مالك بن نبي من أبرز الشخصيات التي عرفها العالم الاسلامي في القرن الماضي منذ ظهور مؤسس علم الاجتماع الحديث عبد الرحمان ابن خلدون في القرن الرابع عشر ميلادي ، كما يُعتبر انتاجه الفكري امتدادا للفيلسوف الاندلسي ابن رشد الذي ساهم في انتقاء و نقل الفكر الصحيح للفيلسوف اليوناني أرسطو الى الغرب في القرن الثاني عشر ميلادي ، بعدما كان الفلاسفة الاولين في العصر الذهبي للحضارة الاسلامية يُولٌِدُونَ الافكار و ينشرونها على غرار الكِندي، الفارابي وابن سنا.
عبد العزيز عمران
لقد قال عنه تلميذه ورفيق دربه البروفيسور عمار طالبي : " كان الاجماع على أن مالك ابن نبي عبقريٌ و سابقٌ لعصره ، لقد كان يحلل المشكلات تحليلا علميا ، كما كان يحلل الظواهر الاجتماعية مثل المعادلات الكيميائية و يسوغها بطريقة رياضية على منهجه الخاص ، تماما كما فعل في كتب مشكلات الحضارة " هذا التميّز اكتسبه ملك بن نبي نتيجة لتكوينه المزدوج ، الاكاديمي في مجال العلوم الدقيقة ، و الذاتي في حقل العلوم الانسانية و الاجتماعية .
المولد و النشأة:
وُلد المفكر الجزائري مالك بن نبي في الفاتح يناير سنة 1905 م في مدينة قسنطينة ، زاول دراسته الاعدادية في مدينة تبسة بالتوازي مع الدراسة القرآنية بالكتاتيب .
ثم عادت عائلته الى مسقط رأسه اين واصل دراسته الثانوية ، في هذه المرحلة كان مالك بن نبي يقرأ امهات الكتب منها مقدمة ابن خلدون ، رسالة التوحيد لمحمد عبده، ام القرى لعبد الرحمان الكواكبي ،وكتاب تفسير المنار لمحمد رضا، كما كان يقرأ للأدباء الفرنسين وللفلاسفة الاوروبيين و لمختلف المستشرقين.
بعد مرحلة الثانوية درس في معهد التكوين بقسنطينة لمدة 4 سنوات ليتخرج منه برتبة "باش عدل" ( محضر قضائي) فعُين مباشرة في مدينة ٱفلو ( ولاية الاغواط ) سنة 1927م ، حيث اشتغل في محكمتها لمدة سنة واحدة ثم انتقل الى مدينة شلغوم العيد للعمل بها مدة سنة اخرى، و لأنه رفض ان يكون وسيطا بين المستعمر والاهالي لتنفيذ الاحكام الجائرة ، قرر الاستقالة نهائيا من هذه المهنة .
حينها عاد الى مدينة قسنطينة و حاول ممارسة التجارة ولكنه لم يفلح بسب الركود العالمي سنة 1929م ، فتخلى عنها بصفة نهائية . كما انه التقى في خضم تنقله في ربوع الجزائر برائد النهضة العلمية الشيخ عبد الحميد بن باديس لأول مرة عام 1928م فتأثر به وكان يعتبر نفسه احد رواد هذه المدرسة ، ولما تأسست جمعية العلماء المسلمين سنة 1931م بنادي الترقي كان وقتها طالبا في باريس و كان يودّ ان يكون ممثلا لها في فرنسا ...
مالك ابن نبي طالبا
في نهاية 1929م قرر الخروج الى فرنسا بحثا عن العمل رفقة العمال المهاجرين البسطاء اين قضى سنة واحدة في ضروف معيشة و مهنية جدُ سيئة، مما اضطره للعودة الى الجزائر. وفي سنة 1930م ، قرر الرجوع إلى فرنسا بصفته طالبا حيث أراد التسجيل بمعهد الدراسات الشرقية بباريس، غير أنه مُنع من ذلك لأنه لم يكن مُواليا للسلطات الفرنسية حسب ما ِقيل له، فسجل بالمعهد اللاسلكي وتخرج منه بدرجة مهندس دولة في الكهرباء سنة 1935م.
أول محاضرة ألقاها عند وصوله باريس كانت سنة 1931م بعنوان: " لماذا نحن مسلمون " ، هذه المحاضرة جعلت اشهر المستشرقين الفرنسين " لويس ماسينون " يستدعيه ليُناقشه ، فاعترف له بفكره الابداعي، كما كانت هذه المحاضرة سببا في لفتت انظار المخابرات الفرنسية ، التي استجوبته على اثرها و سألته : من يَصرف عنك في دراستك ؟ فأجاب والدي فقط ، فقرروا من يومها إيقاف والده عمر عن العمل بالإدارة المحلية بمدينة تبسة ، فتكفلت امه زهيرة بالنفقة عليه بفضل ممارستها مهنة الخياطة.
هذه الظروف الاجتماعية السيئة دفعت مالك بن نبي للبحث عن اقامة رخيصة في باريس ، فوجد ذات يوم اعلانا لاستقبال الطلبة المعوزين امام مقر " جمعية الوحدة المسحين للشباب البارسيين " فطلب التسجيل عندهم ، و في مكتبة هذه المؤسسة الخيرية إلتقى بالشابة كريستين بول التي تزوج بها سنة 1935م فأسلمت واصبح اسمها خديجة ، هذه الزوجة الوفية لعبت دورا كبيرا في تشكيل فكر مالك بن نبي ، كما ساهمت عن طريق والدتها في تغطية مصاريفه المادية طيلة فترة اقامته بفرنسا ، وتوفيت في نفس السنة التي توفي فيها زوجها (1973م) رحمهما الله ، كما ان اقامته في هذا الوسط و اختلاطه بمختلف الديانات جعل فكره يتحرر من المذهبية تماما كما حصل للسيد قطب لما كان مقيما في امريكا سنة 1948م.