184

0

قافلة الصمود...عندما تنتصر الرمزية رغم فشل الوصول

 

بقلم :ضياء الدين سعداوي

 

 

 

في عالم تطغى فيه الحسابات السياسية الباردة على القيم الأخلاقية، كانت "قافلة الصمود" حدثًا شاذًا عن النسق، وقيمةً متقدمة في زمن التراجع الجماعي.
انطلقت القافلة من تونس، حاملةً شعوب المغرب العربي في مركبات متواضعة وأرواحٍ متوهّجة بالتضامن، لتُكمل ما عجزت عنه الأنظمة ،طرق باب غزة المحاصرة، لا بالسلاح ولا بالشعارات، بل بالإنسان فقط.

لكن الحلم لم يكتمل، فبعد أن اجتازت القافلة تونس وغرب ليبيا بسلام، توقّف نبضها عند بوابات الشرق الليبي، حيث تعرّضت للمنع بالقوة، والتهديد بالسلاح، بل وحتى الإعتقال المؤقت، قبل أن تُجبر على التراجع والعودة.
فهل فشلت القافلة؟

 

وهل انتهت المهمة قبل أن تبدأ؟

 

الجواب لا يمكن أن يكون بنعم أو لا، لأن ما حملته القافلة لم يكن مجرد مساعدات أو بيانات، بل رمزية سياسية ومعنوية وأخلاقية ضخمة، تجعل من منعها دليلًا على نجاحها، لا فشلها.

 

عندما تُجهض الفكرة لأنها نجحت

 

قرار قوات اللواء خليفة حفتر بقطع الطريق على القافلة لم يكن إجراءً إداريًا عابرًا، بل كان فعلًا سياسيًا مقصودًا ، تحت ذريعة عدم وجود إذن مصري للعبور، وبحضور مسلحين ومفاوضات متوترة، أُجبرت القافلة على العودة، بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى من معبر رفح.

لكنّ من يقرأ المشهد بعمق، يدرك أن القافلة لم تُجهض لأنها بلا قيمة، بل لأنها كانت تحمل خطرًا وجوديًا على بنية "الحصار الكبير" الذي يتجاوز حدود غزة، ليطال فكرة المقاومة، وصوت الشعوب، وإمكانية الفعل الجماعي.

ما كان يُراد من هذه القافلة هو أن تموت في صمت ، لكنها أحدثت من الضجيج ما أحرج كل الأنظمة المتواطئة، وكسرت طوق الصمت العربي، وحرّكت عصبًا حيًّا في جسد الأمة الذي اعتقد كثيرون أنه مات.

 

قافلة تجاوزت الجغرافيا إلى التاريخ

 

من شهادة وائل نوار، إلى جواهر شنة، إلى يحيى صاري، ومن الجزائر إلى موريتانيا إلى ليبيا، تكرّر القول ذاته: "لم نصل إلى غزة، لكننا وصلنا إلى ما هو أبعد، ضمير الأمة."

القافلة كانت تمرينًا عمليًا على أن فعل التضامن لا يحتاج إلى ضوء أخضر من الحكومات، بل إلى إرادة صادقة. لقد جمعت أطيافًا سياسية ونقابية ومدنية من مختلف البلدان المغاربية، في تحرك لم تُموّله أي جهة، ولم تُنسّقه الحكومات، بل انطلق من الناس إلى الناس، ومن الوجدان إلى الواقع.

وهذا في حد ذاته إنجاز تاريخي.

الخذلان الرسمي... ووضوح المعركة

 

ما حدث في شرق ليبيا لم يكن استثناءً، بل ترجمة صريحة لوضع إقليمي هش، تتقاطع فيه الأجندات الدولية مع تواطؤ الأنظمة المحلية. القافلة واجهت بالضبط ما كانت تهدف إلى فضحه، أن الاحتلال لم يعد وحده من يحاصر غزة، بل تُشارك معه أطراف عربية بقوة الحديد، أو بجبن الصمت، أو بإزدواجية الخطاب.

إن كان من مكسب سياسي حقيقي للقافلة، فهو في إسقاط ورقة التوت عن هذه المعادلة المعقدة ، أن الكيان الصهيوني لا يقف وحده في مواجهة الفلسطينيين، بل إلى جانبه طيف واسع من الأنظمة التي ترى في "القافلة" خطرًا أكثر من القصف، لأنها تُعيد إحياء ما مات ، وهو  نبض الشعوب.

 

من الفعل الرمزي إلى البناء الإستراتيجي

 

في عالم تقوده الصورة والرمزية، كانت "قافلة الصمود" حدثًا بصريًا وأخلاقيًا، أكثر منه لوجستيًا. ومع ذلك، لم تبقَ القافلة أسيرة الرمزية، بل تحولت الآن إلى منصة نضالية تُبنى عليها استراتيجية أوسع.

الإعلان عن "قافلة الصمود 2" ليس مجرد رغبة عاطفية، بل مشروع واقعي قيد البناء، يرتكز على التجربة، ويتجاوز أخطاء المرحلة الأولى، عبر تحسين الإتصال الدبلوماسي، والإستعداد للتفاوض الدولي، وإشراك منظمات حقوقية عالمية، وربما وسائل إعلام دولية كقوة مرافقة لا يمكن تجاهلها.

ما بدأ بمبادرة تطوعية، قد يتحول إلى حركة منظمة،وما بدا محاولة رمزية، قد يُصبح لاحقًا قاعدة ارتكاز لتحركات شعبية على مستوى عالمي.

 

الرسالة وصلت.. ولو لم تعبر رفح

 

من يظن أن العودة القسرية للقافلة تعني الفشل، لا يفهم ديناميات الصراع.
الحدث لم ينتهِ، بل انطلق. والصدمة لم توقف المتضامنين، بل أيقظت آلافًا غيرهم.
وإذا كانت السلطة المصرية لم تسمح بالعبور، فإن ملايين القلوب قد فُتحَت.
وإذا كانت ليبيا الشرقية قد أغلقت بواباتها، فإن التاريخ قد فتح صفحات جديدة لتدوين هذه التجربة.

ربما لم تلامس قافلة الصمود تراب غزة، لكنها لامست شيئًا أعظم ، كرامة الشعوب وحقها في الحلم، وقدرتها على مقاومة الحصار ليس فقط بالسلاح، بل بالإنسان.

 

 الطريق إلى غزة يبدأ من الضمير

 

في النهاية، قافلة الصمود لم تُهزم، لأنها لم تكن تنافس في مضمار سياسي ضيق، بل كانت تصارع من أجل إعادة تعريف "العادي" في العالم العربي ،
أن يكون الوقوف مع فلسطين هو الأصل لا الإستثناء،
أن يصبح الفعل الشعبي هو القاطرة لا الذيل،
وأن تتحول الكرامة من شعار إلى ممارسة.

لقد أُعيد العائدون إلى بلادهم، لكنهم لم يعودوا كما خرجوا. خرجوا مواطنين، وعادوا طليعة.
وإذا أُغلقت المعابر، فإن العقول انفتحت،
وإذا صمت الإعلام، فإن الذاكرة سَجّلت.
وإن عادوا اليوم تحت التهديد، فغدًا سيعودون كجيش من ضمير الأمة.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services