149

0

خطاب الوزير بين أرقام الاقتصاد وحقيقة التحول..

تشريح معمّق لردّ وزير المالية حول مشروع قانون المالية

 

بقلم: الحاج بن معمر 

جاء خطاب وزير المالية الجزائري عبد الكريم بو الزرد، أمام نواب المجلس الشعبي الوطني في لحظة سياسية واقتصادية دقيقة، اتسمت بتزاحم الأسئلة وتشظّي القراءات، بين من يتهم الحكومة بتجميل الأرقام، وبين من يرى أن البلاد تدخل مرحلة تحول اقتصادي حقيقي، وإن كان بطيئاً ومشحوناً بالاحترازات. 

خطاب الوزير الذي بدأ بعبارة “وكأننا لا نعرف الاقتصاد” لم يكن مجرد افتتاح لغوي عابر، بل كان مؤشراً على حجم التوتر الذي رافق مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2026، وحجم الضغط النفسي والسياسي الذي بدا واضحاً على ملامح الوزير.

فقد ظهر الرجل متعباً لكنه مصمماً على الدفاع عن خيارات وزارته، معتبراً أن ما تقدّمه الحكومة من معطيات حول الاقتصاد الكلي “حقيقي وغير مفبرك”، وهي جملة تكشف حرصه على نزع أي شبهة مبالغة أو تضخيم من جهة، ومحاولة تثبيت مصداقية لغة الأرقام الحكومية من جهة أخرى. ولعل أخطر ما قاله الوزير، وأكثره إثارة للنقاش الاقتصادي، هو تصريحه بأن “الاقتصاد الجزائري خرج من الريع".

هذه العبارة وحدها تستحق فصلاً كاملاً من التحليل، لأن سؤال الخروج من الريع ليس سؤالاً سياسياً بقدر ما هو سؤال بنيوي في اقتصاد يعتمد تاريخياً على المحروقات في خلق القيمة وفي تمويل الميزانية وفي تحديد معادلة توازن الدولة.

فهل يقصد الوزير الخروج من “منطق استدامة الريع” أم الخروج من “هيمنة مداخيل النفط”؟

إذا كان المقصود أن الجباية العادية باتت تشكّل ثلثي الإيرادات، فإن ذلك صحيح من حيث الشكل، ولكنه لا يعني بالضرورة “خروجاً” من الريع، لأن مصادر الجباية العادية نفسها تتحرك في ظل اقتصاد ما يزال غير متنوع، يعتمد في حركة معاملاته على القطاعات التي يغذيها الإنفاق العام المتولد بدوره من الإيرادات البترولية.

بمعنى آخر، لا يمكن الحديث عن اقتصاد غير ريعي في ظل غياب قاعدة إنتاجية واسعة، وفي غياب صادرات خارج المحروقات ذات وزن معتبر. لذلك كان من الأجدى، اقتصادياً، أن يوضح الوزير المقصود الدقيق من هذا “الخروج”، هل هو خروج من “الاعتماد المباشر على مداخيل الريع في توازن الميزانية”، أم خروج من “التفكير الريعي” في السياسات العامة؟ فبين اللفظ والمعنى مسافة تستحق الدقة، لأن الاقتصاد لا يُقوّم بالخطابات، بل بالهياكل.

واصل الوزير حديثه مؤكداً أن السياسات المالية والاقتصادية المتّبعة في السنوات الأخيرة سمحت بتحقيق نمو معتبر والتحكم في التضخم والحفاظ على التوازنات الخارجية، وهي مؤشرات مهمة في مربع كالدور الذي يشمل الاستقرار النقدي والمالي والنمو والتشغيل.

غير أنه حين ركز على ثلاثة منها فقط، متجاهلاً مسألة التشغيل الأمثل للموارد البشرية، فقد كشف – ضمناً – أن ملف الشغل لا يزال أحد أعقد الملفات التي لم تستطع السياسات الاقتصادية الحالية تقديم نموذج مقنع لحلها.

وهذا التجاهل ربما كان مقصوداً حتى لا يدخل الوزير في جدل مع النواب حول ارتفاع معدلات البطالة أو هشاشة التشغيل، خصوصاً في القطاعات التي تتأثر مباشرة بميزانية التجهيز.

في معرض حديثه عن ميزانية 2026 المقدرة بـ17 ألف مليار دينار، حاول الوزير تفكيك الانطباع القائل بأنها “أضخم ميزانية في تاريخ الجزائر”، مبيّناً أن الارتفاع السنوي للميزانية يعكس ارتفاع الأسعار والتضخم وليس توسعاً حقيقياً في القدرة المالية للدولة.

وفي هذه النقطة قدّم الوزير قراءة تقنية دقيقة: فالميزانية ترتفع اسمياً بسبب انخفاض قيمة الدينار وزيادة الإنفاق العام بالدينار، بينما قيمتها الحقيقية، أي قدرتها الشرائية، لا ترتفع بالضرورة.

وهذا تحليل مهم لأن الكثير من الخطابات السياسية تتعامل مع الرقم الاسمي دون النظر إلى مؤشرات التضخم وسعر الصرف، وهو ما يجعل المواطنين يشعرون بتناقض بين التصريحات الرسمية والواقع.

فمن الناحية العلمية، لا يمكن تقييم “ضخامة” ميزانية ما إلا بمقارنتها بالقيمة الحقيقية وليس الاسمية، لأن التضخم يمتص جزءاً مهماً من نجاعة الإنفاق العام.

أما النقطة التي بدت أكثر حساسية في الخطاب، فهي قول الوزير إن نسبة تنفيذ الميزانية في الجزائر تدور سنوياً حول 70%، وهو ما يعني أن ثلث الميزانية تقريباً لا يُنفّذ.

هذا التصريح يعدّ سابقة في لغة الشفافية الحكومية، لأنه يكشف بوضوح أن مشكلة المالية العمومية ليست فقط في حجم الاعتمادات، بل في القدرة المؤسسية على تحويل هذه الاعتمادات إلى مشاريع فعلية.

وفي ظل هذا الواقع، قدّر الوزير بأن العجز الحقيقي لن يبلغ 9000 مليار دينار كما يُشاع، بل حوالي 5000 مليار دينار، بناءً على تنفيذ فعلي أقل من المتوقع. وهذه النبرة العملية في التعامل مع أرقام العجز تُظهر محاولة لتبديد المخاوف من توسع الدين العام، خصوصاً في سياق دولي يشهد تشدداً مالياً.

وحين انتقل الوزير إلى شرح كيفية تمويل العجز، أكد بلهجة واثقة أن الاستدانة الداخلية خيار ممكن وآمن، وأن الدولة قادرة على الإيفاء بالتزاماتها، مشيراً إلى أن الدين العمومي الداخلي يبلغ 18 ألف مليار دينار موزعة بين تمويلات الخزينة والتمويل غير التقليدي وديون الشركات العمومية الكبرى.

هذه التصريحات تبني خطاباً اقتصادياً هادئاً يحاول طمأنة الشارع بأن الدولة لا تتجه إلى “دوامة دين” غير مسيطر عليها، كما يحدث في دول أخرى.

لكنه في الآن نفسه خطاب يحتاج إلى توضيح أعمق، لأن قدرة الدولة على سداد الدين الداخلي ترتبط ارتباطاً جوهرياً بأداء القطاعات الاقتصادية المنتجة، وهو ما لم يتوسع الوزير في شرحه رغم أهميته.

أما النقطة الأكثر جرأة في الخطاب فكانت بلا شك حديثه عن “التسوية الجبائية”، حين قال موجهاً كلامه لغير المصرّحين: “توب وادفع 10%”، مضيفاً: “دخلت 100 ألف أعطينا ألف”. هذه العبارة المباشرة تحمل فلسفة اقتصادية واضحة: فتح باب “المصالحة الجبائية” قبل الانتقال إلى الرقمنة الشاملة.

وهو نفس ما دعا إليه عدد من الخبراء سابقاً باعتبار أن التوسيع الأفقي للضريبة لا يمكن أن يتم إلا عبر استيعاب الكتلة غير الرسمية وتقنينها. الوزير يريد إرسال رسالة مفادها: “الفرصة الأخيرة قبل الرقمنة”، وهو ما يكشف أن الدولة تتجه فعلياً إلى إغلاق منافذ الاقتصاد الموازي عبر المسار الرقمي، وليس عبر المتابعات الكلاسيكية فقط.

وفي النقطة المتعلقة بمراجعة قواعد الاستدانة من البنك المركزي ورفع سقفها إلى 20%، بدا الوزير حاسماً في دفاعه عن القرار، متسائلاً: “هل الجباية البترولية مال حرام؟”، في إشارة إلى أن قوانين التمويل السابقة كانت تتجاهل تداخل مداخيل الدولة، وتتعامل فقط مع الجباية العادية.

هذه المقاربة تعكس رؤية جديدة داخل وزارة المالية مفادها أن الفصل بين المداخيل البترولية وغير البترولية يجب أن يكون إدارياً فقط، لا سياساتياً، وأن الدولة غير مضطرة لتقييد نفسها بقواعد جامدة حين تتغير الظروف الاقتصادية. لكن هذا الطرح يحتاج إلى نقاش أوسع لأن استعمال مداخيل المحروقات في تمويل الإنفاق الجاري قد يعيد البلاد إلى “الاعتماد النفطي” بطريقة غير مباشرة.

أما ملف الدعم، فقد قدّم الوزير فيه تشخيصاً منطقياً حين قال: “كيف ندخل في توجيه الدعم دون بيانات؟”.

هذه الجملة تلخص فلسفة التحول القادم: رقمنة شاملة قبل أي قرار هيكلي. الوزير اعترف بأن لجنة إصلاح الدعم كان يفترض أن تبدأ عملها في 2022 لكن غياب قاعدة بيانات وطنية موحدة جعل الأمر مستحيلاً.

واليوم، مع تقدم الرقمنة وتكامل قواعد البيانات بين القطاعات، بدأت ملامح “الدعم المستهدف” تقترب من التطبيق. وقدّم الوزير مثالاً بوزارة السكن التي باتت تعتمد على بيانات أملاك الدولة لمعرفة أملاك المواطنين قبل منح السكنات المدعومة.

غير أن السؤال الأهم الذي لم يجب عنه الوزير هو: متى ستكتمل الرقمنة الكاملة التي تسمح بإطلاق نظام دعم عادل فعلاً؟ فالإصلاح لن يكون سهلاً في بلد تبلغ فيه نسبة الاقتصاد الموازي مستويات عالية.

وفي ملف الجباية، كان الوزير مباشراً إلى حدّ الصدمة: “لا خيانة لحق الدولة ولا ابتزاز للمواطن”.

هذه العبارة تكشف حجم التحديات المتعلقة بالفساد الصغير والإجراءات البيروقراطية التي تعطل التحصيل الجبائي.

ومع إعلان الوزير عن رقمنة النظام الجبائي بالكامل نهاية السنة، فإن الجزائر تدخل مرحلة مفصلية عنوانها “الجباية الرقمية”، أي القضاء على التلاعب، وإغلاق المساحات الرمادية بين المواطن والإدارة، وإعادة ترتيب العلاقة الجبائية على أساس الشفافية.

وحين تحدث الوزير عن تنفيذ الميزانية العمومية والصفقات العمومية، كشف عن توجه مهم لتقليص آجال الإنجاز عبر دمج النظام المعلوماتي للميزانية مع نظام الخزينة، وهو ما يسمح بتتبع عمليات الدفع والتنفيذ لحظياً. كما أعلن عن نظام خاص لمشاريع الجنوب، وهو إجراء كان مطلباً قديماً للفاعلين الاقتصاديين، لأن الظروف الجغرافية للمناطق الجنوبية تجعل آجال التنفيذ أطول مما هي عليه في الشمال.

الخطاب كله، من بدايته إلى نهايته، كان مبنياً على منطق: “نحن نعرف حجم التحديات لكننا نسير بثبات”، غير أن هذا الثبات محكوم بشروط بنيوية: الرقمنة، محاربة التهرب الضريبي، إصلاح الدعم، تحسين التنفيذ، التحكم في التوازنات الخارجية، وهي ملفات ثقيلة لا يمكن إنجازها بسرعة. ولذلك ظهر الوزير حذراً في بعض النقاط، جريئاً في أخرى، لكنه في المجمل قدم خطاباً يحمل روح “المصارحة”، وهو ما يحتاجه أي إصلاح اقتصادي.

في النهاية، يمكن القول إن مشروع قانون المالية 2026 يعكس مرحلة انتقالية في الاقتصاد الجزائري. فهناك إرادة واضحة لإعادة هيكلة المالية العمومية، وهناك إدراك حقيقي بأن مستقبل الاقتصاد لن يُبنى من دون رقمنة شاملة ومن دون إصلاحات جبائية ودعم موجّه وإنفاق عمومي أكثر نجاعة.

لكن هناك أيضاً أسئلة مفتوحة، أهمها: ما مستقبل سعر الصرف؟ ما مصير القدرة الشرائية؟ كيف سيتم التحكم في الواردات دون ضرب التوازنات الصناعية؟ وهل سنشهد تغييراً في العملة لامتصاص السيولة المكتنزة؟ كلها أسئلة لا تزال تنتظر إجابات.

ومع ذلك، فإن لغة الخطاب، بما حملته من وضوح نسبي، تشير إلى أن الجزائر مقبلة على مرحلة مفصلية، وأن الإوزة التي تبيض ذهباً ـ كما يقال ـ تريد فعلاً الحفاظ على رشاقتها لكي تستمر في الإنتاج دون أن تنهكها تراكمات الماضي.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services