208

0

الجزائر تُدوّن منعطفاً تاريخياً في الوعي الإفريقي: مؤتمر تجريم الاستعمار يُنهي عهد الصمت ويفتح عصر الذاكرة والعدالة والسيادة

 

بقلم الحاج بن معمر

في يوم 01 ديسمبر 2025، اختُتمت بالجزائر العاصمة أشغال المؤتمر الدولي حول “جرائم الاستعمار في إفريقيا: نحو تصحيح المظالم التاريخية من خلال تجريم الاستعمار”، وهو حدث غير مسبوق في مستواه السياسي والفكري والقانوني، شارك فيه وزراء خارجية الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي، وممثلون عن برلمان عموم إفريقيا، وخبراء ومؤرخون وقانونيون، إضافة إلى وفود من منطقة الكاريبي (CARICOM).

 

وقد خرج المؤتمر بإعلان الجزائر، وهو وثيقة تاريخية ينتظر اعتمادها نهائياً خلال القمة الإفريقية في فيفري 2026، لتكون أول إطار قاري رسمي يضع جرائم الاستعمار في سياقها الحقيقي، ويطالب بوضوح لا لبس فيه بتجريمها دولياً ومحاسبة مرتكبيها.

هذا المؤتمر لم يكن مجرد اجتماع بروتوكولي، بل لحظة فارقة في وعي القارة، خطوة شجاعة لكسر صمت طويل دام عقوداً، ودخول عهد جديد عنوانه الذاكرة، الحقيقة، والعدالة. فقد تحوّلت الجزائر خلال يومين إلى منصة كبرى أعادت إفريقيا من خلالها الاعتبار لتاريخها المسلوب، ورفعت صوت الضحايا الذين لم يُنصفوا بعد، وفتحت أبواباً سياسية وقانونية لإعادة كتابة تاريخ القارة بعيون إفريقية خالصة، بعيداً عن التزوير والتجميل والتستر الذي مارسته القوى الاستعمارية القديمة لسنوات.

ومن خلال “إعلان الجزائر”، أصبحت أفريقيا تمتلك لأول مرة وثيقة مشتركة متينة، تتحدث باسمها، وتحدد رؤيتها لمعالجة الجروح التاريخية التي خلّفها الاحتلال، وتضع مساراً قانونياً للتعامل الجدي مع ملف الاستعمار بكل أبعاده: الذاكرة، الاعتراف، العدالة، التعويض، استرجاع الممتلكات، وإصلاح الأضرار الاقتصادية والبيئية والاجتماعية.

وقد جاء المؤتمر متناغماً مع شعار الاتحاد الإفريقي لسنة 2025: “العدالة للأفارقة وللمنحدرين من أصل إفريقي عبر جبر الأضرار”، وهو الشعار الذي دفعت الجزائر بقوة لاعتماده، وتعمل اليوم على تمديده ليُشكّل إطاراً قادراً على توجيه عمل الاتحاد الإفريقي لعشرية كاملة (2026–2035)، حتى لا يبقى موضوع جبر الأضرار مجرد عنوان مرحلي، بل يتحول إلى برنامج سياسي وقانوني طويل المدى.

“إعلان الجزائر” كان شاملاً، دقيقاً، عميقاً، ويعكس تحوّل إفريقيا من موقع الدفاع إلى موقع المبادرة، ومن انتظار اعتراف الغير إلى فرض حقها في العدالة، ومن الانقسام إلى توحيد الصوت القاري لأول مرة حول قضية حساسة بهذا الحجم.

وقد حمل الإعلان رسائل مباشرة وواضحة للعالم: إن زمن الصمت انتهى، وإن القارة لم تعد تقبل بأي تسويات تجميلية أو اعترافات رمزية لا ترتبط بمحاسبة حقيقية.

لكن قبل الغوص في مضامين الإعلان، يجب التأكيد أن الجزائر كانت القلب النابض للمؤتمر، ليس فقط لأنها استضافته، بل لأنها قادته سياسياً ودبلوماسياً وفكرياً، وقدّمت له الإطار الأخلاقي الذي يستمد شرعيته من تجربة ثورة تحريرية هزّت العالم، ومن تاريخ مقاومة يُعتبر النموذج الأكبر الذي ألهم الشعوب الإفريقية للتحرر.

وقد تركّز جوهر المؤتمر، كما جاء في إعلان الجزائر، في أربعة محاور أساسية تُشكّل عمق التحوّل الإفريقي الجديد. أول هذه المحاور كان محور الذاكرة والحق في الحقيقة، حيث أكد الإعلان أن كل الشعوب الإفريقية تعرضت لجرائم ممنهجة: الإبادة، السخرة، التهجير، التعذيب، المحو الثقافي، تدمير الهوية، واستنزاف الثروات.

الإعلان شدد على أن حفظ الذاكرة ليس ترفاً رمزياً، بل حق سيادي، وأن كتابة تاريخ إفريقيا يجب أن تتم بأقلام أبنائها، لا بأقلام القوى التي ارتكبت الجرائم. ودعا الإعلان إلى إنشاء أرشيف رقمي قاري، وإعادة صياغة المناهج التربوية، وبناء المتاحف والمراكز البحثية، وتشجيع الإنتاج المعرفي والفني المتعلق بفترة الاستعمار.

وقد ظهر الدور الجزائري هنا بوضوح، من خلال تجربتها في حماية الذاكرة الوطنية ومواجهة محاولات تبييض جرائم الاستعمار الفرنسي، إضافة إلى مبادراتها السابقة لاسترجاع جماجم الشهداء والوثائق التاريخية.

كما أكد الإعلان تضامن إفريقيا مع كل الشعوب التي ما تزال تحت الاحتلال اليوم، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، في رسالة سياسية قوية تُعيد رسم خريطة المواقف المدنية والإنسانية للقارة.

المحور الثاني كان محور العدالة والقانون، وهو قلب التحوّل التاريخي الذي جاء به الإعلان. فإفريقيا انتقلت من مجرد التذكير بالجرائم إلى المطالبة صراحة باعتبار الاستعمار جريمة ضد الإنسانية وجريمة إبادة تستوجب المحاسبة الدولية.

الإعلان دعا إلى تفعيل آليات محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وإنشاء آليات قانونية قارية للتعامل مع ملف الاستعمار، وإعداد قوانين نموذجية واتفاقيات خاصة بمحاسبة الدول التي مارست الاحتلال.

كذلك جاء الإعلان منسجماً مع جهود الجزائر داخل الأمم المتحدة للدفع نحو اعتراف دولي بجرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، غير أن المؤتمر أعطى للمعركة بُعداً قارياً، لا وطنياً فقط.

أما المحور الثالث، فقد كان ملف التراث الثقافي المنهوب، وهو من أكثر الملفات حساسية. فقد نهبت القوى الاستعمارية ملايين القطع الأثرية والمخطوطات والجماجم والمقتنيات النادرة، وما تزال الكثير منها محتجزة في متاحف أوروبية. إعلان الجزائر أقرّ بأن استرجاع التراث حق غير قابل للتفاوض، ودعا إلى آليات تعاون ملزمة، وإلى تعزيز الإطار القانوني الإفريقي لحماية التراث، ودعم مشروع “المتحف الإفريقي الكبير”.

وقد بدا التأثير الجزائري واضحاً، بالنظر إلى المعركة التي تخوضها الجزائر منذ سنوات لاستعادة جماجم الشهداء، والمخطوطات، والقطع الأثرية من فرنسا.

المحور الرابع تناول الأبعاد الاقتصادية والبيئية للاستعمار، وهي الأبعاد التي ظلت لسنوات تُطرح بخجل رغم أنها الأكثر تأثيراً على حاضر القارة.

الإعلان أكد أن الاقتصاد الإفريقي اليوم يعاني من تشوهات متوارثة عن الحقبة الاستعمارية، وأن الكثير من أنماط الهيمنة الحالية ليست سوى استمرار للاستعمار بشكل آخر. ودعا الإعلان إلى تدقيق شامل للأضرار الاقتصادية التي لحقت بالقارة، والمطالبة بالتعويض، وإلغاء الديون، وإصلاح النظام المالي الدولي بما يضمن العدالة للدول الإفريقية.

كما تضمن الإعلان مطالب واضحة بخصوص معالجة آثار التجارب النووية، خاصة التجارب التي قامت بها فرنسا في الصحراء الجزائرية (رقان وإنكر)، وما خلفته من تلوث بيئي وتشوهات صحية لا تزال آثارها قائمة. لقد برز الدور الجزائري بوضوح في كل محور من هذه المحاور، فالجزائر لم تكن مجرد مستضيفة، بل كانت القاطرة التي قادت إفريقيا نحو لحظة الحقيقة. فهي الدولة التي أسست تاريخياً لمبدأ التحرر، وتواصل اليوم الدفاع عن القيم نفسها، وقد صاغت الجزائر رؤية المؤتمر، ودفعت بمضمونه داخل الاتحاد الإفريقي، ومنحته الشرعية السياسية عبر رعاية رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، وحولته من نقاش نخبوي إلى موقف قاري موحد.

ومع اختتام المؤتمر، أصبح “إعلان الجزائر” نقطة تحول حقيقية: أول وثيقة قارية تُعرّي الاستعمار دون مجاملة، وتطالب بعدالة صريحة دون خوف، وتُعيد تعريف علاقة إفريقيا بتاريخها وبالعالم.

إنه إعلان يؤسس لبناء وعي إفريقي جديد، يربط بين الماضي والحاضر، ويجعل من الذاكرة قاعدة للسيادة، ومن العدالة ركيزة للنهضة. وباعتماد هذا الإعلان مستقبلاً داخل الاتحاد الإفريقي، تكون القارة قد دخلت مرحلة جديدة، مرحلة ما بعد الصمت وما بعد التبرير وما بعد انتظار اعتراف الآخرين.

مرحلة تفتح فيها إفريقيا، بقيادة الجزائر، معركة تاريخية كاملة من أجل كرامتها وحقها في الحقيقة. ومع هذا الإعلان، تقول إفريقيا للعالم بصوت واحد: لن ننسى، لن نسامح دون اعتراف، ولن نصمت حتى يُجرّم الاستعمار كما جُرّمت كل الجرائم الكبرى في التاريخ. 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services