17241
0
مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة "113"
بقلم اسماعين تماووست
غرقنا للحظة في صمتٍ استذكارا لشهدائنا الأبرار، كأنما الزمن توقف ليسترجع من ضحوا بأرواحهم من أجل حرية الوطن، كان الصمت يحمل عبئًا ثقيلًا، وكأن كل زاوية في المكان تردد صدى تضحيات أولئك الذين قدّموا دمائهم كي نعيش نحن بكرامة.
ومع ذلك، أدركنا سريعًا أنه من الضروري الخوض في سبب اللقاء وموضوع الساعة، فقد كان الوضع يتطلب منا التفكير بعمق وتركيز، في تلك اللحظة، شعرت بأن كل كلمة تصدر عنه تحمل أمانة تليق بعظمة المسؤولية التي يتحملها، لم يكن حديثه مجرد كلمات عابرة، بل كان يحمل بين طياته عبق الماضي والمستقبل معًا.
كنت أعرف أن الحديث معه سيكون أساس فهم ما نحن مقبلون عليه، بعدما ترك مشاعره جانبًا، أظهر لي حكمة ونضجًا استثنائيين، لذلك كنت أعلم في أعماق نفسي أنني أمام شخص مخلص ومتفهم، يملك من الفطنة والذكاء ما يجعله قادرًا على قراءة الواقع واستشراف المستقبل.
كان في حديثه تركيزا على تفاصيل دقيقة، وهوما أعطاني انطباعًا أنه لا يتحدث عن الماضي فقط، بل ينظر إلى المستقبل بتمعن، كانت تلك الانطباعات الأولى تعزز شعوري بالراحة معه، إذ أظهرألفة وطمأنينة منذ البداية، لم يكن يتبع أسلوبًا رسميًا، بل كان يتحدث بلغة واضحة وصادقة، تعكس شخصيته الطيبة والمرنة، تحدث عن سعادته بلقائي، وهو ما كانت توحي به كلماته واستقباله، كأنه يعبّرعن تقديره لجهود من ضحوا من أجل الوطن، ما أضفى إلى الجو العام نوعًا من الألفة والدفىء في الحوار.
على الرغم من كل ما يحيط به من تحديات ومسؤوليات، كانت نبراته تحمل قدرًا من التفاؤل والأمل، لم يكن يتحدث عن الصعاب التي يواجهها بل كان يركزعلى الحلول والرؤى المستقبلية، كان يدرك أن الأمن لا يأتي باليأس، بل يتطلب الإصرار والمثابرة، ويتطلب من الجميع التعاون لبناء وطن قوي ومزدهر، في كل كلمة يقولها، هناك دعوة للعمل المضي قدمًا رغم التحديات.
تجاذبنا أطراف الحديث في موضوعات متنوعة، واكتشفت من خلال كلامه أنه كان يدرك جيدًا أن العمل في جهاز الشرطة لا يتطلب قوة الذراع فقط، بل قوة القلب أيضًا، وكان لهذا الوضوح في شخصيته تأثيرًا عميقًا في نفسي، إذ كنت أرى فيه تجسيدًا حيًا للقيم التي يجب أن يسعى الجميع لتحقيقها.
لم تكن كلماته مجرد مدح عابر، بل كانت تعبيرًا صادقًا عن احترامه لمجهوداتنا جميعًا في سبيل تحقيق الأمن والاستقرار، وتعبيرا عن الحاجة إلى العمل الجماعي، لذلك فالتحديات التي نواجهها تتطلب منا تكاتفًا قويًا وعزيمة لا تلين.
وبالرغم من هذا التفاؤل الذي كان يبعثه فينا، إلا أن حديثه لم يخلُو من الواقع الملموس والتحديات التي يجب مواجهتها، ففي حديثه عن الأمن، كان يؤكد مرارًا وتكرارًا على أهمية العمل المستمر من أجل بناء مستقبل أفضل و كانت رسالته واضحة: "لا تهاون في ما يخص الأمن، ولا مجال للخطأ إذا كان الأمر يتعلق بحياة الأبرياء".
كانت كلماته حافزًا لي ولزملائي للتمسك بمبادئنا وأخلاقنا في عملنا اليومي، وللتأكد من أننا نسير في الطريق الصحيح، ونقطة انطلاق لفهم أعمق للمرحلة التي نمر بها، فقد علمنا أن الأمن ليس مجرد تصدي للتهديدات الظاهرة، بل هو عمل مستمر لبناء مجتمع متماسك، يحترم فيه الجميع القيم والمبادئ.
وبالرغم من كل الصعوبات، كان دائمًا يؤكد على أن الأمل موجود، وأن العمل الدؤوب هو الطريق الوحيد للتغيير، وبتلك الكلمات التي اختتم بها حديثه، ترك فيّ شعورًا بالثقة والتفاؤل، لم يكن حديثه مجرد سرد للواقع، بل كان دعوة للتغيير، ويدًا ممدودة للجميع للمشاركة في بناء وطن آمن ومزدهر.
إن الاجتماع الذي جمعني بالمسؤول كان ذو طابع خاص، إذ كان الهدف الرئيس هو إيجاد أنجع الوسائل لمكافحة حرب العصابات التي شكلها متمردون، كانوا غارقين في جهلهم، يسعون بشراسة إلى السلطة على حساب دماء الأبرياء.
وكان اللقاء بمثابة فرصة لبناء تنسيق أقوى بين أفراد جهاز الشرطة، وتعميم الاستراتيجيات الرامية إلى تقليص العنف وإعادة السلام إلى أرجاء البلاد، حيث إن هدفنا كان القضاء على هذا الشر المتفشي من أجل وطن خالٍ من الفوضى والمآسي.
في أول لقاء بيننا، كان المسؤول عن مديرية الأمن الوطني (DGSN) شخصًا شديد الملاحظة، حضوره كالعاصفة، ولا مجال في فكره للكسل أو تضييع الوقت في ظل هذه الظروف العصيبة التي تمر بها الجزائر، كانت عيناه تشعان بعزيمة ووضوح، ورغم أن ملامح وجهه كانت تبدو حادة، إلا أن هناك لمحة من الأمل تتسلل بين جوانحه، وكأن قلبه ينبض بمسؤولية لا تقبل التأجيل.
وعندما دخلنا في صلب الموضوع، أفضى إليّ بحيرة شديدة كانت قد أثقلته، أنه تلقى أوامر صارمة لإنهاء القضية الجنائية التي بين أيدينا في أقرب وقت، لكنَّه بدا عاجزًا عن تفسير سر تأخر التحقيقات، حتى وصل الأمر إلى قناعة مريرة بأن الإرهاب الذي يجتاح البلاد قد يتحول إلى خطر داهم يعم جميع أرجاء الوطن.
كانت كلمات هذا المسؤول تخرج من بين شفتيه، مشوبة بحزن وألم، ولكنها كانت تحمل أيضًا قدرًا هائلًا من الإصرار، وهذا ما جعله مقتنعا أن الوقت قد حان لاتخاذ قرارات حاسمة،هذه القناعة كانت تتجسد في كل حركة من حركاته.
إذ بدا وكأنه قرأ كل صفحات التاريخ التي مرّت بها الجزائر، وتعلم منها كيف يمكن للشرأن يتفشى بسهولة إذا تُرك دون رادع، لذلك قدرته على قراءة المواقف بحنكة، فاقت بكثير حجم الكلمات التي كان يلفظها.
كان هذا الرجل يعبّر عن جيلٍ من الضباط الذين ظلوا صامدين، متمسكين بمبادئ العدالة والقوة في مواجهة الظلم، كان حديثه يحمل معاني كثيرة، وأكد لي أنه لا يمكن القوة وحدها غير كافية، بل يجب أن تتناغم مع الرؤية الإنسانية والتزام العدالة.
لقد شعرت بوجود طاقة عجيبة في حديثه، جعلتني أشعر بأنني أقترب أكثر من اللحظة الحاسمة في هذه المعركة، "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم." (الرعد: 11) وهذا ما كان يتجسد أمامي، في تلك اللحظة، أن التغيير يجب أن يبدأ من داخلنا وذواتنا، لنحقق الأمل في وطنٍ آمن..
يتبع....