385

0

حين تتحرر الشعوب من الصمت.. قافلة إلى غزة تُحرّك العالم

 

 

بقلم: ضياء الدين سعداوي

في زمنٍ يُقاس فيه النجاح بالنتائج المادية السريعة، تبدو قافلة "الصمود" المتجهة نحو غزة من دول مغاربية، وكأنها تحدٍّ لهذا المنطق السائد ، قافلة لا تزال تخطو خطواتها على الطرقات، لكن وقعها سبقها إلى القلوب والعقول. انتصرت قبل أن تصل، لا لأنها كسرت الحصار المادي، بل لأنها فجّرت ما هو أعمق، ألا وهو  الحصار النفسي، والشلل الأخلاقي، وسُبات الوعي الجمعي. 

 

ثمة من يشكك في جدوى هذه القافلة، بحجج تتكرر مع كل مبادرة شعبية تتحدى الأمر الواقع: "لن يُسمح لها بالمرور"، "المساعدات لن تصل"، "ستُحبس عند الحدود"، "ستُجهض كما أُجهضت مبادرات سابقة". وهؤلاء ، في الحقيقة، يقيسون الفعل المقاوم بمنطق الربح والخسارة السريع، في حين أن النضال، بطبيعته، فعلٌ تراكمي، طويل النفس، يؤتي ثماره في مساحة أوسع من الوقت والمكان.

لقد نجحت القافلة، لأنّها أحيت نبض الشعوب التي كادت تموت خنقًا تحت ركام التطبيع والتخدير الإعلامي، وضجيج الحياة اليومية المعولمة. أعادت رسم خريطة الوعي، وربطت بين قلوب في أقاصي الأرض وبين غزة، الجرح النازف في خاصرة الكرامة الإنسانية. في وقتٍ تعمل فيه الأنظمة على سلخ الشعوب عن قضاياها المركزية، جاءت القافلة كصفعة للتيه واللامبالاة، وتأكيد أن الشعوب، حين تُترك على فطرتها، تعرف بوصلتها جيدًا.

ولأن السياسة، كما يقول فلاسفة الأخلاق، لا تُقاس فقط بما يتحقق، بل بما يُفضَح، فإن قافلة الصمود كانت فضيحة مدوية في وجه الأنظمة المتواطئة. فالمحتل لا يخجل من وحشيته، لكن الفضيحة الكبرى تقع على من يسدّ المعابر، ويغلق الأبواب، ويمنع الغذاء والدواء عن أطفال محاصرين. هؤلاء لم يكتفوا بالصمت، بل أمعنوا في التبرير، أو الأدهى: المتاجرة بمآسي الضحايا.

                     

 

القافلة لم تكن فقط مركبات تحمل مساعدات، بل كانت فكرة تمشي على الأرض. فكرة تتحدى الموت والحدود والأسلاك. فكرة تقول للعالم: لا نحتاج إلى أنظمة لكي ندعم غزة، بل إلى ضمير حي، وقدرة على الحلم، وإرادة على الفعل. لقد حرّكت الوجدان الإنساني من جديد، وقالت لنا جميعًا: "افعلوا شيئًا، ولو بدا بسيطًا، فهو لا يُستهان به في ميزان التاريخ."

ولعلّ الإنجاز الأعمق للقافلة، أنها كسرت لحظة العجز الأولى، تلك اللحظة التي تحوّل فيها الألم إلى عادة، والدم إلى مشهد متكرر لا يحرّك ساكنًا. القافلة أعادت للناس الشعور بالإمكان، زرعت فيهم شجاعة الخطوة الأولى، ذلك الأمل العنيد بأن الفعل الإنساني، مهما بدا ضئيلًا، قادر على أن يحدث فرقًا. وهذا بحد ذاته ثورة داخلية، تُخرج الناس من قيد المستحيل إلى رحابة الممكن.

أبطال هذه القافلة ليسوا مغامرين يبحثون عن شهرة، بل بشر يملكون من الوعي ما يكفي ليدركوا أنهم يسيرون في طرق محفوفة بالخطر، وقد يُعتقلون أو يُستهدفون أو يُحتجزون عند الحدود. ومع ذلك، خرجوا. في زمن الخوف، هذه بطولة نادرة. في زمن الإنهاك الجماعي، هذه يقظة تستحق أن تُخلّد.

والرسالة الأقوى ربما لم تكن لغزة وحدها، بل لمصر والمصريين. معبر رفح، هذا المنفذ الذي قد يكون باب نجاة لغزة، أصبح اليوم اختبارًا للكرامة والسيادة. إذا كانت شعوبٌ من آسيا وإفريقيا وأوروبا قد غامرت بحريتها، وسلكت آلاف الكيلومترات، فماذا بقي للمصريين، الأقرب دمًا وجغرافيا وتاريخًا؟ لقد أقامت القافلة عليهم – وعلى نظامهم – الحجة البالغة. لم يعد الصمت مقبولًا، ولا الانتظار مبررًا.

 

             

في هذا السياق، يتضح أن الحصار الأخطر لم يكن ذلك المفروض بالأسلاك والجنود، بل ذاك الذي فرض على الذاكرة، على القدرة على الإحساس، على الالتزام الأخلاقي. نجحت القافلة لأنها كسرت الحصار المعنوي، وأعادت تعريف الفعل السياسي، وجعلت من التضامن فعلًا حيًّا ملموسًا، لا شعارًا أجوف ولا بيانًا ميتًا.

لقد قدمت قافلة الصمود نموذجًا لما يمكن أن يكون عليه "الفعل الأخلاقي" في زمن الرداءة السياسية. لم تكن تبحث عن انتصار فوري، بل عن أثر عميق. لم تطلب الضوء الأخضر من أحد، بل انطلقت بدافع إنساني صرف. وهذا هو جوهر الحركات التاريخية الكبرى: تبدأ صغيرة، بسيطة، مرفوضة أو مشككًا فيها، لكنها تغيّر المجرى، وتعيد للناس إيمانهم بأنفسهم.

قافلة الصمود لا تحتاج لأن تصل إلى غزة كي تُعلن نجاحها، لأنها وصلت – وبقوة – إلى أعمق نقطة فينا: إلى تلك البقعة من القلب التي لا تزال تؤمن بأن الحق لا يموت، وأن الكرامة لا تُشترى، وأن التضامن، وإن بدا رمزيًا، هو أول الطريق إلى التغيير الحقيقي.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services