185
0
"ذاكرة الجلفة تُكتَب بأقلام أبنائها: انطلاق مشروع ثقافي يُعيد تشكيل الهوية عبر نوافذ الأدب"

في مساءٍ ثقافي استثنائي امتزجت فيه رائحة الحبر القديم بهمسات الأساطير الحضرية، انبثقت أولى حلقات البرنامج التوثيقي "نوافذ على ذاكرة مدينة الجلفة"، من قاعة التشريفات البلديّة أمس السبت، حاملةً معها رؤيةً جريئةً لتحويل السرد الأدبي إلى أرشيف حيّ يعانق تفاصيل المدينة.
بن معمر الحاج عيسى
لم تكن الفعالية مجرد حفل إطلاق، بل مشهداً تأسيسياً لِعقدٍ ثقافي بين سلطة القلم وسلطة الإدارة المحلية، حيث اجتمع تحت سقفٍ واحدٍ رموزُ السياسة والفن والأدب في محاولةٍ لاستنطاق ذاكرة جيلٍ من خلال عيون روائيّه الأبرز "إسماعيل يبرير".
الحدث الذي أشرف على إعداده الشاعر "أمجد مكاوي"، تحوّل إلى مختبرٍ سرديٍ فريد، انطلقت شرارته الأولى من ثلاثية يبرير التي تعيد رسم خريطة الجلفة بعيداً عن الوثائق الرسمية: "باردة كأنثى" تُلامس تحولات المجتمع الأنثوية في فضاءات المدينة الضيقة، بينما "وصية المعتوه" تُحوِّل بيوت الطين إلى رموزٍ للصراع بين الحداثة والتراث، و"مولى الحيرة" تفتح أبواباً على أسئلة الهوية في زمن العولمة.
خلال الجلسة التي استمرت ثلاث ساعات، لم يكتفِ الحضور بمناقشة النصوص، بل انغمسوا في تفكيك طبقات المكان عبر عيون الشخصيات الروائية، وكأنّ أزقة المدينة القديمة امتدت بين كراسي القاعة عبر حكايات المتحدثين.
المشهد السياسي-الثقافي شهد لحظةً رمزيةً نادرة، حيث جلس رئيس المجلس البلدي "شلالي محمد" إلى جانب فنانين تشكيليين وشبابٍ من نشطاء المجتمع المدني، في إشارةٍ واضحةٍ لتحوّلٍ في أولويات العمل البلدي.
وفي كلمة النائب ڨيرع نجيب رابح، أكدت هذا التوجه: _"لم نعد نرى الثقافة كرفاهية، بل كبنية تحتية لصناعة الإنسان الجلفاوي"_، بينما قدّم رئيس المجلس الولائي فضل عمراوي رؤيةً أوسع تربط بين الذاكرة الأدبية وتنمية السياحة الثقافية.
الجانب البصري للفعالية شكّل عالماً موازياً: معرض عبد الكريم عيساوي التشكيلي أعاد إنتاج مشاهد من الثلاثية بلوحاتٍ تجريديةٍ تحمل بصمات الطين المحلي، بينما وثّق عدسة نايل خمال لحظة التقاء نظرة الروائي العجوز بحماس الشباب الذين يقرأون المدينة من خلال نصوصه. التصميمات الجرافيكية لـربيع هزرشي، التي مزجت بين الخط العربي القديم وتقنيات الواقع الافتراضي، أثارت تساؤلاتٍ حول إمكانية تحويل النوافذ الأدبية إلى منصات رقمية تفاعلية.
ما يميّز هذا البرنامج الطموح هو محاولته خلق سرديةٍ موازيةٍ للتاريخ الرسمي: فمن خلال استضافة مبدعين من مختلف الأجيال في الحلقات القادمة، يسعى المنظمون لبناء "بنك ذاكرة" ثقافي يُعيد تعريف الهوية الجلفاوية بعيداً عن النمطية. النقاشات الجانبية كشفت عن تطلعاتٍ لتحويل النصوص الأدبية إلى مساراتٍ سياحيةٍ حية، حيث يُمكن للزائر أن يتتبع خطوات شخصيات يبرير الروائية بين الأحياء القديمة.
التحدي الأكبر الذي يلوح في الأفق هو قدرة هذا المشروع على تجاوز النخبوية: فجلسة الافتتاح، رغم غناها الفكري، ظلّت حبيسة القاعة المكيّفة، بينما تُطرح أسئلةٌ عن آليات إشراك سكان الأحياء الشعبية الذين تحفل بهم نصوص يبرير. هنا تبرز أهمية المبادرة في كونها محاولةً مؤسساتيةً جادة لردم الهوّة بين الإبداع والشارع، حيث تُشير مصادر مقرّبة إلى تحضيراتٍ لحلقاتٍ ميدانيةٍ تُناقش الذاكرة الجمعية مباشرةً في أماكن تشكل خلفيةً لأحداث الروايات.
في الخلفية، كان إسماعيل يبرير نفسه يُشبه شخصيةً من نصوصه: صامتاً في معظم الأحيان، يلتقط تفاصيل الحضور بعينين خبيرتين بتحولات المدينة. عندما سُئل عن سرّ ارتباطه بأزقة الجلفة في عصر ناطحات السحاب، أجاب بتلميحٍ روائي: _"المدن كالبشر، تبحث عن كتّاب أوراق هويتها عندما توشك أن تفقد بصمات أصابعها"_.
ربما تكون هذه الجملة بمثابة البيان التأسيسي لمشروعٍ ثقافيٍ يدرك أن معركة الحفاظ على الهوية لم تعد تُخاض في الميادين العامة فقط، بل أيضاً بين سطور الروايات وثنايا اللوحات الفنية.