513

0

وداع رمضان و"المتسابقون إلى الخيرات" .. من"غزة الجريحة " قصص و عبر لمن يعتبر !!‬

محمد مصطفى حابس : جنيف / سويسرا

من حكمة الله تعالى في خلق البشر أنه جعلهم يحتاجون إلى سدِّ أفواههم، وملئ أجوافهم، وتسكين جوعهم بالطعام، وهي الجبلة التي أدركها إبليس في خلق أبينا آدم - عليه السلام - كما جاء في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما صَوَّرَ الله آدَمَ في الْجَنَّةِ تَرَكَهُ ما شَاءَ الله أَنْ يَتْرُكَهُ فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ يَنْظُرُ ما هو فلما رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ)) رواه مسلم، ومن معانيه أنه لا يملك نفسه أمام شهوة الطعام، ومن هذه الجهة غزا إبليس آدم عليه السلام فأغواه وأخرجه من الجنة حين زين له الأكل من الشجرة المحرمة

لان الله تعالى حين خلق البشر وجعل الطعام قواماً لهم، وسببا لاستمرار حياتهم؛ رزقهم أنواع المآكل ﴿ فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ - أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا - ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا - فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ﴾ [عبس: 27] ثم عدد سبحانه أنواعاً من الطعام. وفي آية أخرى ﴿ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [النحل: 5].

و نحن في العشر الأواخر من هذا الشهر الفضيل، بل في أيامه الاخيرة، لاقى مقالنا، الموسوم " رمضان و"المتسابقون إلى الخيرات" من أوروبا لغزة الجريحة"، رواجا طيبا و لله الحمد خاصة أننا اشرنا فيه لدور جاليتنا المسلمة التي وجهت بوصلة زكاتها وتبرعاتها نحو أرض معراج نبيها، الى غزة الجريحة تحديدا وما جاورها، وقد أثلجت تبرعات المحسنين قلوب أهالينا في فلسطين عموما على قلتها من تبرعات محسنين أفراد لا غير أو بعض الجمعيات الإنسانية الخيرية التي يشرف عليها رجال و نساء من جاليتنا، وقد زودني بعض الأفاضل من المشرفين على هذه التبرعات بتسجيلات نساء وأطفال وهم يشكرون هؤلاء المتبرعين وصداقاتهم التي تأتيهم من أناس لا يعرفونهم، و دهشتهم أمام مفعول تلك الهيبات المادية الصغيرة المعبرة على كافة أفراد العائلات صغارا و كبارا، تلك العائلات التي صارت فقيرة بل جائعة من عشية لضحاها، جراء الحصار الاثم على المنطقة منذ أشهر فقط، و ضاعت كل ممتلكاتها و هدمت بيوتها..   

واليوم و نحن نستعد لنودع رمضان الكريم، تصلني مناجاة عائلات وأرامل عبر بعض الأفاضل، في شكل فيديوهات و تسجيلات تبكينا من جهة و تفرحنا من جهة ثانية، تبكينا لأن الفقر حقيقة معيشة والأمراض أصابت كل الأعمار، و تفرحنا من جهة ثانية أن أمة محمد لا تزال بخير و تتبرع لغزة وأهل فلسطين، ولله الحمد في مد يد المساعدة رغم بعد المسافة الغربة الموحشة على البعض منا في فيافي أووربا..

العلامة عبد القادر الجيلاني و أقصر خطبة جمعة "لقمة في بطن جائع":  

هذا الإطعام وهذه الصدقات وما أجملها من قدر، في العشر الاواخر من رمضان! وما أبهاها من لحظات، لما يتناول الغزاوي وجبة كاملة لم يتناولها منذ أسابيع، على بساطتها! وما أروعها عندما ترتسم على الملامح الدهشة المصحوبة بالابتسامة! وكم جميل أن يسعد القلب لها فتشرق في الحياة شمس جديدة... تبعث الأمل من جديد للحياة، فذكرتني هذه المشاهد بتلك الخطبة العصماء المنسوبة للشيخ عبد القادر الجيلاني منذ ألف عام تقريباً 953 سنة..

و هي أقصر خطبة في التاريخ الإسلامي كما يقال، و التي يقول فيها خاصة: " إذا نزل الدقيق في بطن جائع له نور كنور الشمس ساطع"، والخطبة ألقاها العلامة عبد القادر الجيلاني في المدرسة القادرية يوم من أيام الجمعة في بغداد خلال العهد العباسي الثاني :

فصعد المنبر و قال، باسم الله

لقمة في بطن جائع خير من بناء ألف جامع..

و خير ممن كسا الكعبة وألبسها البراقع..

و خير ممن قام لله راكع..

و خير ممن جاهد للكفر بسيف مهند قاطع..

وخير ممن صام الدهر والحر واقع..

و إذا نزل الدقيق في بطن جائع له نور كنور الشمس ساطع..

فيــــــا بُشرى لمن أطعم جائع....

قوموا لصلاتكم يرحمكم الله ..

و الإمام عبد القادر الجيلي أو الجيلاني أو الكيلاني (470 هـ - 561 هـ) - (1077 - 1166)، هو أبو محمد عبد القادر بن موسى بن عبد الله، ولد في بغداد، ويُعرف ويلقب في التراث المغاربي بالشيخ بوعلام الجيلاني، وبالمشرق عبد القادر الجيلاني، ويعرف أيضا ب"سلطان الأولياء"، وهو إمام صوفي وفقيه حنبلي، لقبه أتباعه بـ "باز الله الاشهب" ( باز هو الصقر- عربية و أمازيغية) و"تاج العارفين" و"محيي الدين" و"قطب بغداد".

وإليه تنتسب الطريقة القادرية الصوفية في تلك الفترة، يحكى أنه مرت سنوات قحط وفقر على بغداد وعلى العالم الاسلامي قبيل ولادة الشيخ عبد القادر الجيلاني وكذلك في العصر الذي عاش فيه. يقول ابن الجوزي في كتابه المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: (وقع برد عظيم بالعراق ... ما رأينا مثله قط، حتى لقد جمد منه ماء دجلة أو كاد، وجمد الخل والنبيذ وأبوال الدواب والناس..).

الرصافي وقصة "لقيتها ليتني ما كنت ألقاها.."

لا نبرح العراق الجريح الذي صار اليوم فقيرا تنهله تمزقات العروش و المذاهب بعد طفرة الارباح منذ عقود و شعب العراق يعاني فقرا رغم وفرة البترول و خيرات دجلة و الفرات، و هنا نذكر بأحد فحول الشعر وأقطابه، الذي يتفنن في وصف الفقر و الجوع و نقص ذات اليد، ويألم لحال الناس عموما ..  

والقصة معروفة للعام و الخاص ، إلا أن قليل منا يعرف تفاصيلها، حيث كان الشاعر العراقي "معروف الرصافي " جالساً يوما، في دكان صديقه الكائن أمام جامع الحيدر ببغداد..

و بينما كانا يتجاذبان أطراف الحديث، وإذا بإمرأة يوحي منظرها العام بانها فقيرة وكانت تحمل صحناً وطلبت بالإشارة من صاحبه أن يعطيها بضعة قروش كثمن لهذا الصحن، ولكن صاحب الدكان خرج اليها وحدثها همساً، فانصرفت المرأة الفقيرة، فاستفسر الرصافي من صديقه عن هذه المرأة.. فقال له صاحبه : إنها أرملة تعيل يتيمين وهم الآن جياع وتريد أن ترهن الصحن بأربعة قروش كي تشتري لهما الخبز !!   

فما كان من الرصافي الا ان يلحق بها ويعطيها اثني عشر قرشاً كان كل ما يملكه الرصافي في جيبه ، فأخذت السيدة الأرملة الفلوس وهي في حالة تردد وحياء و سلمت الصحن للرصافي و هي تقول : الله يرضى عليك تفضل وخذ الصحن فرفض الرصافي و غادرها عائداً الى دكان صديقه و قلبه يعتصر من الالم ...

عاد الرصافي إلى بيته ولم يستطع النوم ليلتها و راح يكتب هذه القصيدة و الدموع تنهمر من عينيه "قصيدة الأرملة المرضعة "كتبت بدموع عيني الرصافي ، فجاء التعبير عن المأساة تجسيداً صادقاً لدقة ورقة التعبير عن مشكلة اجتماعية ((الفقر و الفقراء )).. و كم من أرملة اليوم في عالمنا الاسلامي و كم من يتيم ؟؟

وتعد هذه القصيدة من روائع الشعر العربي في عصر النهضة بل إن من روعتها نال درجة الدكتوارة بها طالب فرنسي في جامعة الزيتونة بتونس وترجمت قصيدته الى اللغة الفرنسية والانجليزية لتعدد الصور الوصفية المؤثرة في نفوس النبلاء :

لقيتها ليتني ما كنت ألقاها... تمشي وقد أثقل الاملاق ممشاها  

أثوابها رثة والرجل حافية ... والدمع تذرفه في الخد عيناها  

بكت من الفقر فاحمرت مدامعها ... و أصفر كالورس من جوع محياها

مات الذي كان يحميها و يسعدها ... فالدهر من بعده بالفقر أشقاها

الموت أفجعها والفقر أوجعها ... والهم أنحلها والغم أضناها

هذا حينما يكون للشعر هدف إنساني نبيل، أما في السير فحدث عن الاطعام و لا حرج ، فقد ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا الزبير بن بكار، ثنا عبد الله بن إبراهيم الجمحي، عن أبيه قال: دخل أعرابي إلى دار العباس بن عبد المطلب رحمه الله وفي جانبها عبد الله بن عباس يفتي لا يرجع في شيء يسأل عنه، وفي الجانب الآخر عبيد الله بن العباس يطعم كل من دخل، فقال الأعرابي: من أراد الدنيا والآخرة فعليه بدار العباس بن عبد المطلب، هذا يفتي ويفقه الناس، وهذا يطعم الطعام.

وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قال: تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلَامَ على من عَرَفْتَ وَمَنْ لم تَعْرِفْ)) متفق عليه، وعن عبد الله بن سلام قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس قبله فكنت فيمن خرج فلما نظرت إليه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما سمعته يقول: «أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام»..

هذه بعض معان الإطعام، خاصة في حالات السلم أو الحرب، كما هو حال أهلنا في فلسطين ..

رمضان وقت السلم غير رمضان وقت الحرب: همسة غزاوية

هذا في وقت السلم أما في وقت الحرب فالأمر غير ذلك، فهو أصعب بكثير، حيث يجد الجد، وفور الخطبة أقترب مني أحد الاشقاء من أرض الوغى من فلسطين، وقال لي هذه الحقائق، التي ذكرتها في خطبتيك، يعيشها أهلنا و أقربائي يوميا في غزة وهم صائمون بطريقتهم، وقرأ لي هذه القطوف التي وصلته لتوها من شقيقه عبر الهاتف، بعنوان : همسة غزاوية، يقول هذا الأخ من أهل غزة وقد نزح ثلاثة مرات داخل القطاع، " بالرغم من مرارة الحرب إلا أن هناك أشياء أدركناها ولم نكن قبل نعطيها الكثير من الاهتمام، و منها:

1- تعلمنا كيف نتوضأ ونغتسل بكمية المياه التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعملها، 2- تعلمنا أحكام التيمم و طبقناها، 3- تعلمنا أن لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع، 4- تعلمنا الأذكار والأدعية المأثورة في حالة الخوف والجزع والكرب، 5- تعلمنا أحكام قصر الصلاة في حالة الخوف وصلاة الخوف، 6- تعلمنا كيف نضع الحجر والحجرين على البطن ليذهب الجوع، 7- أدركنا قول النبي صلى الله عليه وسلم عن وطنه مكة أنها أحب البلاد إلى قلبه و لولا أنه اضطر للخروج منها ما خرج، 8- أدركنا لماذا المهاجرين نالوا هذه المكانة و لماذا

الأنصار نالوا هذا الشرف، 9- أدركنا "نعمة" الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، 10- و أخيراً تعلمنا أن الله وحده المستعان وعليه التكلان!!"، ثم أختتم كلامه متأسفا، على حد قول الغزاوي المتداول في وسائل التواصل الاجتماعي، هذه الأيام قوله:"لقد كسرتنا الدنيا كسراً يليق بها، وخذلنا الناس خذلاناً يليق بهم، ولكن الله سيجبرنا جبراً يليق به." مبتهلا بقوله : اللهم لنا اخوة في الانفاق، خذلهم أهل النفاق والشقاق.. فاجعل يا رب على أيديهم نصرا يملأ الآفاق، وما علينا إلا الإنفاق و الدعاء لمقسم الأرزاق ..اللهم آمين."

اللهم إنا نستودعك بيت المقدس وأهل القُدس وكل فلسطين، اللهم كن لهم عونًا، اللهم إنّا لا نملك إلا الاطعام و الدعاء فيارب لا ترد لنا دعاء ولا تخيّب لنا رجاء، اللهم أنصر ضعفهم فإن ليس لهم سواك ياحنان يا منان يا رب الأرضين السبع و السموات !!

للَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.                                  

   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.

   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.

   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.

   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services