254
0
إضاءة: .... ادفنوا الكلب واتركوا المرتزقة!
بقلم: محمد شريم.
*المنسق العام لمنبر أدباء بلاد الشام.
في سياق حالة من العداء المتواصل بين إقليم كثير الثراء قليل السكان يسمى "بلاد المغانم" وأحد الأقاليم المجاورة، فقد أوكل حاكم هذا الإقليم إلى قائد جيشه أن يستقدم عددا من الشبان الغرباء ليقاتلوا مع جيش الإقليم كمرتزقة مقابل المال، على أن يضاعف الأجرة لمن يبلي منهم في القتال بلاء حسنا.
فأعلن قائد الجيش أن أمام الأغراب فرصة للالتحاق بفرقة للمرتزقة الراغبين في القتال مع جيشه مقابل المال، فحضر من الأقاليم المجاورة جمع من الشبان مبدين رغبتهم في الانضمام إلى تلك الفرقة، واصطفوا في طابور ليتفق كل منهم مع مأمور التسجيل في معسكر التجنيد على مقدار المبلغ المالي الذي سيتقاضاه مقابل خدمته العسكرية وذلك وفقا لقدراته وخبراته قبل إتمام التعاقد على الانضمام لفرقة المرتزقة بشكل رسمي.
وعندما أوشك المأمور على إنجاز عمله، تقدم منه آخر الشبان المصطفين في طابور المتقدمين الغرباء، واسمه "جامح"،وكان هذا الشاب قوي البنية جاد الملامح، فاستعلم منه المأمور عن خبراته وقدراته، فأجابه الشاب بما يعرفه عن نفسه بكل أمانة وصدق، مؤكدا رغبته الشديدة في المقاتلة مع جيش الإقليم، فسأله المأمور عن مقدار المبلغ الذي يطلبه مقابل خدمته العسكرية، فأجابه "جامح": لا أطلب من المال شيئا! فاستغرب مأمور التسجيل جوابه وجحظت عيناه ليسأل الشاب: ولم لا تريد المال؟ ألست غريبا عن الإقليم؟ فقال "جامح": بلى! ولكنني أريد التطوع لأتجند كأي واحد من أبناء الإقليم ولا أريد المال! فارتاب المأمور في أمره، وظنه جاسوسا مدسوسا من الأعداء، فقرر إرساله إلى قائد معسكر التجنيد ليبت في أمره. فكرر "جامح" أمام القائد ما قاله أمام مأمور التسجيل. فقال له القائد باهتمام: لا تبدو عليك سمات العابث أيها الشاب، ومع ذلك أمرك غريب! فقال "جامح" متسائلا: وما وجه الغرابة في أمري يا سيدي؟ فرد عليه القائد: لم تتطوع في جيش أجنبي لتقاتل في بلد غير بلدك وتعرّض نفسك للهلاك إن كنت لا تريد المال؟ فأجاب الشاب: ليس للمال وحده يعرّض الإنسان نفسه للهلاك يا سيدي! فقال القائد: إن لم يكن لأجل المال فلأي شيء يمكن أن يعرض المرء نفسه للهلاك في خدمة جيش غريب؟ فأجاب الشاب: كثيرة هي الأسباب التي تجعل المرء يضحي بنفسه لأجلها – حتى إلى جانب جيش غريب - كنشر عقيدة يؤمن بها وفكرة يتبناها، أو دفاعا عن مستضعف مظلوم، أو وفاء لمستحِقّ، أو صونا لغال وحفاظا على نفيس! فقال القائد: يبدو أن وراءك قصة يا بني! فقال له الشاب: نعم يا سيدي القائد. فسأله القائد: وماهي؟ من المناسب أن تقصها علي ما دمت تريد أن تتجند في جيشنا!
فقال الشاب: أنا طالب علم، جئت للدراسة في مدينة "مرجانة" التي تقع على مقربة من حدودكم مع الإقليم المعادي لبلادكم، وذات يوم عاد أبناء هذا الإقليم من طلبة دار العلم التي أدرس فيها إلى مدنهم لقضاء عطلة العيد مع أهليهم، أما أنا فلم يكن أمامي إلا أن أبقى مع سائر الطلبة الغرباء في بيت إقامتنا بدار العلم، ولكن أحد الطلبة فاجأني بطلب غير متوقع – وهو صديق لي من أبناء المدينة - واسمه "ودود"، فقد أصر على استضافتي لقضاء عطلة العيد في بيته ومع أسرته، وذلك ليخفف عني ألم الغربة.
وفي ليلة العيد، هاجم جند الإقليم المجاور مدينة "مرجانة"، وداهموا البيت الذي تقيم فيه أسرة صديقي "ودود"، وأنا في ضيافة الأسرة، وعندما أيقن الجند المهاجمون أنني طالب علم غريب، حبسوني في غرفة من المنزل، وما لبثوا أن قتلوا صديقي، وانتهكوا حرمة بيته، قبل أن يغادروا! وبعدما شاهدت ما شاهدت، غلت في عروقي دماء النخوة، وهبت بصدري رياح الوفاء، وقررت أن أسد مسد صديقي الذي أكرمني، وأن أكون في الموقع الذي يجب أن يكون هو فيه لو بقي حيا! لذا عزمت على الانضمام إلى جيشكم لأنوب عن صديقي "ودود" بالانتقام لدمه المسفوح وحرمة بيته المنتهكة!
فأكبر قائد معسكر التجنيد موقفه، وقال: أما زال في الناس من هم بهذا الوفاء؟ فأجابه "جامح": نعم، وهم كثر يا سيدي، ولكن المواقف الصعبة هي التي تكشف معادن الرجال! وقبل أن يأذن القائد لجامح بالانصراف استوقفه سائلا: وما هذا الذي يتبعك أيها الشاب؟ فأجابه "جامح": هو كلب يا سيدي! فقال القائد: أرى أنه كلب.. ولكن، كيف ستزاول المهام التي ستسند إليك وهذا الكلب في أثرك! فأجابه "جامح": هل تصدق أن الكلاب أكثر وفاء من بني الإنسان في الكثير من الأحيان يا سيدي القائد؟ لا يقلقنك وجوده، فهو يجيد الحراسة ويهاجم بشراسة.. وما أدراك لعله يكون محاربا يلفت الأنظار! فوافق قائد معسكر التجنيد على التحاق "جامح" بمعسكره.
وذات يوم أمر حاكم "بلاد المغانم" قائد الجيش بإرسال فرقة من جيشه لمهاجمة موقع لجيش الأعداء قرب الحدود الفاصلة بين إقليمه والإقليم المعادي في غزوة خاطفة انتقاما من العدو لأنه داهم مدينة "مرجانة"، فأرسل القائد فرقة من الجند بضمنها "جامح"، وأمر أن تستعين الفرقة في هجومها بجمع من المرتزقة.
وعندما اقتربت الفرقة من موقع جيش العدو، وزع قائد الفرقة المهام على جنود فرقته، فجعل بعض الجنود المرتزقة في المقدمة، ووضع بعضهم الآخر في مواضع الخطر، حفاظا على جنوده الأصلاء، وأمر بالهجوم.
فدارت معركة حامية الوطيس بين الجانبين، قتل فيها جميع المرتزقة الذي رافقوا الفرقة وعدد من جنودها الأصلاء، وكان من بين القتلى "جامح" بعد أن قاتل ببسالة، ورمى الأعداء كلبه بسهم فقتلوه.
وعندما شعر قائد الفرقة بأن كفة القتال بدأت بالميل لصالح جيش العدو، أمر جنده بالانسحاب الفوري المنظم من أرض المعركة، فسأله معاونوه: وماذا نفعل بجنودنا القتلى والجرحى؟ فأجابهم القائد: احملوهم على ظهور الخيل، وانسحبوا بهم. فسأله معاونوه: وماذا بشأن الأغراب؟ فقال القائد: هل "جامح" قتل؟ فأجابوا: نعم! هو بين جنودنا القتلى.. وأصيب كلبه بسهم قاتل. فقال القائد: لقد خسرنا هذا الفتى.. احملوه على الجواد الأبيض! فسألوه: وماذا بشأن الكلب والمرتزقة؟ فأجابهم القائد: لا وقت للإطالة في الحديث.. ادفنوا الكلب واتركوا المرتزقة!
وعندما سمع شاعر "بلاد المغانم" وحكيمها حكاية "جامح" ومدينة "مرجانة"، سر بما قاله "جامح" لقائد المعسكر، وأكد على ما قاله الفتى الغريب بهذه الأبيات:
لا يفقـــدُ الرجـــلُ اللبيـــبُ حياتــــه
فـي الحـربِ مرتزقــا لكسـبِ المــالِ
فالحـرُّ يُلفـى فـي الحـروبِ مضحيـا
بالنفــــس والأمـــــوالِ والآمـــــــالِ
لفـــداءِ أوطـــانٍ ونشـــر عقيــــــدةٍ
ولِعـَــوْنِ مظلـــومٍ وصـَـوْن غوالـي