573
0
الى المفطرين قبل المغرب، و المتسحرين بعد الصبح: أين الفهم الصحيح والإلتزام الصريح ؟
|
بقلم محمد مصطفى حابس : جينيف / سويسرا
كتبت العام الماضي في مثل هذا الوقت من بداية رمضان الكريم، مقالا مقتضبا بعنوان : "رمضان بين الدين والسياسة : الصيام وكورونا والحرب"، حيث شرحت أن موائد الإفطار الرمضاني، باتت تقليداً سياسياً سنوياً حتى في الغرب، معرجا على الصيام أيام كورونا والحرب الأكرانية الروسية، وتأثير مخلفات جائحة كورونا على الاقتصاد الدولي وكذلك الحرب الروسية أوكرانية التي شلت التجارة في هذه البلدان من أوروبا الشرقية، وأقحمت في حربها حتى شخصيات ودول تزعم أنها إسلامية سلمية.. !!
لا علينا، لكنني افتتحت المقال - سالف الذكر - بقصة طريفة حزينة يعرفها العام والخاص من المسلمين، نقلا عن مجلة "جون أفريك" التي كان يشرف عليها الكاتب والوزير التونسي الأسبق بشير بن يحمد (1928-2021)، الصحفي المعروف ومؤسس مجلة "جون أفريك" الدولية المتخصصة في الشؤون الأفريقية، حيث كان في ستينات القرن الماضي بن يحمد كاتب دولة للإعلام أيام الرئيس الحبيب بورقيبة فاستقال بعد خلاف معه، وكرّس جل جهده للعمل الصحفي، ولمتابعة مجموعة "جون أفريك".
و المقال بالفرنسية موقع بقلم الكاتب عزيز معروف، بتاريخ 3-9 فيفري 1964، يطرق صاحبه لحادثة إفطار الرئيس بورقيبة علنا أمام الناس في بداية ستينات القرن الماضي، وهو أمر لا يتصور شهوده في بلد إسلامي يومها، ذلك ما ذهب اليه منذ عقود، العديد من الملاحظين والمحللين ، أيامها كانت الجزائر خارجة لتوها من ثورة شرسة بينها والمستعمر البغيض أتت على الأخضر واليابس، فكتب أحدهم معلقا على الحادثة بقوله تحت عنوان، "في الجزائر الإسلام في صميم السياسة"، حيث نشرت مجلة "المسلمون" العريقة، في صفحات 88-90 من العدد السادس، المجلد الثامن، شوال 1383/ مارس 1964، الصادرة عن المركز الإسلامي بجنيف بسويسرا، نقلا عن صحيفة "افريقيا الفتاة" التي كانت تصدر بالفرنسية من تونس، في عددها الصادر بتاريخ 3 شباط/ فبراير 1964.
Aziz Maarouf, ''En Algérie l'islam est au cœur de la politique'', article de Jeune Afrique, no 169, 3-9 février 1964
والشائع والمتداول عن مجلة " المسلمون" العريقة التي كان يصدرها المركز الإسلامي بجنيف، ان كل المقالات التي لها صلة بالجزائر وأخبارها ودول المغرب العربي عموما، كان يحررها أو يختارها أو يترجمها شيخنا العلامة محمود بوزوزو - رحمه الله - (1918-2007)، الإمام المعروف من تلاميذ العلامة بن باديس وجمعية العلماء المسلمين، باسمه تصريحا أو تلميحا، وأحيانا باسم "قلم التحرير"، حيث كتب الشيخ بوزوزو ، رحمه الله يقول: نترجم هذا المقال الذي يحمل عنوان "في الجزائر الإسلام في صميم السياسة" دون تعليق! : " في مدينة تونس العاصمة، كان على الرئيس بورقيبة أن يلقي خطابا أمام المسؤولين في اليوم الثالث عشر من شهر رمضان. فأمر أن يعدوا له على منبر الخطابة كأسا من عصير البرتقال، وكان ذلك في الساعة العاشرة صباحا، وتناولها أثناء خطابه أمام جمع لا يقل عن ألف شخص وتحت أضواء آلات التصوير.
إن منظرا كهذا، منظر الإفطار في شهر الصيام المقدس من طرف رجل دولة و علنا، لا يتصور شهوده في الجزائر العاصة. ففي هذه المدينة لا بد من التماشي مع القواعد الدينية. ولا يعني ذلك أن الجزائريين كلهم يؤدون فريضة الصوم ، غير أنهم بارعون في الاشعار بذلك. اذ لا يتجرأ أحد على التدخين في الشارع أو الدخول الى مطعم قبل أوان الإفطار، وحتى المثقفون والعصريون الذين كانوا في العام الماضي (أي أثناء الاستعمار) يتناولون طعام الغداء علانية، يجب عليهم في هذه السنة أن يسايروا التيار. لماذا؟.. فرد الكاتب بقوله:" إن هذا السلوك يعبر في الواقع عن حالة سياسية، فقد ظهر تيار إسلامي قوي يشجعه البعض ويؤيده آخرون. وهو يزداد كل يوم بروزا . ومن الواضح أن الإسلام ليس جديدا في الجزائر، ولكن الأمر الذي يستلفت الأنظار في الأسابيع الأخيرة هو أن يكون له ظهور سياسي (ممكن يقصد بذلك التحضير لتأسيس جمعية القيم أو التحضير لمؤتمر جبهة التحرير).
"يجب علينا أن نرجع بوضوح للإسلام والقيم الدينية"
مضيفا بقوله :"ومنذ عشرة أيام تقريبا وقع اجتماع، وهو الأول من نوعه، شارك فيه بضع مئات من أولئك الإسلاميين الجزائريين تحت اشراف محمد خيضر. وقد اعلن المجتمعون عن سخطهم على الملحدين وعلى أعداء الإسلام. فهل هذا يؤذن بطلوع شبح " الاخوان المسلمين" في الجزائر؟ وعلى كل حال فإن رد الفعل قد كان سريعا إذ في الوقت نفسه قام جمع من اليساريين فيهم شبان مثقفون ينتمون الى مختلف الاتجاهات السياسية وأساتذة، ورجال علم، فنشروا بيانا شديد اللهجة وصف فيه "هذا الموقف بأنه معاكس للروح الثورية، وأنه خلط بين السياسة والدين.." من جهتها ترى لجنة اعداد مؤتمر جبهة التحرير الوطني، تصادما بين أعضائها، فمنهم من يقول "يجب علينا أن نرجع بوضوح للإسلام والقيم الدينية"، بينما يفضل أخرون أن يقع التأكيد على الثقافة العربية الإسلامية مع التحذير بأن إدخال المراجع ذات الصبغة الدينية قد يؤدي سريعا الى دفاع متزايد من حقوق الملكية، وهي نظرية لا تتفق أصلا والاشتراكية التي وقع عليها الاختيار ..
"وفي أثناء ذلك، لا يزال الجيش الذي يعبر عن آرائه بانتظام في نشرته الشهرية (الجيش) محتفظا بمواقفه مطالبا بأن يوضع في المناصب الرئيسية رجال مخلصون أشداء، وقد كتبت مجلة (الجيش) تقول "لا تزال تهديدات تحوم على ثورتنا ومكتسباتها. فان هناك رجالا يقومون بمناورات في الخفاء مستغلين نقصنا وتناقضاتنا. وأن عددا كبيرا من هؤلاء الرجعيين والمستغلين يوجدون في حضن أجهزتها الادارية والسياسية.
حادثة إفطار بورقيبة هذه " المقززة"، بقيت على مر التاريخ ، نقطة سوداء في تاريخ من كان يسمى نفسه " المجاهد الأكبر"، والتي رد عليها، ايامها العلماء والكتاب في تونس وحتى عامة الناس و مثقفيهم في عالمنا الاسلامي، وكذا المناوشات بين السياسيين الجزائريين في بداية الاستقلال، إلا أن علمانيو الجزائر، لم يجرؤوا على الإفطار علنا، وحتى أثناء الثورة، كانوا كثيرا ما يلتزمون ولو شكليا باحترام الصيام! وما "بدعة"، امتناع بعض "المستقورين" منهم عن شرب الخمور أربعين يوما قبل مجيء الشهر الفضيل، عن المبصرين ببعيد..
المسلمون الصائمون يتوارون عن الأنظار في أوروبا، بينما لاجئوهم يفطرون جهارا نهارا:
يرتفع عدد المسلمين في أوروبا عقداً بعد الآخر، بسبب التكاثر أو التوسع الديموغرافي، وبسبب الهجرات المتواصلة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي نحو القارة العجوز، هرباً من الحروب، وبحثاً عن حياة كريمة تحترم الإنسان وحقوقه، أو بقصد التمدرس في جامعاتها، لكن الاحصائيات الرسمية تقول أن عدد الصائمين منهم في الشهر الفضيل يعد على الأصابع، منهم من يخاف أن يعلن على الملأ أنه صائم ومنهم من يخفي صيامه، ومنهم من يظهر أن الامر لا يعنيه البتة، ولا يصوم عِلما أنه مسلم أبًا عن جد..
ومنذ عام 2011 مع بدء ثورات ما يسمى بـ "الربيع العربي"، ومن ثم الحروب الكثيرة التي تلته، سواء في سوريا واليمن وليبيا والسودان والصومال وإثيوبيا وإريتريا، أو في أنحاء شمال أفريقيا، واضطهاد مسلمي الروهينغا بميانمار والإيغور في الصين، من ثم الانسحاب من أفغانستان، ارتفع عدد المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين إلى أرقام عالية جداً، وقفت أمامها أوروبا في حيرة كبيرة، ووقفت معها أيضا مؤسساتنا الإسلامية في حيرة كبرى مماثلة، "خاصة أمام هذه الأفواج الجديدة من اللاجئين التي همها الدنيا، ولا يعرفون للمسجد سبيلا الا لأخذ الإفطار منه مجانا والتهامه قبل اذان المغرب في الحدائق والمنتزهات المجاورة "، على حد تعبير بعض المشرفين على موائد الإفطار في مساجدنا ..
صنف جديد من المتفيهقين، المفطرين قبل المغرب، والمتسحرين بعد الصبح
من هذا الصنف الذين عاناهم الرسول صل الله عليه و سلم في حديثه :"
''وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي فِي الآخِرَةِ مَسَاوِيكُمْ أَخْلاَقًا الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ [حديث]
من هؤلاء الذين يطلعون علينا من عام لآخر بفتاويهم المشبوهة، بصيحاتهم هنا وهناك يريدون أن يفهموا العالم رغم صغر سنهم وتجاربهم، بل وضعف حجتهم وقلة علمهم وانعدام حيائهم، أن مواقيت صلاتنا وصيامنا خاطئة وحتى وجهة قبلتنا خاطئة ، و أن رزنمات مواقيت الصلاة المتداولة في دولنا العربية والغربية غير صحيحة وبها أخطاء حسابية فيما يخص مواقيت الإمساك والسحور خاصة ؟؟
و للرد عليهم تعجبني دراسة زودني بها أستاذنا الدكتور وليد شاويش عميد كلية الفقه المالكي ، جامعة العلوم الإسلامية العالمية، عمان، بالممكلة الأردنية، نقتبس منها بعض القطوف، ردا على هؤلاء من طرف عالم مختص، حيث بين بقوله:"
ما زلنا نسمع بأن بعض الشباب يعتقدون أن ثمة أخطاء مؤكدة لهم في أوقات الأذان، ولكنها بالنسبة للأمة أوقات صحيحة، لها مرجعيتها الفلكية العلمية، ولها أيضا مرجعيتها الشرعية، بالإضافة إلى أنها أوقات مقررة من الجهة المعتمدة في شأن أوقات الصلاة، وهي وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، ولكن هؤلاء الإخوة يجاهرون بالإفطار في غير وقته، اعتمادا منهم على روايات تزعم وجود خطأ في توقيت الغروب والصبح، ومن باب الصدع بالحق في نظرهم فإنهم يجاهرون بالإفطار مخالفين جماعة المسلمين، متابعين لما يرونه صوابا.
أولا: لا بد من اجتماع الخبرة الشرعية والفلكية لتحديد أوقات العبادة
لمعرفة وجه الصواب شرعا في هذا الموضوع، لا بد من بيان النقاط الآتية
1-علامات دخول الصبح، وهو الفجر الصادق، الذي يظهر ممتدا (مستطيرا) في الأفق بياضا مُشْرَبا بحُمرة.
2-لا عبرة بوجود التلال والوديان، والعمارات، بل العبرة بطلوع الصبح على المنطقة، مقدرة بأنها مفتوحة على بعضها.
3-يكون الغروب بسقوط حاجب الشمس العلوي في الأفق، وهذا السقوط مقدر أيضا بالبلد، وليس الغروب عمن يسكن في سفح جبل، أو في إحدى الطوابق السفلى أو العليا، والساكنون في أعلى البناية، كمن يسكن أسفلها، فليست العبرة بغياب الشمس عن الشقة سفلى كانت أوعليا، فهذا فارق غير مؤثر، بل العبرة بالغياب عن البلد.
4-يتعذر مشاهدة الغروب والصبح في داخل المدن بسبب ارتفاع البنيان، وقد تكون الإضاءة في المدن، معيقا آخر من رؤية هذه الظواهر الطبيعية بشكل واضح، وقد يخفى ذلك على المختصين، فكيف بمن لا عناية لهم بالفلك أصلا.
5-بناء على الضوابط الشرعية، يقوم الفلكي المختص بدراسة هذه الأوقات وغيرها من أوقات الصلوات الخمس، بناء على الضوابط الشرعية.
6-لا بد أن يكون الخبراء الشرعيون والفلكيون معروفين بأسمائهم، وخبراتهم الكافية، وأن يكون ذلك معلَنا للمسلمين، وهذا جزء من الشفافية والصدق في البيان عن الشرع، وحق للأمة لأنها هي المراقب للجميع في جميع شؤونها.
7-لا عبرة بقول كل من ليس مختصا بهذا الشأن، ولم يشهد له في ذلك من أهل الاختصاص.
8-لا عبرة بأي نقل عن غير المختصين في هذا الشأن، فالدِّين لا يبنى إلا على علم، والعلم لا يعرف إلا من جهة علمية موثوقة، وتعلن ذلك مكتوبا ومرئيا، ولسنا معنيين بأخبار القصاص الذين لا تتضح مصادرهم، وينقلون عن مجاهيل.
9-العمل بالاستصحاب، بإبقاء ما كان على ما كان وهو العمل بالتوقيت الحالي المعتمد لدى وزارة الأوقاف حتى يثبت عكس ذلك بشهادة المختصين، وتتحمل المؤسسات الدينية المختصة اتخاذ القرار المناسب بالتعديل أو عدمه، بناء على تقارير لجان الخبرة الشرعية والفلكية، وهي في ذلك مؤتمنة على دين الله تعالى.
ثانيا: ماذا يفعل الخبير الحاذق الذي تيقن خطأ التقويم الرسمي؟
1- مسألة مشابِهة في الفقه المالكي
أ- فكما أن الشاهد الذي رأى هلال رمضان، ولم يحكم الحاكم بالصوم على رؤية ذلك الشاهد، فإنه يجب على الشاهد أن يصوم في خاصة نفسه فقط، ولا يعلن ذلك أبدا، لأن الشاهد يجب عليه أن يقدم القطع وهو رؤيته الحسِّية لهلال رمضان على قرار الحاكم الذي لم يحكم بالصيام لعدم عدالة الشاهد، لأن قرار الحاكم عندئذ ظني، والقطعي في حق الشاهد مقدم على الظني في حق الحاكم، ولكن يحرم على الشاهد الخروج على الجماعة، والمجاهرة بالصيام لأن القطعي في حقه ليس قطعيا في حق الأمة، بل الأمة تكمل شعبان ثلاثين استصحابا للأصل وهو بقاء شعبان
ب- وكذلك الحال في حق شاهدٍ آخر رأى هلال شوال، ولم يحكم الحاكم بشهادته، وأكملَت الأمة صيام رمضان ثلاثين يوما، فإن ذلك الشاهد يحرم عليه أن يصوم، لأنه بالنسبة إليه يوم عيد قطعا، وصيام يوم العيد حرام، فعليه أن يبقى ممسكا، لا صائما، حتى لا يخالف الجماعة، ولكنه مفطر في العيد، ومحافظ على الجماعة، ولزوم الجماعة واجب من أعظم واجبات الإسلام، خصوصا في زمان الفُرقة والشقاق في الدين، الذي يظهر على بعض المسلمين هذه الأيام، ولا ينبغي للمسلمين أن يتهاونوا مع مظاهر الفرقة والشقاق، وعليهم التعويل على الإجماعات الفقهية والأصولية، لنزع فتيل الخصومة في الدِّين.
2- مراعاة سَنَن الاجتهاد في الفقه الإسلامي
وعليه؛ فإن ذلك المجتهد في الفقه أو الفلك، إذا تبين له خطأ التوقيت على سبيل القطع، فإنه يعمل باجتهاده وبصمت، ولا يُظهِر ذلك على الناس ولا يدعو إليه، حتى لا يشق عصا المسلمين في صلاتهم وصيامهم، لأنهم معذورون عند الله تعالى في اتباع المجتهدين والخبراء الذين وضعوا التقويمات، التي تم اعتمادها على وفق أصول الشريعة، فكما أن احتمال الخطأ وارد على الجميع، إلا أن اعتماد الحاكم ممثَّلا في الدائرة المختصة حاسم للاحتمال، وحكم الحاكم يرفع الخلاف، ويجب العمل بالتقويم المعتمد، وإن كان ظنيا لا قاطعا، وذلك كما لو حكم حاكم بوجوب الصيام، بناء شهادة شاهدين وهي ظنية باتفاق، فعندئذ وجب الصوم، ولا عبرة بالاحتمالات النادرة
ثالثا: ماذا يجب على عامة المسلمين؟
1- بناء على ما سبق فإن على عامة المسلمين وجوب العمل بالتوقيتات المعتمدة من الخبرة الفلكية والشرعية، والقرار المتَّخذ من جهة المؤسسة صاحبة الاختصاص باعتماد التقويم، أما الحكايات والقصص المتداولة، فهي هدْر لا قيمة لها في دين الله تعالى، ولا يجوز لأحد من العامة بحال من الأحوال أن يخالف التقويم، سرا ولا جهرا، لأنهم متعبدون باتباع العلماء والمختصين من الفلكيين، وطاعة الحاكم فيما لم يعص الله تعالى فيه.
2- والعامة غير قادرين على تمييز الأوقات صبحا وغروبا وغيرها، وتعبدهم الله تعالى بسؤال أهل الذكر فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، ويحرم على العامة متابعة الخبير المختص الذي يجب عليه العمل بعلمه في خاصة نفسه فقط، وعلى الجميع أن يعلموا يقينا أن أمتنا ليست ضالة في وقت صلاتها ولا صيامها، ولزوم الجماعة فرض من فرائض الدين، وإن تابع كل واحد من العامة رأيه في الرؤية والصلاة، فهذا يعني أن الدين الجامع لنا تم تحويله إلى سبب للشقاق في الدين، والسُّنة بريئة من هذا.
رابعا: خطأ فادح في تحقيق حكم الغروب و الصبح خصوصا
1- عندما تسمع بأن أحد الشباب في أحياء عمان المكتظة بالبناء، صعد إلى سطح البناء ليبلغ بعينيه مغرب الشمس، وما هو ببالغه، لأن ارتفاع البنيان والجبال والوديان، تمنع رؤية الأفق، ثم ينزل بعد ذلك فيفطر لأن الشمس غربت عن بيته، أو عن حيِّه، ويتوهم أن الغروب قد تحقق، فأضاع صومه لأنه تعدى على الشرع، ولم يسأل أهل الذكر، وفارق الجماعة. 2- فكانت عقوبته عاجلة في الدنيا، وهو إبطال صومه، لأن الجهل ليس عذرا، ونحن أمام حالة من الجهل تتجاوز الجهل الخاص، إلى تسفيه جماعة المسلمين، واتهامها في دينها، والتعدي عليها بالمفارقة، وفي ركنين من أركان الإسلام عظيمين، هما: الصلاة والصيام
3- وإذا كان هذا الخطأ الفادح في الغروب الواضح، في علامته بغروب الشمس، ولكنه ظن غروبه عن حيه أو بيته، فكيف بمراقبة الصبح التي تحتاج إلى مزيد خبرة وعناية، ثم يأكل ذلك الشاب بعد أذان الصبح، مع أنه ليس من أهل التوقيت والخبرة في الأمر، وهجر جماعة المسلمين
خامسا: لا جدلية بين الدين والسياسة عند فقهاء أهل السنة
من الملاحظ سابقا كيف أن فقهاء أهل السنة يرتبون بيتهم من الداخل، وذلك بمراعاة أهل الاختصاص وأقوالهم في شؤونهم، فقد تم إلزام الشاهد الوحيد على رمضان بالصيام في خاصة نفسه دون إعلان، مراعاة لحالته الخاصة، وأنه متيقن أنه في رمضان، وكذلك حال الشاهد الذي أوجبوا عليه الإمساك يوم العيد، لأنه يحرم صيامه، ومراعاة لجماعة المسلمين، فحافظ الفقهاء على بالأمر بالإمساك على ما يأتي :
1-خصوصية الشاهد في نفسه، وأنه متيقن أنه في يوم عيد.
2-المحافظة على شعائر الدين بتحريم الصيام في يوم العيد، فحرموا عليه نية الصيام.
3-حراسة جماعة المسلمين.
4-عدم وضع المسلم في تناقضات الفرد والجماعة، فحافظوا على الجماعة وخصوصية الفرد معا.
5-لم يحملوا المسلم قهرا على انتهاك حرمة الشهر ويوم العيد، وعلَّموه في الوقت نفسه أن الشرع والجماعة مجتمعان لا مفترقان.
6-القضاء على الغلو في الدين، من الذين يريدون أن يبالغوا في التحري للغروب والصبح، فوقعوا في التحلل من الدين والجماعة، وأفسدوا صيامهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
7-تعتبر مخالفة الجماعة شذوذا في الدين، فقها وسياسة، وهذا الخلاف لا عذر فيه لأحد، لأنه ليس من أهل الاجتهاد، بل رد الاجتهاد المعتبر جهلا وعدوانا.
سادسا: استخدام التدين المزيف في تفكيك المجتمع الإسلامي
فكما أن اتباع السنة ولزوم الجماعة من أوجب واجبات الدين، فإن مفارقة الجماعة هي جرس الإنذار على مفارقة السنة والجماعة، ومع الأسف فإنك تستطيع أن تصلح بين دولتين متحاربتين، وبين عشيرتين متخاصمتين في أرض ودم، إلا أن من الصعوبة بمكان أن تجمع بين المتفرقين في الدين، لأنهم يتفرقون في الدين - في ظنهم- لوجه الله تعالى، لا يريدون على فرقتهم جزاءا ولا شكورا، ذلك أن عندهم إسرافا في الجزئي الفقهي وضياعا في كليات الشريعة و إجماعاتها، لذلك كانت بعض الجماعات الدينية - مع الأسف- تعاني من الفرقة فيما بينها أشد من الفرقة بين الدول، وقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) سورة الأنعام.
ويبقى صيام رمضان، تربية و مجاهدة وزاد وسلوك:
رغم كل ذلك يبقى صيام رمضان، مجاهدة نفس وتربية جوارح وزاد طريق وسلوك ناسك متعبد.. وهذا هو الصيام بمعناه العام وهو الاعتراف بنعمة الله تعالى على خلقه، حينما يختبرهم بوقت بسيط محدد لكي يخفضوا جناح الرحمة لبني جنسهم.
وإذا كان الصيام يستلزم منا الإمساك عن شهوتي الأكل والشرب فليس هذا هو المقصود لقبولية الصيام كما ورد في الحديث (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)، بل إنه قتل لجميع الشهوات التي تحرك الإنسان كالقوة والتهور، والغرور والغضب والأنانية، والعلو على الغير بغير حق، هذه مرتبة من المراتب التي يجب على الصائم أن يلتزم بها ويتأدب بآداب الصوم، وأن يجند جميع جوارحه الباطنية والخارجية حتى يصير المسلم مسلمًا حقًا.. فعلى المسلم أن يمسك يده عن الإيذاء والتعدي وتناول المحرمات وأن يجند رجله ويصونها عن المشيء والسعي في الإفساد والتخريب، وكل ما يغضب الله، وأن يمسك لسانه عن اللغو والإيقاع بين الناس والغيبة والنميمة وإفشاء الأسرار سواء كانت تمس حياة الأفراد مع بعضهم أو تمس حياة الأمة وحياة الوطن باعتبار الإنسان لبنة حية في وجوده.. وبالجملة، فعلى الإنسان صون الجوارح كلها عن إتيان المحرمات، وفي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الصوم جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، وأن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم).
فالصوم كفاح وجهاد مستمر يكون المسلم فيه في حياة روحانية ربانية صافية قائما لربه، قانتًا لمولاه معترفا بنعمة ربه عليه، خالصًا لله؛ لأن الله تبارك وتعالى هو الذي تكفل بإعطاء الأمر والجزاء لأنها حالة منفردة بين الإنسان وربه لا يشاركه فيها مخلوق وهي أيضًا خالية من الرياء والمباهاة حينما يختلي الإنسان بينه وبين نفسه فيزداد تمسكًا وصبرًا وثباتًا لكي يقضي يومه في صلاة وقراءة وجهاد في الحياة، وليله في العبادة الخالصة لله. وهو في كل ذلك يردد بينه وبين نفسه: (اللهم لك صمت) كما جاء في الحديث القدسي:(يترك طعامه وشرابه من أجلي. الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها).
|