115
0
قافلة الصمود: حين تنبض العروبة والأمازيغية بقلبٍ فلسطيني

بقلم: بن معمر الحاج عيسى
في زمنٍ كُتب فيه على الأمة أن تنزف، وأن تتقاذفها الرياح العاتية من شتاتٍ إلى آخر، وفي لحظةٍ من لحظات التاريخ التي لا تتكرر، خرجت من رحم المغرب العربي قافلة لا تشبه غيرها، قافلة لم تحمل فقط الغذاء والدواء، بل حملت ما هو أسمى: الكبرياء، والكرامة، واليقين الذي لا يخبو بأن فلسطين لا تُنسى.
هي قافلة الصمود... اسمها وحده كافٍ ليوقظ في الذاكرة رائحة التراب المقدس، ونداء المساجد، وصدى الحجارة الأولى. خرجت من تونس، فاحتضنتها الجزائر، واستقبلتها ليبيا بكل ما فيها من حرارة التاريخ ولهيب الجراح. لم تكن مجرد شاحنات تعبُر الحدود، بل كانت أرواحًا تتحرك، وأنفاسًا تهتف، وقلوبًا تهدر باسم فلسطين.
في طرابلس، عاصمة الجرح الليبي والأمل العربي، اجتمعت الرايات لا لتتنافس، بل لتتكامل. لا صوت للسياسة، ولا مكان للمصالح الضيقة، فقط لغة واحدة تتردد في الشوارع والساحات: "من المغرب إلى فلسطين، شعبٌ واحد لا يلين". وكان مشهد الوصول تقشعر له الأبدان، وتبكي له العيون: رجال ونساء، كهول وشباب، أمازيغ وعرب، يصطفون كالبنيان المرصوص، لا يعرفون بعضهم، لكن تجمعهم وجهة واحدة: غزة.
حين تتكلم الأرض بلغة العروبة والأمازيغية معًا، تكتمل حكاية لم تكتبها السياسة بل كتبها التاريخ. ليبيا التي عرفت معنى الانكسار والانتصار، والجزائر التي جرّبت نار الاستعمار وارتفعت بالدم، وتونس التي ما فتئت تهتف بالحرية... كل تلك الأرواح تشابكت كخيوط قزحية لتنسج راية واحدة، راية الحق الفلسطيني.
لم تكن القافلة حدثًا عابرًا يُلتقط بعدسة، أو خبراً يُقرأ ثم يُنسى. لقد كانت لحظة كشف للوعي المغاربي، الذي وإن حاولت الحدود السياسية تمزيقه، فإنه يعود في المحطات الكبرى ليقول كلمته. ففلسطين ليست بعيدة عن تونس، ولا عن الجزائر، ولا عن ليبيا، لأنها تعيش في صوت الجدّات، وفي أغنيات الأعراس، وفي الكتب المدرسية، وفي دعوات الفجر.
المشهد في طرابلس كان تجلّيًا لأمة لا تموت. رايات تُرفع بلا تنافس، وقلوب تنبض بلا مقابل، وهتافات تنطلق من الحناجر لا من البيانات الرسمية. كأنما تلك القافلة كانت تمشي بأقدام الغائبين، بأرواح الشهداء، بأحلام الأطفال الذين كتبوا أسماءهم على الطائرات الورقية في غزة.
هي قافلة من نوع آخر، لا يقودها زعيم، ولا ترعاها مؤسسة، بل ترعاها النوايا الطيبة، وتشدها خيوط الإيمان العفوي. ومن طرابلس، خرجت القافلة نحو فلسطين، لا على الإسفلت وحده، بل على بساط المحبة، على ظهر التاريخ، على أكتاف الشعوب.
أما الرسائل التي حملتها، فلم تكن سرّية: إلى العدو، أن الأمة مهما ضعفت، لا تنكسر. إلى العالم، أن الشعوب تعرف طريقها حين تسقط الأقنعة.
وإلى فلسطين، أن لكِ في المغرب العربي قلبًا لا ينسى، ولسانًا لا يصمت، ويدًا لا ترتعش.
قافلة الصمود هي صوت الشعوب حين تُصادرها الأنظمة. هي الجسر الذي تبنيه الإرادات حين تُهدم المعابر. هي الدليل الحي على أن لا شيء يمكنه أن يُطفئ نور الحق إن كان في القلب جذوته، وفي اليد حمله، وفي اللسان صداه.
وهكذا، كانت طرابلس بوابة العبور، لا فقط نحو فلسطين، بل نحو ذاكرة الأمة. كانت القافلة بداية، لا نهاية.
بداية وعي جديد، يتجاوز الجغرافيا، ويعلو فوق القومية الضيقة، ويصوغ هوية جامعة، تقول للعالم إن هذا المدى الممتد من الأطلسي إلى الشرق، من جبال جرجرة إلى غدامس، من بنزرت إلى غرداية، من طرابلس إلى القدس، هو جسد واحد، وروح واحدة.
وإن فلسطين، كانت وستبقى، قلب هذه الأمة النابض، ووصية كل أحرارها.