132595
5
شاهد على سنوات الجمر الحلقة "140"

بقلم اسماعين تماووست
كنتُ مضطراً في تلك اللحظات القاسية إلى اتخاذ قرارات حاسمة وبسرعة لا تحتمل التأخير.
كل قرار كنتُ أتخذه كان يحمل في طياته عواقب ثقيلة، فقد كانت هذه اللحظات من أكثر الفترات التي عشتها توتراً وقلقاً.
في تلك الفترة، كان عليّ العودة إلى علاقاتي القديمة، علاقات قديمة محفوفة بالمخاطر، قد يُقدّر لها أن تُسهم في تأمين المعلومات اللازمة. وفي هذا السياق، كان الاحتمال الوحيد لتحقيق التقدم، إن كان هناك أي تقدم، هو المضي قدماً نحو الهدف، كانت هذه الفرصة الوحيدة لإثبات قدراتي، وكذلك قدرات زملائي في المجموعة الوفيّة التي كنت أنتمي إليها.
ولكن، لم يكن هذا الطريق خاليًا من المخاطر. كان من المحتمل أن تترتب على قراراتي مسؤوليات جسيمة، ربما تُحملني عواقب غير متوقعة قد تترك آثارًا سلبية على المستوى النفسي والمعنوي، ومع ذلك، كان من المهم أن أُشير إلى أنني كنت أملك في تلك اللحظات مجموعة من المخلصين الذين كانوا على استعداد للدفاع عن وطنهم بكل ما أوتوا من قوة، وكان من بينهم من عانوا من قلة الموارد وندرة الإمكانيات، حتى أنهم كانوا في أمسّ الحاجة إلى الدعم.
ومع ذلك، كانت قناعاتي أقوى من كل شيء. كنتُ ملتزماً بأنني سأتجاوز كل الصعوبات والمعوقات التي قد تواجهني، كانت الخيارات المالية واللوجستية أمراً ضرورياً في تلك المرحلة، وقد قدمتُ لهم ما يحتاجونه من موارد: المال، والإمدادات الضرورية، والمواد الأخرى التي كانوا في حاجة إليها، وذلك في سبيل الحصول على شيء واحد فقط: المعلومات التي كنت أحتاجها لكشف خطة الإرهاب.
في تلك الحقبة المظلمة، كانت الأمور تسير بسرعة أكبر من أي وقت مضى. لم أكن أبالغ عندما أقول إنني كنت أمارس تقنيات مشابهة لتلك التي استخدمها الإرهابيون أنفسهم، لأن في تلك اللحظات، كان النجاح هو الأولوية الكبرى.
كان من الضروري أن أحقق نتائج سريعة وفعّالة، ليس فقط لحماية الأرواح ولكن من أجل ضمان أن لا يسقط المزيد من الأبرياء .
فذلك الوقت كان من أسوأ الأوقات التي مر بها الوطن، حيث كانت تهديدات الموت تلاحقنا من كل جانب، وكنّا نعيش في حالة من انعدام الأمن شبه الكامل.
مع كل هذا، كان المال هو الوسيلة التي شغلت أفكاري. كنتُ على يقين بأن المال، في جميع الأوقات، هو المحرك الأساسي الذي يدير العالم. فالرجال والنساء، بل وحتى الحكام، لا يمكنهم مقاومة تأثيره، في ذلك الزمن المظلم، كان المال هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق الأهداف، أداة لتوجيه البشر نحو ما يريده الإرهابيون أو ما يريده المخلصون الذين يسعون إلى تحقيق العدالة.
في تلك اللحظات، كنتُ على يقين أنه مهما كانت الأدوات التي أستخدمها، حتى وإن كانت قريبة من أساليب الإرهابيين، فإن الهدف يبقى واحداً: حماية الحياة البشرية. كنتُ أؤمن بقوة أن الأعمال الكبرى لا تتحقق إلا بتجاوز الممنوعات أحيانًا، ولكن في النهاية، يبقى الطريق الوحيد الذي يستحق أن نسلكه هو الذي يضمن حياة الأبرياء، مهما كانت التضحيات.
كانت الأفكار تتسارع في رأسي، وكأنني كنت على حافة قرار لا عودة فيه.
كان ذهني قد استعد تمامًا لمواجهة المواقف الصعبة التي كنت على وشك خوضها، وسط شعور عميق بالقلق حيال الجهل الذي كان كوحش مفترس، يلتهم كل ما في طريقه. لذلك، قررت بلا تردد أن أقدم المال كوسيلة للوصول إلى ما أبحث عنه، حتى وإن كانت تلك الأموال قد تسبب لي التورط في ديون كبيرة. كانت تلك هي الخطة الوحيدة التي تضمن لي الوصول إلى المعلومات التي كنت أحتاجها.
في ذلك الوقت، كان المال بالنسبة لي أداة لا غنى عنها.، كنت أعلم أن الحصول على معلومات موثوقة لا يكون بدون ثمن، لأمن الأمر يتطلب تضحيات، وأن التكلفة ستكون باهظة.
كان السؤال الأهم بالنسبة لي في تلك اللحظات: هل سأكون قادرًا على تحمل عواقب هذه التضحيات؟ كنت أدرك تمامًا أنه في هذه الظروف الاستثنائية، يمكن أن تكون القرارات الخاطئة قاتلة، لكن كل هذه المخاوف لم تكن تقارن بالهدف الذي كنت أسعى إليه. كانت الجزائر في تلك اللحظة على شفا الانهيار، الدماء تسيل في كل مكان، وكأن النيران تلتهم كل ما في طريقها، تُسرع وتيرة العنف، و الدمار مزروع في كل زاوية من بلدنا الحبيب.
كنت أعيش في وسط هذه الفوضى المدمرة، حيث كانت الجرائم تتوالى في كل لحظة، وفي كل مكان، الإرهابيون ينفذون عملياتهم الوحشية بلا رحمة، هدفهم الوحيد نشر الذعر والفزع في قلوب المواطنين العزل.
كانت استراتيجيتهم تقوم على زرع الخوف في كل مكان، لتجعل الناس يعيشون في حالة من الهلع المستمر. هؤلاء الإرهابيون، الذين لا يملكون أي قيم إنسانية، ينفذون جرائمهم بدم بارد، مستهدفين كل من يعترض طريقهم.
وبينما كانت الفوضى تعم، كنت أعرف أن بلدي بحاجة إلى كل جهد ممكن، وأنني لابد أن أواصل البحث عن المعلومات بأي ثمن.
كانت هذه المرحلة من حياتي مليئة بالضغوطات، فكل قرار أتخذه كان يحمل معه عبئا هائلًا، وتداعيات قد تلاحقني طيلة العمر. ومع ذلك، لم يكن لدي خيار آخر سوى أن أواصل السير قدمًا، عازمًا على تحقيق النتيجة التي كنت أسعى إليها مهما كانت العواقب.
ففي وسط الظلام، لا يمكن للإنسان أن يظل في مكانه، بل عليه أن يتحرك، لأن الضياء لا يأتي إلا من قلب الليل.
في لحظة تلبّدها اليأس العميق، كان في داخلي بركانٌ من الغضب لا تهدأ نيرانه. لقد تجاوزت وحشية عدونا اللدود كل تصور، ودفعتني قسوته إلى مواجهة مسؤولياتي بثبات لا يتزعزع، تلك المسؤوليات كانت دعوة للدفاع عن الوطن، دعوة تُلزمنا بالتضحية بالنفس والروح، مهما كان الثمن.
وفي تلك الأوقات الحالكة، حين كانت الأرض تموج بالعنف والخيانة، خان البعض أمانتهم. تركوا أوطانهم تغرق في الظلام، ورحلوا في اللحظة التي كانت الأوطان بحاجة ماسة إليهم. ذكريات تلك الأيام تعود لتطاردني ككابوس لا ينتهي، تذكرني بضعف البشر وهشاشتهم أمام شهوة الحياة والنجاة.
لكنني كنت أؤمن بسلاحٍ أعظم: الشجاعة.
كرجل شرطة، فالشجاعة هي القوة الحقيقية التي تجعل الإنسان يواجه الصعاب والآلام دون خوف.
لم أكن أخشى الموت، فقد كنت أؤمن أن الحياة اختبار، والموت هو اللقاء الحتمي. الإيمان كان زادي، واليقين قوتي.
لقد عشت دائمًا بروح مسلمة، مخلصة لديننا و وطننا، أؤمن بعمق بكلمات الله في كتابه الكريم، وأثق بأن لكل إنسان أجله المكتوب.
لقد أيقنت أن المسلم الحقيقي لا يخشى الموت، بل يخشى الخيانة، يخشى أن يخلف وراءه أثرًا ملوثًا بالخزي والعار. ومع ذلك، كانت هناك نفوس ضعيفة اختارت الجبن والخيانة، تاركة الوطن للدمار، وأصبحوا جزءًا من مأساة لا تغتفر.
خلال تلك المرحلة، كان عليّ مواجهة الظلم بكل أشكاله. هؤلاء المجرمون، قتلة الأرواح، سارقي الكرامة والشرف، كانوا مثالًا حيًا للشر المطلق. عجزوا عن رؤية الفارق بين الحق والباطل، بين العدل والظلم، وضلوا طريق الإنسانية.
لكنني كنت أعلم أن العدل، مهما تأخر، لا يموت، و أن العدالة الإلهية هي النور الذي لا يخفت والسيف الذي يقطع الظلم.
"الشجاعة ليست في مواجهة الموت، بل في مواجهة الحياة بشرف، والرحيل عنها بنقاء.
...يتبع