251

0

عودة الفتى المفقود في عرض البحر

بقلم:محمد شريم

. المنسق العام لمنبر أدباء بلاد الشام.

توفي رجل فقير الحال في إحدى القرى وكانت له زوجة وولد صبي اسمه "رجاء"، فتكفلت أم "رجاء" بالإنفاق على ولدها من ريع نصف قطعة من الأرض ورثتها عن أبيها، كانت تزرعها وتبيع محاصيلها في سوق المدينة القريبة، في حين كان النصف الثاني من الأرض هو نصيب أختها. وعندما شب ولد هذه الأرملة خطر بباله أن يبيع نصف قطعة الأرض الذي تملكه والدته، وان يشتري بثمنها قطيعا من الأغنام، والأمل يحدوه بأن تعود عليه العناية بالماشية - بما يبيعه من لحمها ومن صغارها ولبنها وصوفها ووبرها - بأضعاف ما تعود به عليه قطعة الأرض، وعلى الرغم من تردد أمه في بيع أرضها، إلا أنها استجابت لطلب ولدها، فوافقت على طلبه ببيع قطعة الأرض تماشيا مع آماله المتأصلة في نفسه، لكن ولدها لم يأخذ بالحسبان أن الأمل وحده لا يكفي، بل يتطلب النجاح في العمل - إلى جانب الأمل وربما قبله - توفر الرغبة في ذلك العمل والقدرة عليه والدراية فيه، ولهذا فقد اضطرب حال الفتى "رجاء"، ولم يستطع إدارة تجارته والعناية بأغنامه، فمرض منها ما مرض، وهزل ما هزل، ونفق ما نفق، فباع ما تبقى من الأغنام بثمن بخس، ودون أن يتعلم من تجربته بتقدير قيمة القرش، فقد أنفق ثمن ما باعه منها بغير حساب، وهو يمني النفس ويعلي الأمل في أن ترث أمه النصف الثاني من قطعة الأرض - التي تتقاسمها مع خالته - بعد وفاة خالته الهرمة المريضة فيعيد تجارته العاشرة، وذلك على أمل أن يستفيد من أخطائه السابقة فينجح بتجارته اللاحقة .

 ولم تمض عدة شهور حتى توفيت خالته، فتفجر في نفسه نبع الأمل بأن يحقق الحلم الذي يراوده بالعودة إلى تربية الأغنام والاتجار بها، ولكن خيبة الأمل كانت من نصيبه بهذا الأمر أيضا، فقد حضر أحد تجار الأراضي في اليوم الرابع لوفاة خالته، وفي يده عقد البيع والشراء الذي تنازلت بموجبه خالته عن حصتها من الأرض لهذا التاجر على أن يستلمها ويتصرف بها بعد وفاة البائعة فأسقط في يد الفتى "رجاء"، واسودت الدنيا في عينيه فقرر الهجرة على أمل أن يعوض في بلاد الغربة ما فاته من المال الذي كان يأمل بالحصول عليه ببيع أرض خالته فتوسلت له أمه بالبقاء، وبأن يرضى بما قسمه الله له من الرزق في بلده، وأن يجد ويكد ويعمل لتحصيل قوته من تعب يده وعرق جبينه، ولكن الفتى أصر على السفر، فودعته أمه باكية راجية الله لولدها الحبيب "رجاء " أن يعيده سالما غانما.

فغادر "رجاء" بلاده على ظهر مركب للمسافرين وبعد مسيرة نصف شهر في عرض البحر هبت على المركب ريح عاصفة، وارتفعت معها الأمواج ، فتمايل المركب، فحاول الربان ومعه البحارة والمسافرون بكل السبل المحافظة على اعتدال مركبهم، إلا أن تدفق المياه إليه، واضطراب الناس عليه، وتعاظم الأمواج تحته واشتداد العصف حوله أفقد المركب توازنه، وما لبث ذلك المركب أن انقلب ولم يعد الفتى إلى وعيه إلا وهو يرقد في كوخ من الخشب والقصب على شاطئ جزيرة غريبة، حيث بذل صاحب ذلك الكوخ وهو صياد أسماك في رعايته وعلاجه كل جهد مستطاع. 

وبعد أن اشتد عود الفتى من جديد، أخبره الصياد أنه عثر عليه فاقدا الوعي غير بعيد عن الشاطئ، فتذكر الفتى ما كان، فاستفسر من الصياد عن مصير رفاقه الذين كانوا على نفس المركب، فأخبره الصياد أنه لم يعثر على أحد سواه من ركاب المركب الغارق، لكن رفاقه الصيادين أخبروه أن سفينة عابرة حملت عددا من ركاب ذلك المركب كانوا قد تعلقوا ببعض الألواح المنفصلة عن مركبهم أملا بالنجاة في الوقت الذي ابتلع يه البحر جثث من استسلموا لقدرهم ولم يتعلقوا بحبال الأمل، أو كان لديهم الأمل ولكن لم تواتهم الفرصة التي تتيح لهم تحقيق أملهم بالوصول إلى شاطئ السلامة.

وذات يوم جلس "رجاء" مع الصياد في ظل مركب على شاطئ البحر يتبادلان أطراف الحديث، فقال "رجاء " للصياد: لقد أكرمتني بما فيه الكفاية أيها الرجل الطيب، وقد آن الأوان لأن أتفكر بشأني. 

فسأله الصياد وماذا أنت فاعل؟ فأجاب الفتى أريد العودة إلى بلادي فلي أم هناك تنتظرني فسأله الصياد وكيف ستعود؟ فأجاب الفتى مع أية سفينة تمر بهذه الجزيرة إن كانت وجهتها بلادي، ولكنني سأعمل لتوفير أجرة السفينة فإنني فقدت بغرق المركب ما لدي من النقود. فقال الصياد السفينة الوحيدة التي ترسو على شاطئ الجزيرة وتمر ببلادكم - على ما أعلم - هي سفينة بضائع موسمية تمر مرة واحدة في العام، وقد غادرت ميناء الجزيرة قبل شهر ليس غير، وليس أمامك إلا أن تمكث في هذه الجزيرة حتى عودة تلك السفينة في العام المقبل، فتكون أنت قد عملت وادخرت بعض النقود، فتدفع منها أجرة السفر ، وتستعين بالباقي في قضاء حوائجك !

...

 

فسأل الفتى الصياد وبأي عمل سأعمل في هذه الجزيرة الغريبة؟ فقال الصياد وما الذي تتقنه؟ فأجاب الفتى متبسما وقد علت وجهه حمرة تشف عن شيء من الحرج والله لا أتقن إلا أمرا واحدا فسأله الصياد وما هو ؟ فقال الفتى: لقد أنفقت مالي في بلادي وأنا أعد الأصحابي موائد الشواء التي كنت أدعوهم إليها، فلما افتقرت لم أعد أرى منهم أحدا ! فقال الصياد بنس الصحاب، ونعم الجواب فسأله الفتى ماذا تعني؟ فأجاب الصياد أنت من أبحث عنه ... فقد عزمت على فتح دكان لأبيع فيه السمك الذي أصطاده بدل إعطائه للتجار بأبخس الأثمان، وقد نبهتني بإتقانك إعداد الشواء إلى أمر آخر، وهو أن أضع كانون شواء أمام المتجر فنعمل على تقديم وجبة من السمك المشوي لمن يرغب فيها من المتنزهين. فما رأيك أن تعمل عندي بهذا الدكان، فأملي في أمانتك عظيم، فإن لم تكن أمينا فأملي في وفائك أعظم لما سبق وأن قدمناه لك من الإحسان فقال الفتى: اتفقنا فعمل الفتى في دكان الصياد ما يقارب العام بانتظار دوم سفينة البضائع الموسمية لتقله إلى بلاده، وعندما حضرت السفينة في موعدها المنتظر ركبها "رجاء" وعاد إلى وطنه.

 

ولما أوشك الفتى أن يدخل قريته، شاهد جمعا كبيرا من الناس في مقبرتها، فأدرك أنهم يوارون ميتا الثرى فعرج عليهم ليشاركهم موقف الدفن، وما أشد مفاجأته وهو يسمع أحد الشبان يصيح وهو يشير باتجاهه: أليس هذا "رجاء "؟! أحق ما أرى ؟! هاهو ولدها جاء "رجاء " ! فالتفت الناس نحوه بانشداه، ثم ساد الصمت للحظة قبل أن يردد بعض الحضو: الله أكبر .. الله أكبر ! ألم يخبر ركاب السفينة الناجون والدة "رجاء" أن ولدها غرق في البحر ؟! فقال آخر : وهي لم تصدق الخبر وكانت تقول: لا تقولوا أنه مات سيدفنني ولدي بيديه أملي في الله كبير !

فأيقن الفتى أنها أمه، فأجهش بالبكاء، وعندما وصل جثمانها المسجى كان القبر قد أعد ، ولم يتبق من مراسم تشييع جثمانها سوى إيداعه في ذلك القبر، فجثا "رجاء" على ركبتيه، وقبل جبين أمه، وقرأ لروحها "سورة الفاتحة" ثم قال بأسي: اعذريني يا أمي .. لقد عدت إليك.. لكن بعد فوات الأوان فقال أحد أقربائها : لا لم يفت الأوان بعد ادفنها بيديك كما كانت تأمل وبعد انفضاض بيت العزاء الذي استمر ثلاثة أيام طرق أحد الجيران في صبيحة اليوم الرابع باب بيت "رجاء" الذي ورثه مع والدته عن أبيه، وعندما فتح "رجاء" الباب رحب بالضيف ترحيبا فاترا وهو زاهد بزيارته، ثم وجهه للجلوس على مقعد خشبي متهالك في فناء البيت، أما هو فقد جلس مقابله على خرزة بئر المنزل، فبادر الضيف للقول: أعرف أنك لم تسر بزيارتي أيها الجار.

ولست أنت الوحيد في هذا، فالكل ينظر بعين الريبة والشك إلى كل ما أقوله أو أفعله لأنني سجنت بجرم السرقة غير مرة، ولكنك عندما تعرف سبب زيارتي ستسر فسأل "رجاء" الزائر : وما هو سبب الزيارة يا ترى؟ فأخرج الزائر صرة من جيبه ودفعها إلى الفتى وهو يقول: حضرت لأسلمك هذه الأمانة ففتح "رجاء" الصرة والدهشة تقرأ بوضوح على قسمات وجهه، ولما اكتشف أن ما فيها هو مبلغ ليس بالقليل من المال سأل رجاء" الرجل باندهاش ومن الذي ائتمنك على مبلغ هذا ؟! فأجاب جاره أنا انتمنت نفسي عليه فقال الفتى: لم أفهم فقال الرجل: لقد لاحظت زوجتي أن مصباح بيتكم لم يشعل حتى وقت العشاء من الليلة الماضية وكان باب البيت مفتوحا فارتابت زوجتي في الأمر وذهبت للاطمئنان على والدتك.

 فوجدت أمك وقد أسلمت الروح، فعادت زوجتي مستنجدة، فحضرت معها إلى بيتكم لعلي أقدم شيئا من المساعدة، وسرعان ما رأيت وذهبت للاطمئنان على والدتك، فوجدت امك وقد اسلمت الروح، فعادت زوجتي مستنجدة، فحضرت معها إلى بيتكم لعلي أقدم شيئا من المساعدة، وسرعان ما رأيت هذه الصرة قرب جثمان والدتك، ففتحتها، ولما رأيت فيها ما رأيت من المال أعدت إغلاقها - وقد استعذت بالله من الشيطان الرجيم - دون أن ألمس من هذا المال شيئا.

 وأخذت وعدا على نفسي أن أستفتي شيخ الجامع بشأن هذه الصرة .. أما وقد عدت فكان على أن أعيد إليك مال أمك.. وهو الآن بين يديك كما وجدناه.. والله على ما أقول شهيد وهم الرجل بالمغادرة فاستوقفه "رجاء" بالباب وسأله اعذرني أيها الجار على هذا السؤال فسأله الجار وما هو سؤالك؟ فقال الفتى يأخذني العجب من أن الذي ائتمن نفسه على هذا المال هو أنت، وأنت أدرى بحالك مني لم أعدت المال وكان بإمكانك الاحتفاظ به لنفسك؟ فأجاب الرجل قبل أن يغادر إنه الأمل عندما رأيت المال شعرت بالأمل، تولد في صدري فجأة الأمل بأن الله سيغفر لي ما كان مني إن ائتمنت نفسي على هذا المال وسلمته إلى أهله.

ثم غادر الجار مسرعا، وبقي "رجاء" يتأمل تلك الصرة ولسانه يلهج بالدعاء لوالدته، أما نفسه فقد عاد إليها الأمل بتربية الأغنام والمتاجرة بها من جديد وعندما بلغت الشاعر الحكيم حكاية الفتى المفقود في عرض البحر قال: 

قد فاز فيما كان يطلبه

 من يقرن الآمال بالعمل 

لكن فعل المرء يخذله

 إن كان ميالا إلى الكسل 

وعظيمة الآمال مرتهن

 تحقيقها بتوفر العلل

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services