530
0
إضاءة: وصية حكيم الذئاب بشأن الضباع في "وادي الصّوان".
بقلم: محمد شريم.
المنسق العام لمنبر أدباء بلاد الشام.
في ليلة من الليالي الحالكة أغار قطيع من الضباع على أسرة من الذئاب في "وادي الصوان"، وهو جزء من منطقة شاسعة تسيطر عليها قطعان الذئاب في إحدى الغابات، وقد سمي الوادي باسمه هذا لتواجد الكثير من حجارة الصوان فيه، فانهزمت الذئاب قليلة العدد أمام جمع الضباع الكبير، وغادرت "وادي الصوان" الذي كانت تعتاش فيه على اصطياد ما يحضر من الفرائس للشرب من بركة تتجمع فيها المياه التي تنحدر من نبع صغير في سفح الجبل.
لكن ما زاد أسرة الذئاب ألما على ألمها لمغادرة الوادي هو ذلك المشهد الرهيب الذي فطر قلوبها وهي تشاهد قطيع الضباع يمزق جسد ذؤيب صغير مريض من أفراد الأسرة دون رحمة، بعد أن لم يستطع مجاراة أسرته بسبب مرضه.
وعندما خرجت الذئاب من الوادي، وقف الذئب الأب واسمه "مقروح" على قمة الجبل وعوى عواء حزينا لعل واحدا من بني الحيوان يقف إلى جانبه ويساعده على طرد الضباع من موطنه، فلم يغثه مغيث.
فابتعد الذئب "مقروح" بأسرته عن حافة الوادي طلبا للأمان، وفي نفس كل واحد من الأسرة ما فيها من الأسى.
وبعد أن استراحت الأسرة بعضا من الوقت، شعر أحد الجراء بالعطش الشديد، عند ظهيرة النهار التالي، وكان الوقت صيفا، فتوسل لوالديه أن يأخذاه إلى بركة الماء، فوضع الذئب جرويه الآخرين تحت شجرة ساترة، وهم بالعودة إلى بركة الماء في "وادي الصوان" على أمل أن تكون الضباع قد خلدت إلى النوم، فيسقي الجرو ويشرب ثم يغادر الوادي على عجل، ولكن الذئبة أخذت على عاتقها هذه المهمة، مكتفية من والد الجراء بأن يرافقها إلى حدود "وادي الصّوان".
فتوجه الذئب والذئبة وجروهما باتجاه الوادي، فإذا بالضباع قد رسمت من فضلات بطونها حدودا لمنطقة "وادي الصّوان" لتؤكد أنها صاحبة السيطرة عليه، فأسقط بيد الذئاب.
ولكن الأم أصرت على عبور تلك الحدود لتصل البركة بجروها، وما أن غمست الأم وجروها لسانيهما في الماء حتى رآهما ضبع كان يتجول عن قرب ليحرس المكان في الوقت الذي كانت فيه سائر الضباع تغط في نومها، فأطلق الضبع لبقية الضباع صيحة تحذير، فإذا بها تتراكض نحو الأم وجروها من كل صوب، وعندما أحاطت الضباع بهما، توسلت الأم للضباع بأن يتركنها - ومعها جروها الصغير - لأجل جرائها، وأخبرت الضباع أنها حضرت لأجل الشرب وسقي جروها ليس غير، فأطلقت الضباع ضحكاتها المعروفة، وتظاهرت بقبول توسلات الذئبة، ثم بدأت بالتلاعب بالأم وصغيرها بادئ الأمر لأجل العبث، وبعد ذلك عملت على ضربهما بقسوة، ثم هجمت الضباع على الأم أمام الذئب الصغير وبدأت بتمزيقها قطعة قطعة وأكلها حية أمامه وهو يرتعد لهول المنظر، قبل أن تنقض عليه هو نفسه، وتفترسه بذات الطريقة، وكل ذلك على مرأى من الذئب الأب "مقروح" الذي تجاوز الحدود التي رسمتها الضباع بخطوات لنجدة جروه وأم جرائه، ولكنه تراجع وهو يوقن أن مصيره سيكون كمصيرهما، إن هو أقدم، ولن يتبقى هنالك من الأسرة من يعتني بالجروين الآخرين أو من يفكر بالانتقام من الضباع!
فعاد الذئب إلى جرويه باكيا حزينا، ثم احتضنهما بحنان لبعض الوقت، وبحث عن كهف آمن، ووضعهما فيه، ثم توجه من فوره إلى "جبل القمر"، وهو جبل عظيم الارتفاع في منطقة سيطرة الذئاب، ويوجد في قمة ذلك الجبل كهف يسمى " كهف الحكمة"، وهو الكهف الذي يقيم فيه حكيم الذئاب، وعندما دخل الذئب على الحكيم وجده منكبا على دراسة أحد الكتب الغريبة، ليست بلغة الذئاب، فرأى الذئب الحكيم ضيفه والدموع تملأ عينيه، فسأله باهتمام: ما الذي يبكيك يا أخا الذئاب؟ أراك على غير ما نتمنى! فقال الذئب: وهل ثمة حال أسوأ من حالي أيها الحكيم؟ لقد هاجمتني الضباع وأخرجتني من "وادي الصوان" الذي أعيش فيه، وليتها اكتفت بذلك وتركت لي أم جرائي ولم تقتل اثنين من جرائي الأربعة!
فقال حكيم الذئاب وقد ظهر عليه الغضب: الضباع؟! ماذا تريد هذه الضباع منا معشر الذئاب؟! إنني أقرأ كما ترى هذا الكتاب، وهو كتاب أعده كبراؤها القدماء، وليت كتابهم هذا يتصف بشيء من الحكمة! إنه يسفه الحيوانات جميعها ويحط من شأنها، ويستثني من ذلك الضباع التي يجعل منها مثالا في الذكاء والشجاعة والعفة والنبل وقوة العزيمة، ولأجل ذلك فإنه يجيز للضباع أن تأكل سائر الحيوانات والفريسة ما زالت على قيد الحياة – قبل أن تموت - وذلك حتى ترهب الضباع أعداءها من بني الحيوان فلا يجرؤ على معاداتها عدو !
فقال الذئب: وما الذي تراه في الأمر يا حكيم الذئاب؟ فقال الذئب العجوز: خذ هذا الكتاب، واذهب به إلى ملك القردة، في بلاد "الهلال الأصفر" فإن بيني وبينه مودة، وقد أصابه ذات يوم من الضباع ما أصابك! وبعد أن تسمع منه الجواب عد إليّ.
فوصل الذئب "مقروح" بيت ملك القردة، وكان في سهل منبسط، تظلله أشجار عالية، وتحيط به المئات من أشجار الموز، فاستأذن الذئب بالدخول على الملك، فأذن له، واستقبله ملك القردة ويدعى "ذا شجن" قائلا: مرحبا برسول صديقنا حكيم الذئاب! بم أرسلك الحكيم إلينا؟ فقدم له الذئب "مقروح" كتاب الحكيم، وبعد أن قرأه الملك "ذو شجن" تغير وجهه وقال: ألن تغير آكلات الجيف هذه طباعها الخسيسة؟! لقد أعدت إلي يا أخا الذئاب بكتاب الحكيم أشجاني التي برّحت في نفسي منذ زمن، أما وقت واتتنا الأحوال لننتقم منها بعد أن انفض التحالف الذي كانت تتقوى به، وهو التحالف الذي جمعها مع الدببة والخنازير البرية لمدة من الزمن، فقد آن الآوان لمحاسبتها على ما كان! عد إلى حكيم الذئاب أيها الرسول وقل له أن يطلب من أميركم إعداد جيشه، وسأجهز جيشا من القردة يضم ألفي مهاجم من بينهم ألف من رماة السهام الذين تعلموا الرماية من قائدهم الذي سبق له وأن رافق العديد من الفرسان من بني الإنسان، وخذ هذا الكتاب وسلمه للحكيم، وليطلع عليه أمير الذئاب.
وعندما وصل الذئب "كهف الحكمة" وجد عند الحكيم أمير الذئاب، وكلاهما بانتظار رسالة ملك القردة، وعندما سلم الذئب الكتاب للحكيم تهلل وجهه، وقال للأمير: لقد كان ملك "الهلال الأصفر" عند حسن ظني! أوصيك أيها الأمير أن تطلع على كتابه وأن تعمل بموجبه! فقال الأمير للحكيم: سأفعل يا حكيمنا! وسأذهب لأجهز نفسي وأعد جيشي الذي سأتوجه به مع جيش حلفائنا القردة إلى "وادي الصوان" لنخلصه من الضباع. هل توصيني بشيء قبل أن أخرج بجيشي أيها الحكيم؟ فقال له الحكيم: نعم. إذا كانت لنا ولحلفائنا الغلبة في هذه الحرب فإن من العدل أن تتذكر أسوأ ما فعلت الضباع حتى تأخذ منها الحق كاملا، ولا تأخذنك بها رحمة أو شفقة، فأن ترحم الظالم ظلم للمظلوم، والجزاء من جنس العمل! فسأل الأمير الحكيم: والعفو يا حكيمنا؟ فأجاب الحكيم: العفو عمن عفا والرحمة لمن رحم!
وبعد أيام التقى الجيشان، جيش أمير الذئاب وجيش ملك القردة في موضع يبعد عن "وادي الصوان" مسيرة يوم وليلة، ثم تقدم الجيشان معا، وأحاطا بالوادي نهارا، بعيدا عن حافته بادئ الأمر، في خطة محكمة، وذلك من ثلاث جهات، ثم بدأ الجيشان بالزحف، وعندما وصل جيش القردة حافة الوادي، تناول كل واحد من الجنود المكلفين بالأمر حجرين من حجارة الصوان الموجودة في المكان، وقدح منهما نارا، وأشعل شعلة ثم ألقاها نحو أعلى منحدر الوادي، لتهرب الضباع باتجاه أسفل المنحدر، ثم ألقيت الشعل في الرمية الثانية إلى خط رماية جديد نحو الأسفل، ليكون خط النيران الجديد أقرب من الأول إلى قاع الوادي، وتدرج الرماة في الأمر على هذا النحو حتى امتلأ الوادي بالنيران والدخان، فلم تجد الضباع ملاذا سوى التوجه إلى أسفل الوادي محاولة الهرب من الجهة الرابعة التي لم تشعل بها النيران، وهناك كان بانتظارها على جانبي الوادي رماة السهام من القرود، حيث أمطروا الضباع من السهام بما زاد عن عددها بكثير، حتى أصابوا الضباع جميعها ولم يسلم منها أحد، فقتل منها ما قتل وجرح ما جرح، وهنا تذكر أمير الذئاب وصية الحكيم، فقرر بالتشاور مع ملك القردة أن تترك الضباع القتيلة لتصبح جيفا تنهشها الطيور آكلة الجيف، أما الضباع الجريحة فقد قررت الذئاب أن تأكلها حية - بهدف إنصاف ضحايا لؤمها - وذلك خلافا لما تنص عليه طباع الذئاب!
وعندما بلغ الشاعر الحكيم خبر الذئاب والقردة مع الضباع قال:
يا مَنْ قهَرتَ وما اتَّصفتَ بِرحمة
أنسيـتَ وصـــفَ الله بالرحمـــن!
فإذا رحمـتَ الخلـقَ أنت برحمــة
وإذا قسـوتَ تبـوءُ بالخُســـــرانِ