79482

0

مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 133

بقلم اسماعين تماووست 

على الرغم من كل شيء، لم يكن العمل في الميدان يشبه الاحداث  التي تشاهدها في الأفلام، كانت كل لحظة مليئة بالتوتر والتهديد، وكل خطوة  أخطوها  تفتح أمامي نافذة جديدة من الحقائق التي لا يمكن أن تراها إلا إذا كنت مستعدًا للتضحية بكل شيء.

في تلك اللحظات، كنت أعيش حياة ليست عادية، نعم كنت أواجه الموت يوميًا، لكنني كنت أعلم أن هذا هو ثمن الواجب.

كنت أسمع أصواتًا وأرى إشارات لا يدركها سوى من عاش في عالم المخابرات، عالم الظلال والخطوات الحذرة، كنت أتعلم بسرعة كيف أفرق بين أعدائي من مجرد نظرة واحدة، وكيف أتعقب آثارهم رغم الظلام.

كنت أتقن قراءة العلامات التي يتركونها خلفهم، أتعرف على نواياهم من خلال أفعالهم الصامتة.

كل زاوية كانت تحمل تحديًا جديدًا، وكان الظلام الذي يختبئ فيه العدو ليس فقط وسيلة للتخفي، بل كان أيضًا حاجزًا يحجب الحقائق التي نبحث عنها.

أعداؤنا كانوا غير مرئيين، لكننا كنا نعرفهم جيدًا: أولئك الذين يسعون لنشر الفوضى في كل ركن من أركان البلاد.

كان عملي يوميًا يشبه معركة مستمرة مع الزمن، لم يكن لدي وقت للتردد، ولا للراحة. كنت في حالة استعداد دائم، في كل لحظة وكل خطوة، كان علي أن أكون أكثر من مجرد شرطي أو محقق، كنت بحاجة لأن أكون عقلًا فطنا يعرف كيف يقرأ  الحركات والأصوات.

في تلك اللحظات، كنت أرى في هذا الصراع أكثر من مجرد معركة من أجل النجاة، بل  رسالة، أن مسيرتنا تشبه ماعاشه المجاهدين الذين ضحوا بحياتهم من أجل الحرية، مستعدين دائمًا للقتال من أجل الجزائر، ضد كل من يسعى للدمار.

 فالمقصلة، التي ارتبطت في ذهننا بما فعله الاستعمار الفرنسي، تظل رمزًا لقتالنا من أجل الحرية، وأداة تكشف عن إرادة المقاومة ضد الظلم.

كانت تلك المقصلة التي شهدت استشهاد المجاهدين تتحول في ذهني إلى رمز آخر: رمز العزيمة والصمود،  حيث كان المجاهد يواجه الموت بنشوة التضحية من أجل وطنه، بينما كنت أواجهه بنفس القوة، لكن مع سلاح العقل والإرادة، إيمانًا مني بأن هذه الأرض تستحق السلام والحرية.

ومع ذلك، يمكنني القول أنني توصلت لنتائج ملموسة استطعت تحقيقها بفضل مثابرتي وإيماني العميق بما شرعت في القيام به منذ بداية التمرد.

كانت تلك المعارك تُخاض بعزيمة لا تعرف الكلل، وبدون انقطاع، من أجل نصرة الحق  والقضاء على ذلك العدو الذي لا يفرق بين أحد.

من الواضح أن كل عصر من عصور الصراع يترك في الأذهان آثارًا من الألم تفوق ما تتركه  لحظات السعادة.

ورغم ذلك أن هناك جزائريين آثروا الاختباء بدافع الخوف من الانتقام، ولكن مهما كانت الأسباب فهي غير كافية لتكون مبررا للهروب من المسؤولية تجاه الواجب الوطني الذي ينبغي علينا جميعًا حملها بكرامة وشرف.

وعلى النقيض من هؤلاء المترددين، كان هناك جزائريون وجزائريات يتميزون بإرادة لا تلين، لم يستطيعوا البقاء مكتوفي الأيدي أمام الظلم. كانوا بالفعل  يساهمون بفعالية في النضال، كلٌ حسب قدراته وإمكانياته، ومعتمدين على طرق متنوعة تتناسب مع الظروف المحيطة، كانوا يقاتلون لوضع حد للتجاوزات، والاعتداءات، وللقضاء على العنف الوحشي والمعاناة الجسدية والنفسية التي لا تحتملها الضمائر ولا يتسع لها العقل.

أما بالنسبة لي، وبالأخص زملائي من رجال الشرطة في فريقي، فقد اتخذنا خلال تلك الفترة  خطوات جريئة رغم المخاطر، بخطوات قد تبدو متسرعة أو متهورة في نظر البعض، لكنها كانت مدفوعة بإحساس عميق بالواجب وبالعدالة، لأننا كنا ندرك تمامًا أن الطريق الذي اخترناه ليس سهلاً، بل مليء بالتحديات والصعوبات، ولكننا كنا على يقين أننا نسير في درب الحق، مهما كلفنا  الثمن.

إن العمل في زمن الإرهاب في الجزائر لم يكن مجرد أداء واجب وظيفي، بل كان رحلة فلسفية داخل أعماق النفس البشرية، مواجهة بين الخير والشر، بين الأمل واليأس، تعلمنا أن الشجاعة ليست مجرد مواجهة الخطر، بل هي الإيمان العميق بالعدالة والحق، والإصرار على تحقيق التغيير الإيجابي في مجتمع يسبح في الظلام.

لقد أدركت من خلال تجربتي أن القوة الحقيقية تكمن في المعرفة والحكمة، وأن العقل والقلب يجب أن يسيرا جنبًا إلى جنب في سبيل بناء مجتمع متماسك وعادل.

فالعنف لا يمكن أن يكون حلاً، بل هو بداية المزيد من المعاناة والدمار، ولذلك، كان هدفنا ليس فقط مكافحة الإرهاب، بل أيضًا زرع بذور السلام والتعايش في نفوس الناس.

وفي خضم تلك المعارك، كان لنا ضمير يذكرنا باستمرار بأهمية العلم والمعرفة كدرع واقٍ ضد الجهل والتعصب. فقد كانت دعوة الله تعالى: "وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا" [طه: 114]، نبراسًا لنا في مسيرتنا، تحثنا على السعي المستمر للعلم والتطوير، لنكون قادرين على مواجهة التحديات بوعي وفعالية.

إنني أؤمن أن النور الحقيقي يكمن في قلوبنا التي  آثرت الصمود رغم الألم...

يتبع...

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services