخلاقية والسلوكيات الإيجابية ويبنى وعي الناشئة.
ويؤكد بورايو أن الحكواتي المعاصر يحتاج إلى ثقافة واسعة واطلاع على العلوم الإنسانية والتاريخ والفكر، ليتمكن من قراءة مجتمعه ومعرفة تاريخ بلاده ورموزه، وتقديم مضامينه بأسلوب واعي ومسؤول.
ومن خلال الحكاية يمكنه عرض التاريخ الوطني، ومعالجة القضايا الأخلاقية، ونقل القيم التي يتطلبها المجتمع الحديث، ليصبح فاعلا في التنشئة الاجتماعية، لا مجرد رواي للمتعة والترفيه.
التكيف مع الواقع الرقمي

من جانبه، يؤكد عميد كلية الآداب واللغات سابقا وعضو المجمع الجزائري للغة العربية، العيد جلولي، أن فن الحكواتي لا يرتبط بمجرد رواية الحكايات، بل يقوم على أسس ومعايير تجعل من صاحبه فنانا قادرا على الوصول إلى الجمهور والتأثير فيه.
وأضاف أن الموهبة والثقة بالنفس والقدرات الجسدية والصوتية والتعبيرية، إضافة إلى ملكة الإبداع، هي أساس نجاح الحكواتي.
ويرى جلولي أن الحكواتي الحقيقي يعي رسالته بعمق، ويختار قصصا من الواقع المعاصر بما فيها من أحداث وتجارب إنسانية مؤثرة ، ومع التطور التكنولوجي، يصبح لزاما على الحكواتي التكيف مع الواقع الرقمي الجديد، واستغلال الوسائط الحديثة لنشر الحكاية، بما يوسع دائرة تأثيرها ويعيدها إلى مكانتها الثقافية والاجتماعية.
في الختام، كما قال الحكواتي لغلامه: "أحكي لكي لا ينسى الناس… وأحكي كي لا أنسى أنا"، هذه هي الرسالة التي تحملها الحكاية عبر الزمن، ومع التحديات التي يفرضها العصر الرقمي، يظل الحكواتي جسرا يربط بين التراث والحاضر، ليبقى الفن الشعبي حيا نابضا.

