186
0
وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل...غزة الغائب الحاضر
نهاية فصل وبداية حرب باردة جديدة

بقلم: ضياء الدين سعداوي
في 24 جوان 2025، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وبكل فخر عن نجاح وساطته في إبرام اتفاق وقف إطلاق النار بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، بعد أسبوعين من أعنف مواجهة صاروخية وجوية بين الطرفين منذ الثورة الإسلامية عام 1979، لكن خلف هذا الإعلان "الإستعراضي" لترامب، تختبئ حقائق أكثر عمقًا، تدفع إلى التساؤل عما إذا كانت الأحداث الأخيرة مجرّد استعراض متقن الإخراج، لا أكثر. فما جرى خلال الساعات الأخيرة من التصعيد، وتحديداً استهداف إيران لقاعدة "العديد" الجوية الأميركية في قطر، لم يكن تصعيدًا حقيقيًا، بل ما يشبه الضربة المسرحية المتفق عليها. ضربة أرادت بها طهران حفظ ماء الوجه أمام الداخل الإيراني، و أرادت بها واشنطن تهدئة الساحة دون التورط في حرب مفتوحة، بينما قبلت بها الدوحة لعب دور المسرح الخلفي في مشهد أعاد خلط الأوراق في الشرق الأوسط.
مسرحية مدروسة.. لا ضربة انتقامية
في الظاهر، أطلقت إيران عشرات الصواريخ على قواعد أميركية في العراق وقطر، قالت إنها رد على الهجوم الأميركي-الإسرائيلي الذي استهدف منشآتها النووية الحساسة في نطنز وأراك. غير أن الوقائع على الأرض، والتحليلات العسكرية، تشير بوضوح إلى أن الضربة كانت مجرد "عرض ناري بلا إصابات"، صُمّمَ بدقة لتكون بلا أثر، سوى في الإعلام. التسريبات تفيد بأن روسيا أبلغت إيران مسبقًا بموعد الهجوم الأميركي، وأن طهران بدورها أبلغت موسكو بنيتها توجيه "رد مدروس"، وهو ما وصل في النهاية إلى البيت الأبيض، نتيجة ذلك تم إخلاء قاعدة "العديد" قبل الهجوم، كما تم تعديل أنظمة الدفاع الجوي لتكون في حالة "تأهب تدريبي"، لا قتالي. ومن ثم، تصبح ادعاءات قطر بإعتراض 19 من أصل 20 صاروخًا أكثر قربًا من السخرية منها إلى الواقع ، كيف يُعقل اعتراض هذا العدد من الصواريخ، وبعضها من طراز "فتاح" الفرط صوتي، في وقت لا تملك فيه قطر أنظمة دفاعية قادرة على مجابهتها فعليًا؟!
إيران... بين ردّ الشارع والقيود الإستراتيجية
طهران كانت مضطرة للرد ، ليس فقط للثأر للمنشآت النووية المدمّرة، بل أيضًا لإمتصاص الغضب الداخلي الذي تضاعف مع مقتل عدد من علماء البرنامج النووي، أبرزهم الدكتور سيد محمد رضا صديقي صابر وابنه، في عمليتين منفصلتين نُسبتا إلى الموساد. لكن إيران، في ظل العقوبات الخانقة، و الإستنزاف الداخلي، وغياب الدعم الروسي المباشر، لم تكن قادرة على دخول مواجهة حقيقية مع أميركا وإسرائيل. ولذلك اختارت السيناريو الأسهل: ضربة محسوبة، متفق عليها مسبقًا، هدفها الإعلام والسياسة لا الميدان.
إسرائيل... الخاسر الأكثر ضجيجًا
على الطرف الآخر، خرجت إسرائيل – نظريًا – بإنتصار تكتيكي، دمرت أهدافًا نووية في العمق الإيراني، وأظهرت قدرتها الإستخبارية ، لكن الثمن كان باهظًا، فالهجمات الإيرانية المتكررة (مع طابعها الإعلامي) أصابت العمق الإسرائيلي، ودفعت الملايين إلى الملاجئ، وشلت حركة الطيران، و ولّدت حالة من الذعر غير المسبوق. والأخطر، أن إسرائيل أصبحت الآن مطالبة بالرد على إيران، لكنها تفقد كل مرة القدرة على تحديد توقيت وساحة المعركة. فقد سحبت إيران المواجهة إلى جغرافيا غير تقليدية، شملت اليمن، سوريا، العراق، وحتى الخليج.
ترامب يتوسط... ويبيع رواية "السلام الإقليمي"
في خطابه الذي أعلن فيه الاتفاق، بدا ترامب وكأنه يسوّق حملة انتخابية جديدة .قال إن "إيران وإسرائيل جاءتا معًا تطلبان السلام"، ووصف ذلك بأنه انتصار للمنطقة ، لكن الحقيقة أن ترامب لم يجنِ "سلامًا"، بل فرض "هدنة مرحلية" هشّة، قائمة على التوازن الهش، والتفاهم الغير معلن، أكثر من أي إلتزام حقيقي بوقف الحرب. وفي الكواليس، تؤكد تقارير "رويترز" و"فوكس نيوز" أن ترامب مارس ضغوطًا على أمير قطر لإقناع طهران بقبول اتفاق وقف النار، في مقابل ضمانات أميركية بعدم توسيع العمليات العسكرية.
هل كانت حربًا محدودة أم مجرد بروفة؟
ما جرى بين 13 و24 جوان هو حرب محدودة، بل أقرب إلى "بروفة ساخنة" لحرب كبرى مؤجلة، حُدّدت أهدافها مسبقًا: إسرائيل أرادت تدمير البنية التحتية النووية الإيرانية وإيران أرادت إرسال رسالة بأنها لن تسكت على أي عدوان أما أميركا فقد أرادت تجنب حرب شاملة دون أن تبدو ضعيفة ، في حين أدارت روسيا من الخلف اللعبة عبر التبليغات. ورغم الصخب، لم تخرج أي قوة منتصرة، الخاسر الأكبر كان الشعب الإيراني والمستوطنات الإسرائيلية معًا، ثم المنطقة بأكملها التي أصبحت أكثر هشاشة أمام أي تصعيد قادم.
ماذا بعد وقف إطلاق النار؟
التهدئة لا تعني السلام ، ما جرى ليس اتفاق سلام، بل هدنة مشروطة ، أي إخلال بها قد يعيد الأمور إلى نقطة الصفر. البرنامج النووي الإيراني سيعود إلى الواجهة ، خاصة مع الإصرار الإسرائيلي على منع أي تقدم فيه، ما يجعل احتمال عودة الإستهداف قائماً . في حين أن التوازن الإقليمي تغيّر ، فإيران أثبتت قدرتها على الوصول إلى العمق الإسرائيلي، وإسرائيل لم تعد تملك حرية الحركة كما كانت. الولايات المتحدة استعادت موقعها كضابط إيقاع، لكن بثمن باهظ ، فقدت جزءًا من مصداقيتها أمام الحلفاء العرب، وظهرت كمنسّق وليس كقوة قائدة.
خلاصة المشهد "حفظ ماء الوجه" هو الرابح الوحيد
ما سُمّي بـ"الرد الإيراني" الأخير لم يكن إلا مسرحية محسوبة التفاصيل ، الجميع خرج منها بكامل ملامحه أمام الكاميرات، دون أن يُجرَح فعليًا في العمق: إيران ردّت دون خسائر حقيقية و أميركا تلقت الضربة دون أن تُصاب في حين لعبت قطر دور "البوابة الخلفية" بتنسيق دبلوماسي وأمني مذهل ، إلا أن إسرائيل خسرت في الصورة أكثر مما كسبت على الأرض. الشرق الأوسط إذًا لا يعيش سلامًا... بل يسير على حبل دقيق من التوازنات، يتأرجح بين مسرحية وأخرى، حتى إشعار آخر.*"الشرق الأوسط لم ينته من الحرب... بل غيّر فقط شكلها"*
وتبقى غزة من كل هذا؟ الرمز الغائب الحاضر
وسط ضجيج الصواريخ الإيرانية والمقاتلات الإسرائيلية، كانت غزة تراقب بصمت، دون أن تكون طرفًا مباشرًا في المعركة، لكنها لم تكن غائبة فعليًا عن الصورة. ما جنته غزة من هذا التصعيد الثلاثي (إيران-إسرائيل-أميركا) كان رمزيًا أكثر مما هو ميدانيًا، لكنه بالغ الأهمية سياسيًا واستراتيجيًا.
كسر مركزية الصراع
لأول مرة منذ سنوات، يتم استهداف العمق الإسرائيلي من خارج الجبهة الفلسطينية، ومن دون أن تكون فصائل المقاومة في غزة هي الطرف المبادر. هذه المعادلة الجديدة أضعفت الرواية الإسرائيلية التي لطالما صوّرت بأن غزة هي "العدو الدائم"، وفرضت على تل أبيب إعادة النظر في أولوياتها الدفاعية.
إستراحة تكتيكية للمقاومة
التصعيد الإيراني أتاح لفصائل المقاومة في غزة فترة راحة نسبية من الضربات الإسرائيلية، بعد أسابيع من التوتر في الجنوب. كما منحها فرصة لإعادة التموقع، سياسيًا وعسكريًا، من دون أن تُستنزف في معركة محسوبة التوقيت والنتائج سلفًا.
ورقة ضغط جديدة؟
طهران –من خلال هذه الحرب– أثبتت أن لديها القدرة على التأثير في مجريات الصراع مع إسرائيل من دون إشراك حلفائها التقليديين في فلسطين. لكنها في الوقت ذاته، تركت "ورقة غزة" خارج التصعيد المباشر، ما قد يُفسر بأنه محاولة لحفظها كورقة ضغط مستقبلية أو تجنيبها ردًا إسرائيليًا مدمّرًا.
خسارة معنوية... ورؤية واقعية
في المقابل، شكّل هذا الصراع خيبة أمل لدى الشعوب المؤيدة للمقاومة الفلسطينية، والتي كانت تأمل أن يكون رد إيران موجهًا مباشرة نحو إسرائيل، لا نحو قواعد أميركية أُفرغت مسبقًا. فغزة التي دفعت ثمناً باهظاً في كل مواجهة مع إسرائيل، لم ترَ في الرد الإيراني سوى مسرحية تخلو من "النية الجهادية" الحقيقية في منازلة العدو الصهيوني.
غزة جنت “رسالة”... لا نصرًا
ما جرى لم يكن لصالح غزة بشكل مباشر، لكنها كانت من بين المستفيدين سياسيًا من إعادة ترتيب المشهد، وبروز محور إقليمي جديد قد يغير في المستقبل من موازين الدعم والمواجهة، ومع ذلك تبقى غزة وحدها تدفع ضريبة كل تسوية كبرى في الإقليم، وتُستخدم غالبًا كصندوق بريد لرسائل القوى الإقليمية والدولية... دون أن تُسأل.