508

0

وترجل فارس الحريات، أستاذنا المناضل الحقوقي، المفكر الكاتب الدكتور أحمد المناعي .. سيرة ومسيرة

محمد مصطفى حابس : جنيف / سويسرا

" يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي".

أحطنا علما هذا الأسبوع فقط، بفاجعة وفاة أستاذنا الحقوقي ورئيس المعهد التونسي للعلاقات الدولية، الدكتور أحمد بن الطاهر المناعي، وقد انتقل الى جوار ربه، صباح يوم السبت، حيث شيع جثمانه الطاهر الى مقبرة الوردانين بتونس الشقيقة ظهر يوم الأحد 14 جانفي 2024، الرجل عرفناه مناضلا عنيدا في أوروبا لما كان مهاجرا ولاجئ سياسي في عهد الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي..

المرحوم رغم سيرته الثرية و كتاباته باللغتين إلا أن كثيرا من المهتمين بالفكر والثورة الجزائرية والحريات والتاريخ المغاربي عموما، لا يعرفون عنه إلا القليل، بل فيهم من سمع به يوم نشر موقع " منتدى الدراسات الحضارية" خبر وفاته بكلمات تأبينية مؤثرة، وتساءل بعض الأفاضل والفضليات، هل حقا هذا الاكاديمي المرحوم المناعي فعلا صهر العقيد عميروش، وكيف تعرف على الشيخ البشير الإبراهيمي في بداية الاستقلال؟ وهل هو من أول طلبة مالك بن نبي، علما أننا لم نسمع عنه أنه من أول جيل ، لقد عرفنا وسمعنا عن الدكتور عمار طالبي وعبد الوهاب حمودة ورشيد بن عيسى و .. و من التوانسة سمعنا عن الشيخ الغنوشي أنه كان يتردد على مالك بن نبي أم الدكتور المناعي فلم نسمع عنه شيء !! 

المناعي .. سيرة و مسيرة :

للرد على كل هذه الاستفسارات، هذه بطاقة تعريف مقتضبة للمرحوم والمغفور له بإذن الله تعالى أحمد المناعي، فقد ولد عام 1942 بمدينة الوردانين التونسية، وكان وهو شاب من أكبر أمانيه في حياته زيارة الجزائر، لا بل تطوع في عام 1961 للجهاد في الجزائر ، و ذهب لمكتب جبهة التحرير الجزائرية بتونس فقيل له، الجزائر في طريقها للاستقلال أذهب لإتمام دراستك، رغم ذلك ومع بداية استقلال الجزائر عام 1962، حلَّ بها ضيفا كأستاذ للرياضيات في التعليم الثانوي بالعاصمة صدفة و قدرا قادما من فرنسا، وبعد عام 1964، عاد الى فرنسا لإتمام دراسته الجامعية، في كل من جامعتي قرونوبل وباريس، حيث ناقش رسالة الدكتوراه في الاقتصاد الفلاحي ليصبح خبيرا في التنمية الفلاحية لدى منظمة الأمم المتحدة، وتنقل بين الجزائر وتونس وأوروبا في مناسبات عديدة وبلا مناسبات محاضرا ومناضلا، كما نشرح ذلك في مسيرته الغنية، المختصرة أدناها في محطات مقتضبة.

المناعي وعلاقته بجزائر الاستقلال والشيخ الإبراهيمي وجمعية العلماء:

عن كيفية تعرفه على جمعية العلماء وشيخها الجليل البشير الابراهيمي، كتب المناعي: " في بداية الستينات لما وصلت للجزائر وجدت طالب يوزع جريدة بالفرنسية فلما أطلعت على محتواها النضالي الاسلامي، طلبت مساعدته في نفس اليوم، من ذلك التاريخ، أصبح الصديق رشيد بن عيسى دليلي في العاصمة الجزائر، وإذا بشيخ مهيب يعترضنا - يوما - ويتوقف رشيد لتحيته، وتوقفت بدوري لأسلم على الرجل. سأله رشيد عن أحواله وأحوال سي أحمد وتبادلا التمنيات ثم عبارات الوداع. لم يطل اللقاء وقد كنت على قصره مبهورا بقامة الرجل و بوقاره. عندما انصرفنا سألني رشيد ان كنت أعرف الشيخ؟ فأجبته بالنفي، فقال لي انه الشيخ البشير الابراهيمي من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين…جمعية بن باديس وسي أحمد الذي سالته عنه هو ابنه ( أحمد طالب الإبراهيمي) وهو الآن في السجن لأسباب سياسية !!

مضيفا بقوله :" حدثني رشيد عن جمعية العلماء التي سمعت باسمها من قبل لكن ليس أكثر من ذلك ولم أسمع باسم الشيخ البشير الابراهيمي ولا باسم ابنه المسجون. والغريب أنه حتى في ندوات مالك بالنبي الأسبوعية التي كنت أحضرها بانتظام كل يوم سبت !!" .." ترددت على حلقة مالك بالنبي بانتظام في ظهر كل يوم سبت. كنّا خمسة أو ستة أشخاص ونادرا ما زاد عددنا على ذلك: رشيد بن عيسى وشعيب بودا ورضا الفقيه وهو تونسي، كان يدرس في جامعة الجزائر وأحيانا الدكتور عبد العزيز الخالدي أحد أصدقاء مالك بالنبي، والمسئول عن جمعية القيم التي تأسست بعد الاستقلال الدكتور الهاشمي التيجاني (الذي سيصبح فيما بعد أمين عام جامعة الجزائر)، والدكتور عمار طالبي أستاذ اللغة العربية الذي سيصبح فيما بعد أول عميد جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة وعبد الوهاب حمودة ( الأمين العام لوزارة الشؤون الدينية، فيما بعد) وأحمد المناعي" .." في شهر ماي 1965 قفلت راجعا إلى فرنسا والتحق بي د. رضا الفقيه بعد الإطاحة بالرئيس أجمد بن بلّة، فقد كان من أنصاره ولم يبق له مقام مع النظام الجديد. وهو الذي عرفني بالأستاذ محمّد حميد الله (مترجم القرآن) وبالخصوص بالمرحوم المختار الحجري في باريس" .. على حد تعبير الدكتور المناعي، فيما نشر من مذكراته..

وفور عودته الى تونس مطلع الثمانينات تزوّج أحمد المناعي من سيدة جزائرية، الفاضلة مليكة، ابنة شقيقة المجاهد القائد الشهيد العقيد عميروش، رحمه الله، تعرف عليها وعلى عائلتها عام 1968.

المناعي عاش تحولاً فكرياً جذرياً بلقائه مع المفكر الجزائري مالك بن نبي:

وفي الجزائر عاش أحمد المناعي تحولاً فكرياً جذرياً بلقائه مع المفكر مالك بن نبي (وتعرف على بعض طلبته الأوائل منهم : عبد الوهاب حمودة ورشيد بن عيسى و مولاي السعيد وعمار طالبي،و ..)، هذا التحول أضفى على تفكيره مسحةً روحية لن تغيب عنه أبداً. فيما كانت تونس البورقيبية، تنزع شئياً فشئياً نحو حداثة وضعية، شديدة القسوة، محروسة بالحزب ورجال الشرطة.

كان أحمد المناعي يبتعد شئياً فشئياً نحو عقلانية مفعمةٍ بالروح والإيمان، ولأنه كان دائماً نسيجاً لوحده، فقد كان من بين قلة من زملائه، من ذوي الثقافة الغربية، الذي لم يرَ في الدين أي عائق اجتماعي، كما كانت الدولة البورقيبية تصوره.

وفي الوقت نفسه لم تكن روحانيته مؤدلجةً، وقد حضر أول حلقات مالك بن نبي وبقي متواصلا معه حتى بعد ذهابه لفرنسا ورجوعه لتونس، ويحكي المناعي عن مالك بن بني أيامها، بقوله : " بعد رجوعي الى تونس نهاية 1969 بقيت على اتصال به وتراسلنا، وفي سنة 1970 ترأست اللجنة الثقافية المحلية بالوردانين، ودعوته لحضور ندوة فكرية في الوردانين.

لم أتصور أن الأمر سيعرف تطورا سريعا اذ جاءتني برقية رسمية باسم وزارة التعليم العالي الجزائرية يطلب مني فيها مالك بن نبي - شخصيا - تحديد الموعد. واضطررت للرد بأن الندوة قد تأخرت. كنت على جانب كبير من الخفة فقد دعوته الى ندوة لم أهيئ لها شيئا من الأسباب !!  

مضيفا بقوله : " وقد بقيت على اتصال بمالك بن نبي إلى ما قبل وفاته - بشهرين او ثلاثة حيث أوكل إلي إعادة نشر كتابه وجهة العالم الإسلامي – بالفرنسية، وبعث لي بورقة من ثلاثة صفحات، حدد لي موضع إضافتها في النص الأصلي لكتابه بالفرنسية:Vocation de l’Islam.. وقد سعيت الى جمع المبلغ عن طريق اكتتاب لتغطية تكاليف النشر لكنني لم أوفق في ذلك وفشل المشروع".

 مختتما شهادته عن أستاذه مالك بن نبي بقوله: " كنت في منبولي بفرنسا عندما أعلنت التلفزة الفرنسية وفاة المفكر الجزائري مالك بالنبي، يوم 31 أكتوبر1973، رحمه الله".

كتابه حول التعذيب المنهجي بين مهنية الحقوقي وسردية المؤرخ الراوي

كان المنفى على قسوته كاشفاً، خلال عقدين من الغربة القسرية، وكان أحمد المناعي يقاتل على جبهتين: الاستبداد من جهة والذاكرة والحقيقة من جهة أخرى، و في عام 1995 نشر كتابه، الوثيقة غير المسبوقة في رواية قصة التعذيب في تونس: “العذاب التونسي: الحديقة السرية للجنرال بن علي”Supplice tunisien: Le jardin secret du général Ben Ali. Edition La Découverte, 251 pages (1 mars 1995), de Dr Ahmed Manaï (Auteur).

يلقي الكتاب بحجر في بركة الصمت، هذا الكتاب، الذي أراده الشعب، حول التعذيب المنهجي الذي تمارسه الدولة ضد أبنائها، مستعيداً تاريخ آلة التعذيب هذه منذ الحقبة البورقيبية وصولاً إلى قصته الشخصية، التي جاءت صورها بشعةً ومؤثرةً إلى أبعد الحدود. كما نقل عشرات القصص ولاسيما حالات اعتقال النساء وتصويرهن عاريات من أجل ترهيب أزواجهن، كل ذلك دونه بإحكام ومهنية الحقوقي وسردية المؤرخ الراوي في طيات الصفحات الـ 251 لكتابه المؤثر، ذاك، وقد ساهم بالتعريف به كاتب هذه السطور لدى جاليتنا في سويسرا.

قراءة الكتاب تحبس الأنفاس وتخلق الغصة تلو الغصة لدى محبي الحرية

ولما ترجم الكتاب للعربية طبع في مصر، وكتب الناشر المصري (مدبولي) هذه السطور للتعريف بالكتاب :" قراءة هذا الكتاب تحبس الأنفاس وتخلق الغصة تلو الغصة لدى محبي الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. ويقدم الكتاب صورة عن "تونس الأخرى" بعيدًا عن الاحتفالات الفولكلورية، وتدعو للتفكير حول الحاضر والمستقبل في هذا البلد العربي، وفي الكثير من البلدان الأخرى. ويخلط منه رعب "التعذيب التونسي" مع طموحات ديمقراطي مسلم غير منتمي لأي حزب ولا يمكن تصنيفه ضمن هذه الفئة أو تلك !!

كما استقبل الكتاب في نسخته الفرنسية من طرف جاليتنا في أوروبا بفرح من جهة و تردد أخرى، خاصة من بعض الاخوة التوانسة في الغرب مخافة زبانية بن علي أن ينتقموا من عائلاتهم في تونس، أما غيرهم خاصة - الجزائريين - فقد سارعوا حتى لعرضه على غير العرب خاصة أنه كتب بلغة فرنسية راقية، وحاولنا المساعدة في تسويقه حتى في المساجد ومعارض الكتاب في المدن الاوروبية..

كما شكّل صدور الكتاب ضربةً موجعةً للنظام. حرّك بن عليّ مكاتب وكالة الاتصال الخارجي في باريس وبروكسل وجنيف، للقيام بحملة واسعة في العالم الفرنكفوني للردّ على الكتاب، وكانت التهمة جاهزةً، حول انتماء أحمد المناعي إلى حركة أصولية إرهابيةً. ومع ذلك فقد نجح الكتاب في اختراق التغطية الإعلامية خاصة في الجهات الثلاث (أوروبا والجزائر والمغرب)، وحظي باهتمام واسع من الصحفيين ومنظمات حقوق الإنسان. وحين فشل النظام في هزيمة المناعي بوسائل الدعاية، عمد إلى العنف، عندما دبرت عناصر أمنية تونسية محاولتي اغتيال له، الأولى في 29 فبراير/شباط 1996 والثانية في 14 مارس/آذار 1997.

وقد نجى بأعجوبة من موت محقق في المرتين، دبرت له في فرنسا حتى أدخل المستشفى، وقيل أن أصحاب العملية من شرطة بن علي وقيل غيرهم، و لم يقبض عليهم !! .. 

مشيناها خُطىً كُتِبَت علَينا، ومَن كُتِبَت علَيهِ خُطىً مشاها:

بين فرنسا والجزائر والمغرب و سويسرا، ارتحل خلال عقدين، دارساً ومدرساً وخبيراً و مناضلا و ناصحا ..

عمل المناعي بعديد الدول في كل من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية في مجال الإصلاح الزراعي.. ثم عاد إلى تونس ليشهد ما عرف بــ" ثورة الخبز". كتب عنه صحافي تونسي بقوله " كنت دائماً ما أمازحه بالقول: “إنك كلما حططت الرحال ببلد حدثت فيه ثورة”، فيضحك مردداً بصوت خفيض قولاً للزاهد عبد العزيز الديريني، كما تنسب هذه الأبيات أيضا لأبي الأعلى المعري:

“مشيناها خُطىً كُتِبَت علَينا *** ومَن كُتِبَت علَيهِ خُطىً مشاها.

ومن كانت منيته بأرض *** فليس يموت في أرض سواها! ”

 أدرك بلاده تونس وقد دخلت أزمة النظام والمجتمع نفقاً، من اللايقين والفوضى، لم يكن أحد يدري كيف سينتهي. كان النصف الثاني من الثمانينيات ثقيلاً. جاء انقلاب 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1987، بقيادة زين العابدين بن عليّ ليحقق القطيعة مع بورقيبة، وفي الوقت نفسه الاستمرارية للنظام البوليسي !!

بموازاة هذا الصراع مع النظام التونسي، كان أحمد المناعي في منفاه مخالطاً لكافة أطياف المعارضة العربية والاسلامية، أفراداً وجماعاتٍ. وفي محنة التغريب القسري، شرع في اكتشاف هشاشة المعارضة وأمراضها، الانتهازية والزعاماتية، وضعف التفريق عندها بين المسألتين الوطنية والديمقراطية"، على حد تعبير أحد الاخوة التوانسة.

مع المناضل المناعي في بداية تسعينات القرن الماضي في أروقة الأمم المتحدة

أما كاتب هذه السطور فقد التقاه رفقة الأخ العزيز الدكتور السعيد الهلالي وبعض الأفاضل، في بداية تسعينات القرن الماضي في أروقة الأمم المتحدة مناضلا شرسا ضد حكم بن علي وشلته ومدافعا عن الكرمة الإنسانية عموما في جل القارات، في أول مرة تعارفنا عليه، أفصح لي باسما أنه لم يخدم الجزائر من يوم استقلالها بالتدريس في ثانوية عمارة رشيد ، كما حكى لنا الدكتور رشيد بن عيسى فحسب، بل "أتم الستة للستين" كما يقول المثل المغاربي، وتزوج بأمرة جزائرية من عائلة ثورية، وهو أيضا بن عائلة ثورية من أحفاد المرحوم فرحات حشاد مؤسس ورئيس اتحاد الشغل التونسي التاريخي المعروف" !!..

و أذكر مرة أنه كان متعبا وهو قادم الى مدينة جنيف السويسرية بالقطار من فرنسا، وكنا يومها نحضر لتجمع أمام مبنى الأمم المتحدة ضد نظام بن علي واجتمعنا لكتابة بيان في مقهى مجاور، وإذا به يبادر، بعد نقاشات خفيفة بين الحاضرين، وبسرعة البرق يكتب بيانا متزنا بكل المعايير، فصفق ممثلو الجمعيات الدولية إعجابا بلغة الرجل ودقة مصطلحاته وقوته الفكرية، فقلت له "أنت يا أستاذنا، اسم على مسمى:" المناعي: السهل الممتنع"، فقال لي، ضاحكا: " و أضيف لك من الشعر بيتا، رغم الارهاق، لو كانت معي زرنة المطرب عبد الله المناعي (الجزائري) لمتعتكم، شعرا و تربا وحكمة !!" .. مع مرور الوقت تساءلت، لا أدري هل له علاقة عائلية مع عائلة الفنان المناعي المعروف من وادى سوف في الحدود الشرقية مع تونس، لم أستفسر عن ذلك، أيام كان يزورنا في جنيف؟؟  

إذا ما ضاق صدرك من بلاد، ترحّل طالبا بلدا سواها...

و الرجل كان مشاركا ومشجعا لنشاط جاليتنا في الجامعات والمساجد والجمعيات و النقابات، وقد اعجب مرة بمقال كتبته ونشر في جريدة الزمان اللندنية، كما نشر في موقع منظمة هجرة الدولية، حول معاني الهجرة والتضحية والفداء وختمت مقالي بأبيات أُعجب بها، قائلا لي، " أرض الله واسعة فضاها"هنا مربط الفرص عند السلف والخلف!!

و الأبيات لازلت اذكرها لحد الساعة، حيث يقول الشاعر :

إذا ما ضاق صدرك من بلاد *** ترحّل طالبا بلدا سواها

عجبت لمن يقيم بأرض ذلّ *** وأرض الله واسعة فضاها

فذاك من الرجال قليل عقلٍ *** بليدٌ ليس يدري ما طحاها

فنفسك فز بها إن خفت ضيما *** وخلّي الدار ينعى من بناها

فإنك واجد أرضا بأرض *** ونفسك لا تجد نفسا سواها

وأرزاق لنا متفرقات *** فمن لم تأته منا أتاها

مشيناها خطىً كتبت علينا *** ومن كتبت عليه خطىً مشاها

ومن كانت منيته بأرض *** فليس يموت في أرض سواها

 من العقول الكبيرة التي تستشيرها الشخصيات التاريخية في عالمنا العربي

كان الدكتور المناعي، من العقول الكبيرة التي تستشيرها الشخصيات التونسية الكبيرة في أوروبا، أمثال الوزير الأول محمد مزالي، والشيخ راشد الغنوشي والرئيس الأسبق منصف المرزوقي، وحتى بعض الجزائريين أمثال المرحوم الرئيس بن بلة والمرحوم الوزير الأول الجزائري عبد الحميد ابراهيمي والمرحوم الشيخ العلامة محمود بوزوزو، وبعض القوميين العروبيين واليساريين والحقوقيين والإسلاميين عموما من عرب وعجم، وكان كثير ما يضبط مواعيده معهم في المكتبة العربية القديمة بجنيف التي كان يشتغل فيها تونسي من التيار اليساري، اسمه أظن محمد بن هندة.. فكان حقا رفيق درب وسند جل التيارات في أوروبا، على تناقضاتها أحيانا، الأمر الذي خول له أن يكون سفيرا للمظلومين ومدافعا عن المضطهدين - مهما كانت ألوان الويتهم السياسية- و سندا لهم من طلبة وعمّال وحقوقيين ومعارضين وفي مقدمتهم الإسلاميين حتى من تركيا والعراق ومصر وسوريا واليمن و ..

زاهد في السلطة والمناصب السياسية العليا الدولية

يذكر بعض معاصريه التوانسة بقوله: " أن المناعي كان يسير طرقاً لم يسرها غيره، ويسلك مسالك مخالفةٍ للسائد طلباً للاستقلالية، وربما كانت تلك متعته الوجودية في تجاوز ذاته. جذوره الاجتماعية و رأسماله السياسي، كان كفيلاً بأن يؤمن له موقعاً رفيعاً في الدولة التونسية، ومع ذلك انشق بعيداً سالكاً طريقه الخاصة. ثقافته الواسعة وتعليمه الجيد كانا كفيلين بأن يحققا له مناصب دولية وثروةً مالية لدى المنظمات الأممية، لكنه انشق سالكاً دربه المتفردة، في مؤسسته المستقلة". قال في حديث له على أثير إحدى الإذاعات العربية: " أنا قريب من السلطة بحكم وسط عائلي لم أختره (عائلة فرحات حشاد)… لكن لستُ جزءاً منها، ولم أدخلها يومًا، ولم أفكر في يوم من الأيام أن أكون جزءاً منها في أي مستوى من المستويات (...) لقد تعودت الدفاع عن قضايا اخترتها و انخرطت فيها".

علق بعض معارفه من تونس على خبر رحيله هذا الأسبوع، بقوله :" رحل الدكتور أحمد المناعي في صمت بعد أن أثار جلبة وغبارا بتحركاته صلب المعارضة (لم يكن يلتزم بأي صف ذلك الرجل الحر العنيد) بما خط قلمه وخاصة كتابه “حدائق الجنرال بن علي السرية” حيث وصف فظائع عالم التعذيب الذي ذاق مرارته في قبو الداخلية التونسية… و بإنتاجه الفكري المركز .. لم يتغير الرجل بعد الثورة التونسية الأخيرة ولم يقترب من صفوف الانتهازية ولم يجر خلف “الواصلين” بل كان شديد النفور منهم…

إننا لا نحزن عن رجل نزل ضيفا على الرحمن، بل نقول له طاب مقامك عند الذي يجازي الناس بأحسن مما عملوا

وقضى بقية حياته بين عائلته في تونس التي كان يحبها جدا ويقدر معاناتها جراء نضاله وبين خلانه و شركائه في المشروع الفكري والثقافي الذي ملأ عليه دنياه .. وبين العلاج من مرضه الذي أتعبه في آخر حياته"..

رحل إذن الرجل الخلوق المجتهد الصارم، الذي كانت العرب في الغربة تدين له بالفضل، رحل فجأة حينما توقّفت في صدره تلك المضغة، توقّف قلب رجل لم أعرفه إلا متحركا فاعلا، لصالح الانسان المستغيث مهما كانت أصوله وفصوله!!

وَتَشاءُ أنتَ مِن الأمَاني نجمَةً ، وَيَشاء ربكَ أن يُناوِلك القَمر

غادرنا ومن تونس مسقط رأسه الرحالة أحمد المناعي، من حيث لم نكن ننتظر، إلى دار البقاء، تاركا وراءه بصمته التي لن تمّحي، ستذكره الأعمال التي أتم إنجازها برغم المصاعب والمتاعب، وستذكره الأجيال التي كان يرافع من أجلها في أوروبا خصوصا، كي تكون أنوارا تضيء الأوطان، وليس مجرد أرقام عابرة، وسيذكره الرفاق الذين افتقدوه، وهم على الطريق راكضين نحو العلا، كما أنشد الشاعر السعودي غازي القصيبي (رحمه الله)، قائلا :

وَتَشاء أنتَ مِن البشائِرِ قَطرَةً *** وَيَشاء ربّكَ أن يُغِيثك بالمَطَر

وَتَشاءُ أنتَ مِن الأمَاني نجمَةً *** وَيَشاء ربكَ أن يُناوِلك القَمر

وَتَشاءُ أنتَ مِن الحَياة غنيمة *** وَيَشاءُ ربكَ أن يَسوقَ لكَ الدُرر

وَتَظلُّ تَسعَى جَاهِدًا فِي هِمةٍ *** والله يُعطِي من يَشاء إذَا شَكَر

وكما علمنا أحد مشايخنا، بقوله في مثل هذه الفواجع " إننا لا نحزن عن رجل نزل ضيفا على الرحمن، برغم ألم الفراق، ولا نقول له وداعا، بل نقول له طاب مقامك عند الذي يجازي الناس بأحسن مما عملوا"، مع الصدّيقين والصالحين والشهداء، وإلى الملتقى في جنة الرضوان إن شاء الله، متضرعين إلى الله تعالى، بأن يتغمد الفقيد بواسع رحمته، وأن يفسح له في جنته، ويلحقه بعباده الصالحين، ويفرغ صبره على أهله وأصحابه، ويحسن عزاءهم، في أوروبا وتونس والجزائر وغيرها، مصداقا لقوله تعالى :" و الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجعون".

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services