527
0
الجزائر تقود صوت إفريقيا في صناعة السلم والأمن القاري
مسار وهران...المنصة التي تعيد ترتيب الوعي الإفريقي وتوحيد المواقف داخل القارة

بقلم الحاج بن معمر
يمرّ العالم اليوم بمرحلة شديدة الاضطراب، مرحلة تتزاحم فيها الصراعات وتتداخل فيها المصالح وتتنافس فيها القوى الكبرى على إعادة رسم الخرائط السياسية والاقتصادية. وفي وسط هذا الزخم، تقف إفريقيا في قلب العاصفة، قارة شاسعة، غنية بالموارد، مثقلة بالتحديات، وممزقة بين إرث معقد من الأزمات ومحاولات نهوض متكررة.
وفي هذا السياق بالذات، تبرز الجزائر من جديد، عبر مسار وهران الذي أصبح منصة سنوية للحوار والتنسيق الإفريقي، لتعيد التأكيد على دورها التاريخي كـ “صوت لإفريقيا داخل إفريقيا”، وكدولة تملك من الإرث الدبلوماسي ما يجعلها مؤهلة لتكون مركز ثقل في جهود السلم والأمن.
ومع افتتاح الدورة الثانية عشرة لهذا المسار، قدم وزير الشؤون الخارجية أحمد عطاف خطابًا مكثفًا يعكس بوضوح رؤية الجزائر لمستقبل القارة، رؤية تتأسس على الواقعية السياسية من جهة وعلى الطموح الدبلوماسي من جهة أخرى، ما يجعل من هذا الحدث محطة مهمة تستحق تحليلًا معمقًا، سواء على مستوى المضمون أو على مستوى التداعيات المتوقعة.

تظهر كلمة أحمد عطاف أن القارة الإفريقية لم تعد تعاني فقط من غياب حلول، بل من غياب الاهتمام الدولي أصلًا. في مرحلة كان العالم فيها منشغلًا بأزمات أخرى، أصبحت إفريقيا خارج دائرة الضوء رغم أن بعض أخطر أزمات القرن تجري داخلها: حرب السودان، أزمات الساحل، الانقلابات المتكررة، تصاعد الإرهاب، تراجع مؤسسات الدولة، موجات النزوح، واشتداد التنافس الدولي على الموارد.
في هذا السياق القاتم، تبدو دعوة الجزائر إلى “حلول إفريقية للمشاكل الإفريقية” ليست مجرد خطاب، بل استراتيجية تسعى إلى استعادة السيادة الدبلوماسية للقارة. فمسار وهران ليس مجرد لقاءات، بل هو عملية تراكمية لتأسيس وعي إفريقي جماعي، وإعادة بناء منهج للتعامل مع الأزمات يقوم على التنسيق بدل الارتجال، وعلى الرؤية بدل رد الفعل. والجزائر، من خلال هذه المنصة، تعيد القارة إلى مربع الفعل بدل التلقي، عبر تحويل الاجتماع إلى مؤسسة فاعلة، وعبر صياغة سردية إفريقية مستقلة في مواجهة السرديات الخارجية.
الجزائر كقوة اقتراح… تحليل رؤية أحمد عطاف للأمن الإفريقي في عالم مضطرب
قوة خطاب أحمد عطاف ليست فقط في تشخيص التحديات، بل في رسم ملامح الدور الجزائري. فالجزائر تحاول استعادة موقعها الطبيعي كوسيط محايد، قادر على التأثير في مسارات السلم بالقارة.
ومن خلال استضافة مسار وهران واستقبال وفود متنوعة، تطرح نفسها كدولة تجمع بين الاستقرار الداخلي والمصداقية الدبلوماسية. وهذا ما يجعل رؤيتها قابلة للتجسيد وليست مجرد طموح.
فالدبلوماسية الجزائرية لعبت أدوارًا محورية تاريخيًا: الوساطة في مالي، دعم حركات التحرر، الدفاع عن القضايا الإفريقية في الأمم المتحدة، رئاسة لجان مكافحة الإرهاب، قيادة جهود الحوار في ليبيا، وغير ذلك من الملفات التي أكسبتها احترامًا واسعًا.
واليوم، تعود الجزائر لإحياء هذا الإرث ضمن واقع أكثر تعقيدًا، حيث يتشابك الأمن بالإرهاب، ويتداخل الاقتصاد بالسياسة، وتتشابك مصالح الدول مع مصالح الفاعلين غير الحكوميين. ولعل أهم ما يميز رؤية عطاف هو تركيزه على بناء القدرات بدل الاكتفاء بإطفاء الحرائق.
فهو يدرك أن الإرهاب لم يعد مجرد مجموعات مسلحة، بل أصبح منظومة شبكية تمولها تجارة السلاح والذهب والمخدرات، وترتبط بمراكز خارجية، ولذلك فإن الحل، كما يراه، هو في تحسين أداء الدول، وتمكين مؤسساتها، وتعزيز قدرتها على حماية حدودها ومجتمعاتها، وتطوير آليات إنفاذ القانون.
هذا الطرح، كما يراه خبراء الأمن الأفارقة مثل الدكتور الغاني "جون أديو" والجنوب إفريقي "كارل فان هيردن"، ينسجم مع أفضل التجارب الدولية في إدارة النزاعات. فهما يؤكدان أن نجاح أي سياسة أمنية مرتبط بقدرة الدولة لا بكمية الدعم الخارجي. وهذا بالضبط ما تسعى إليه الجزائر: تحويل الأمن من مسألة رد فعل إلى مشروع بناء طويل الأمد.

بين التحديات والفرص… مكانة الجزائر في هندسة الأمن القاري من الساحل إلى القرن الإفريقي
الجزائر تدرك أن القارة الإفريقية ليست كتلة واحدة، بل فسيفساء معقدة من الانتماءات والمصالحد ومع ذلك، فإنها تتحرك بذكاء في هذا المشهد المعقد. فهي ليست دولة ذات أجندة توسعية، ولا تمتلك تاريخًا استعماريًا، ولا تدخل في صراعات داخلية داخل القارة، ما يمنحها مصداقية عالية.
لكن الطريق ليس مفروشًا بالورود. فهناك دول إفريقية أصبحت مرتبطة بقوى خارجية، وهناك دول أخرى تواجه انهيارًا مؤسسيًا، وهناك مناطق فقدت السيطرة الأمنية بالكامل. ورغم ذلك، فإن الجزائر، بما تمتلكه من علاقات تاريخية ومبادئ ثابتة، تتحرك وفق ثلاثة مسارات أساسية.
المسار الأول هو تعزيز الدبلوماسية متعددة الأطراف: فالجزائر تراهن على تحويل مسار وهران إلى مؤسسة شبه دائمة تُنتج تقارير وآليات، وربما مستقبلًا مجموعات عمل متخصصة.
المسار الثاني هو الأمن الوقائي: الجزائر تملك تجربة معتبرة في مكافحة الإرهاب، وهي تعمل على نقل هذه الخبرة للدول الإفريقية من خلال التدريب والتأهيل وبناء آليات إنذار مبكر.
المسار الثالث هو العمل داخل المنظمات الدولية لإعادة ترتيب موازين القوة لصالح إفريقيا، سواء من خلال دعم مطالب إصلاح مجلس الأمن أو عبر تقديم مقاربات إفريقيا موحدة بشأن النزاعات.
ويتوقع خبراء سياسيون مثل الإثيوبي "تاديسي أماني" والسنغالي "عبدولاي جاي" أن الجزائر، في حال استمرارها بنفس الإيقاع، قد تتحول إلى قطب دبلوماسي مؤثر في القارة، لأنها تجمع بين الإرث التاريخي والقدرة الحالية على التأثير.
ويضيف هؤلاء أن ما يميز الجزائر عن غيرها هو قدرتها على لعب دور “الوسيط النزيه”، وهي صفة نادرة في زمن تتداخل فيه الجيوسياسة مع المصالح الاقتصادية والعسكرية.
مشروع الجزائر الجديد… نحو بناء نظام أمني إفريقي مستقل وفاعل ومؤثر عالميًا
لا يمكن قراءة كلمة أحمد عطاف إلا باعتبارها إعلانًا واضحًا عن ميلاد مرحلة جديدة في الدبلوماسية الجزائرية تجاه إفريقيا، مرحلة تقوم على فكرة أن مستقبل القارة لا يمكن أن يُصنع إلا من داخلها.
فالجزائر تسعى إلى هندسة نظام أمني جديد، يقوم على ثلاثة أعمدة مركزية: العمود الأول هو الاستقلالية السياسية، عبر تقليص الاعتماد على القوى الخارجية، وتطوير آليات داخلية لإدارة الأزمات.
العمود الثاني هو تحويل مسار وهران إلى مركز تفكير استراتيجي، يُنتج المعرفة، ويحلل النزاعات، ويقدم توصيات عملية.
العمود الثالث هو بناء قدرات الدول الإفريقية في الأمن والحوكمة والتنمية.
هذا المشروع، إذا جرى تطويره وتثبيته، قد يجعل من الجزائر عنصرًا فاصلًا في إعادة تشكيل الأمن الإفريقي. فالقارة تحتاج اليوم إلى قيادة عقلانية ومسؤولة، وإلى دولة تجمع بين قوة الاقتراح وحكمة التجربة.
والجزائر، بما تمتلكه من خبرة سياسية وعمق تاريخي ورصيد دبلوماسي، مؤهلة للعب دور مركز الثقل في هذا المشروع. وإذا تحولت رؤية عطاف إلى خطة عمل مستدامة، فإن مسار وهران لن يكون مجرد منصة للحوار، بل سيكون نواة لنظام إفريقي جديد، مستقل، متوازن، ومؤثر في النظام الدولي.
هذه ليست مجرد طموحات، بل هي ممكنات واقعية إذا استمرت الجزائر في الاستثمار في هذا المسار، وبنت تحالفات عميقة، واستثمرت في القدرات الإفريقية، وربطت الأمن بالتنمية، والسياسة بالاقتصاد، والوساطة بالمؤسسات.
وهنا يكون مستقبل إفريقيا قد بدأ يتشكل بأيدٍ إفريقية، وتكون الجزائر قد وضعت حجر الأساس لنظام قاري جديد أكثر ثباتًا وتأثيرا.

