بقلم: بن معمر الحاج عيسى
في زاوية منسية من تراب الجلفة، على تخوم ضاية زخروفة، خرج إلى الوجود عام 1874 رجل سيحمل على كتفيه إرث المقاومة، ويفتح في وجه المستعمر الفرنسي صفحة أخرى من الكفاح الجزائري المسلح والروحي. إنه الشيخ المجاهد عبد الرحمن الطاهيري، شيخ الزاوية، حامل المصحف، وحامل البندقية.
تمرّ اليوم أربعة وتسعون عامًا على استشهاده في سجن سركاجي، بعد محاكمة صورية اختصرت فيها فرنسا جرائمها في حبل مشنقة، وظنّت – كما ظنت دومًا – أن الموت يُخرس الذاكرة.
لكنها لم تدرك أن أمثال الطاهيري لا يموتون، بل يتحولون إلى جذوة نارٍ في ذاكرة الأمة، وراية عزّ لا تُطوى.
كان عبد الرحمن الطاهيري ابن الصحراء الحرة، ابن الأرض التي لا تنحني إلا لله، وقد صاغ وعيه في الكتاتيب الأولى، قبل أن يشيد زاويته الخاصة سنة 1912، لتكون منارة للقرآن والعلم، لكنها ما لبثت أن تحوّلت إلى قلعة للرفض والثورة.
لم يكن الرجل مجرد فقيه يحمل المصحف، بل كان رجل موقف وإرادة، ومنذ اليوم الأول لفرض قانون التجنيد الإجباري سنة 1912، أعلن رفضه علنًا، لا بل أصدر سنة 1914 فتوى قاطعة، تعتبر الانخراط في جيش الكفّار محرّمًا، فتوى لم تكن دينية فحسب، بل كانت سياسية ووطنية، هزّت أركان الإدارة الاستعمارية في مسعد والجلفة.
لم يكن الشيخ الطاهيري من طينة المنتظرين ولا من صُنّاع البيانات، بل من الرجال الذين يكتبون مواقفهم بالسلاح.
ففي عام 1913، دخل مدينة الجلفة على رأس مئة فارس، في عرضٍ عسكري أراد به أن يُعلن: “نحن هنا، ولسنا رعايا، بل أصحاب الأرض والتاريخ والقرار”.
كان ذلك الاستعراض بداية سلسلة من المواجهات الدامية مع قوات الاحتلال، سطر فيها أبطال الجنوب صفحات من الشرف المنسي.
وبين جولات السلاح وجراح المحن، تعرّض الشيخ الطاهيري للاعتقال والنفي، إذ نُفي إلى المغرب الأقصى لسنتين، لكن روحه لم تُنْفَ، وظلّت مشتعلة كحرّ لهيب الصحراء.
وعاد بعدها ليجمع شتات المقاومين ويوحّد صفوفهم، فعقد سنة 1919 ملتقى نادرًا من نوعه في عمق الصحراء الجزائرية، تحت عنوان "ثلاث ليالٍ في الصحراء"، وهو اجتماع مغاربي للمجاهدين والعلماء، دعا فيه إلى جبهة موحدة تمتد من المغرب الأقصى إلى تخوم الصحراء الكبرى، تدعو للعصيان، وتقف في وجه الغطرسة الفرنسية بوجه واحد وصوت واحد.
هذا الصوت الجهور لم يكن ليروق للمستعمر
فبعد سلسلة من المضايقات والاعتقالات، أقدمت فرنسا سنة 1931 – في الذكرى المئوية لاحتلال الجزائر – على تنفيذ جريمة سياسية جديدة، أقدمت على محاكمة الشيخ عبد الرحمن الطاهيري محاكمة صورية في سجن سركاجي، أصدرت فيها حكم الإعدام بشكل متسارع، محاولة إسكات رمز بات يوقظ الضمائر في مسعد والجلفة وورقلة وتمنراست وعموم الصحراء الجزائرية.
وفي يوم 14 جويلية 1931، صعد الشيخ الطاهيري إلى المشنقة، ثابتًا كجبل، مبتسمًا كما يليق بالشهداء، رافعًا رأسه وهو يلقّن خصومه دروسًا في المعنى الحقيقي للحرية والموت الكريم.
ولعلّ التاريخ لا يُكتَب بالأرقام فقط، بل بالمعاني
عبد الرحمن الطاهيري لم يكن فقط مجاهدًا بالسلاح، بل كان معلمًا في الفقه والقرآن، وصاحب رؤية سياسية ومشروع مقاومة متكاملة.
كانت زاويته جامعةً للعلم والمقاومة، ومنبراً لتحشيد الوعي، ولعبت دورًا خطيرًا في تهيئة الأجيال القادمة التي ستفجر ثورة نوفمبر فيما بعد.
إنه أحد أولئك الذين أعدّوا المسرح لملحمة التحرير، ونسجوا خيوط الوعي التي نضجت بعد عقود في الكفاح الوطني المسلح.
ففي زمن كانت فرنسا تُحكم قبضتها على الجبال والمدن والمضائق، خرج رجلٌ من ضاية زخروفة، يعلن العصيان باسم الله والشعب.
رجلٌ لم يُرهبْه السجن، ولم يُغره النفي، ولم تكمّ فمه حبال المشانق. في الذكرى الرابعة والتسعين لاستشهاده، نحن لا نُحيي ذكرى رجل مات، بل نستعيد روحًا حيّة تتجاوز اللحظة، وتُذكّرنا أن التحرر لا يكون إلا على أكتاف الرافضين، وأن للأرض رجالاً لا يُباعون، كما لا يُشترون.
الرحمة والخلود لشيخ الزاوية والميدان، الشيخ المجاهد عبد الرحمن الطاهيري. المجد للشهداء الذين علّمونا أن الحق يُنتزع، وأن الوطن لا يُحرّر إلا حين نؤمن أنه أمانة لا تقبل التفريط.