71
0
عمي جمعي… ذاكرة الحرف العربي التي بقيت بعد أن اطفئت اضواء المعرض

قد تنتهي الفعاليات، يغلق المعرض ابوابه، وتتفرق الوفود والزوار، لكن بعض الوجوه تظل حاضرة في الذاكرة اكثر مما كانت في المكان. ومن بين تلك الوجوه التي لا تمحى بسهولة من ذاكرة الزائرين
هارون الرشيد بن حليمة
يظل اسم الخطاط عمي جمعي واحداً من اكثرها حضوراً وعمقاً. واليوم، وبعد مرور وقت على اختتام معرض الصناعات التقليدية بالعاصمة، لا يزال الحديث عن هذا الرجل واجباً مهنياً وجمالياً، لان ما قدمه يستحق ان يكتب عنه، مهما تاخرت الكتابة.
الأستاذ جمعي يحمل ريشة لا تشبه الا نفسها
القادم من ولاية سطيف وتحديدا من العلمة لم يكن مجرد مشارك عابر في معرض تقليدي، بل كان استاداً جامعياً جمع بين المعرفة الاكاديمية والخبرة الفنية، ليقدم نموذجاً فريداً للخطاط الذي لا يعتمد على الموهبة وحدها، بل يربطها بالبحث والدراسة والتعليم.
كان جناحه في المعرض أشبه بزاوية خاصة داخل الضجيج، زاوية يقترب منها الزائر فيجده واقفاً بهدوء، يحمل ريشته بثقة، ويرسم حرفاً وراء حرف كما لو أنه يعيد كتابة جزء من تاريخ الخط العربي
.
حين يتحول الجناح الى درس في التاريخ والجمال
خلال ايام المعرض، لم يكن عمي جمي مجرد عارض، بل كان معلماً بمعنى الكلمة. الزوار كانوا يجلسون امامه طوعاً، يتابعون كيفية انحناء الريشة، يتساءلون عن أنواع الاحبار، ويسمعون منه قصصاً عن الخط العربي من ايام الوراقين الى المدارس الحديثة.

يشرح الفرق بين الثلث والديواني، بين النسخ والفارسي، ويتحدث عن السر في انكسار الحرف وصعوده، وعن المدرسة العثمانية والمغاربية، وعن كيف يكون الحرف احياناً اجمل من الكلمات نفسها
.
كان يستقبل الاطفال بابتسامة، ويعطيهم نصائح صغيرة تشعل شغفاً كبيراً، ويحدث الشباب عن تاريخ الخط، ويمنح الكهول فرصة لاستعادة ذكريات الواح الكتاتيب والمدارس القديمة.
الهدية التي لم تمر مرور العابرين
ورغم ان وقتاً طويلاً مر على انتهاء المعرض، الا أن الاهداء الذي قدمه لطاقم بركة نيوز ظل حاضراً كانه صنع بالامس، فقد خص الجريدة بلوحة خطية جميلة كتب عليها اسمها بركة نيوز بخط متقن يشبه شخصيته الهادئة.

لم يكن ذلك مجرد اهداء رسمي، بل كان علامة تقدير من فنان يعرف قيمة الحرف ويحترم كل من يسعى الى ابراز جمالياته.
لماذا نكتب عنه اليوم؟
لان بعض الوجوه لا ينبغي ان تختفي بمجرد اختفاء المعرض.
لان اعماله ليست لحظة عابرة، بل جزء من ذاكرة الثقافة الجزائرية.
ولان الكتابة عن عمي جمي ليست تاريحاً لحضور في معرض فحسب، بل اعتراف بقيمة رجل جمع بين العلم والفن والهدوء والاخلاص، وترك اثراً يستحق ان يروى.
عمي جمعي… فنان لا يقاس حضوره بمدة المعرض، بل بما يتركه في القلوب
هكذا يظل عمي جمعي واحداً من تلك الشخصيات التي تبقى بعد ان يرحل الجميع. رجل يعلمنا ان الحرف العربي ليس تراثاً جامداً، بل روحاً حية تحتاج الى من يصونها، وان الثقافة ليست حدثاً موسمياً، بل مسيرة طويلة من الصدق والبحث والحب.

