203
0
قُبور تُرمَّم، وسُور يُبنى في وجه السِّحر والإهمال : حين يتطوّع الأحياء لحراسة صمت الموتى

في ولايات كثيرة من الجزائر، تمرّ بالمقابر النائية، فلا تترك فيك سوى أثرٍ باهت من الحزن. لكن في باتنة، تخرج المقابر من صمتها، لا لتتكلّم، بل لتشهد على معركة صامتة يخوضها الأحياء نيابة عن الموتى.
إنها معركة ضد الإهمال، ضد الشعوذة، وضد ثقافة النسيان التي تسلّلت حتى إلى أكثر الأماكن قدسية.
ضياء الدين سعداوي
في هذه الولاية التي تنصهر فيها الجغرافيا بالتاريخ، لم تعد المقابر مجرد أمكنة لدفن الجثامين، بل تحوّلت إلى مساحات نضال أخلاقي وروحي، تستعيد فيها المجتمعات المحلية حسَّها الجماعي، وتحاول تصحيح علاقاتها مع موتاها، ومع ذواتها أيضًا.
حين تحرس الحياة حرمة الموتى
قبل بضعة أسابيع فقط، كانت مقبرة "دخلة بن كيال" ببلدية وادي الماء، قطعة منسية من الأرض تنهار أطرافها تحت وطأة المطر، وتخيم عليها رائحة الرطوبة والعشب البري. لكن ما كان أكثر قسوة من الطبيعة، هو ما اكتشفه المتطوعون: طلاسم، دمى، صور مشوّهة، أوراق قرآنية مدنّسة، وأشياء يُستخدم بعضها في طقوس السحر الأسود.
هنا وُلدت مبادرة برعاية من "صفحة على الخير تلمّينا"، وهي مجموعة شبابية من متطوعين لا ينتمون لأي جهة رسمية ولا يتلقون أي تمويل منتظم. هؤلاء الشباب قرروا أن يخوضوا معركة مزدوجة: تنظيف المقابر، وتطهيرها من كل الممارسات المشبوهة التي تُدنس حرمة الموتى، وتُهدّد الراحة النفسية للأحياء.
يقول أحد المتطوعين: "في البداية كنا نظن أن الأمر يقتصر على القليل من الإهمال، لكن حين بدأنا في تهيئة المقابر، وجدنا طلاسم وأشياء لا تخطر في البال. كان واضحًا أننا أمام ظاهرة خطيرة."
مشروع لا يكتفي بالترميم
العمل في "دخلة بن كيال" لم يكن مجرد إزالة للأعشاب وتنظيف للركام. فقد امتد إلى ترميم القبور المتآكلة، بناء السور، تثبيت الأبواب، وحتى سقي الأشجار. وتم استدعاء الشيخ عبد الباسط الشافعي، راقٍ معروف من باتنة، للمشاركة في عملية إزالة الطلاسم وفكّ الأسحار.
يؤكد الراقي عبد الباسط: "ما وجدناه ليس عملًا بريئًا. نحن نتحدث عن أدوات تُستخدم في طقوس تؤذي الناس: تسبب أمراضًا، تفرّق بين الأزواج، وتزرع الكراهية. هي أعمال نابعة من الحقد و الحسد. ومن يدفنها في المقابر، يدنّس المكان والزمان معًا. تطهير القبور لا يكون إلا بتطهير القلوب"
ويضيف: "بدأت في هذه الحملات مع الشباب المتطوع منذ أسابيع في مقبرة بوزوران، ومنذها توسّعت المبادرة لتشمل أكثر من 80 مقبرة بالولاية. إنها الآن حملة وطنية غير معلنة، لكنها مستمرة، لأن الشعوذة لا تعرف حدودًا."
بوزوران... من النسيان إلى الحركة
مقبرة "بوزوران" وسط مدينة باتنة كانت عنوانًا للإهمال على مدى أكثر من خمسين سنة. تمتد على مساحة تفوق 14 هكتارًا، وتفتقر إلى أبسط مقومات الحماية: لا سور، لا إنارة، ولا حتى حارس كافٍ. كانت مرتعًا للخنازير البرية، ومكانًا ملائمًا لمروّجي المخدرات، ومَن يبحثون عن الظل لممارسة طقوسهم في الخفاء.
لكن التغيير بدأ مع جمعية "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وهي جمعية فتية بادرت بحملة واسعة لترميم القبور، بناء سور خارجي، وتنظيف المساحات الواسعة داخل المقبرة.
جميل حمودة، نائب رئيس بلدية باتنة، العضو البارز في الجمعية، يوضح: "اعتمدنا على جهود الناس. المحسنون تبرّعوا بما يقارب 2 مليار سنتيم. وبفضل الضغط الشعبي، زار والي باتنة المقبرة، وتعهد بتخصيص ميزانية رسمية لحفر بئر ارتوازي وإنجاز شبكة مياه داخلية، مع 3.5 مليار سنتيم إضافية لتهيئة الوادي الذي كان يتسبب في انجراف القبور كل شتاء."
ظلال الزيتون… لا تظلّل الموتى فقط
المشكلة التي بدت ثانوية في البداية، سرعان ما اتّضح أنها أساسية: أشجار الزيتون. هذه الأشجار، التي زُرعت تبركًا، أصبحت ستارًا يخفي كل الممنوعات: من طقوس السحر إلى سرقة الثمار وتحويلها إلى زيت زيتون ثم بيعها في الأسواق، ومن علاقات مشبوهة إلى تجارة المخدرات.
يقول محمد، أحد المتطوعين: "كنا نجد طلاسم مربوطة بالأغصان، وبقايا طعام قرب القبور، بل حتى عظامًا بشرية أُخرجت من أماكنها. بعضهم يستخرج العظام لاستخدامها في السحر، وبعضهم يخلطها مع مواد مخدرة. المقبرة تحوّلت إلى وكر للجريمة تحت غطاء الزيتون."
وتابع: "المقابر المنسية أصبحت أيضًا مستودعًا للحبوب المهلوسة ، القنب الهندي و مختلف أنواع المخدرات. لا يمكن السيطرة على الوضع بحارسٍ واحدٍ فقط."
حين تتجاوب الدولة
الضغط الشعبي والمبادرات المدنية جعلت السلطات تتحرك.
بدأ التفكير من الجمعية إعداد برامج لتثبيت كاميرات مراقبة في المقابر الكبرى، وخُصصت ميزانيات محددة من الدولة للإضاءة والتنظيف، كما شنت مصالح الأمن والدرك حملات واسعة لمحاربة الشعوذة
حملة بلا اسم..تعلم الناس النبض
مبادرة "صفحة على الخير تلمّينا" لم تتوقف عند "دخلة بن كيال" . بل أصبحت تتحرك من مقبرة إلى أخرى، بشكل تطوعي، منتظم، وغير مموّل. شبابٌ ينظفون بأيديهم، يرمّمون، ينقلون الصور على وسائل التواصل، ويزرعون وعيًا عامًا لم يكن حاضرًا من قبل.
يقول حمزة حساني، مؤسس الصفحة: "لسنا جهة رسمية. نحن شباب نؤمن أن كرامة الميت لا يجب أن تُنسى. لا ننتظر تمويلًا. نُنظف، نُرمم، ونتعلّم الصبر. البعض يسخر منّا، والبعض الآخر يُلهمه ما نفعله."
ويضيف: "في كل حملة نواجه مشكلات. لكننا أيضًا نرى الأمل: أطفال يأتون ليساعدونا، نساء يُحضرن الطعام، ورجال يتبرّعون بالمال أو المعدات."
المقابر تتكلم... والضمير يفيق
في النهاية، القصص القادمة من مقابر باتنة ليست فقط حكايات عن طقوس غامضة أو أعشاب بريّة، بل هي صرخة إنسانية عميقة. صرخة تقول إن الموتى لا يملكون ألسنة، لكنهم يملكون حقوقًا. وإن مجتمعًا ينسى مقابره، هو مجتمع بدأ ينسى نفسه.
في كل معول يُرفع، هناك وعدٌ صغير. وفي كل حجر يُرمم، جزء من الذاكرة يعود. وفي كل سورٍ يُبنى، تُرسم حدود جديدة بين الظلام والنور، بين العبث والمسؤولية.
رسالة من تحت التراب
المقابر، تلك المساحات التي تمرّ بها العيون ولا تتوقف، أصبحت اليوم ورشات مفتوحة لإعادة بناء الذاكرة. إنها ليست فقط لدفن الأموات، بل لإحياء الضمير الجماعي. وفي باتنة، حيث بدأت القصة، يبدو أن القبور تعلّم الناس كيف يكونون أحياءً… بحق.