204

0

حكاية كرسي السلطان شُكران خان البذخستاني.

بقلم: محمد شريم.

*المنسق العام لمنبر أدباء بلاد الشام.

 

ذات يوم استدعى سلطان أحد الأقاليم ويدعى إقليم "شُكرستان" كبير شعراء الحكمة في الإقليم إلى مجلسه في قصر السلطنة، وقد عرف عن ذلك السلطان واسمه "الأبلق البذخ ستاني" أنه كان شغوفا بمجالسة الشعراء ومشاورة الحكماء ومحاورة العلماء، وقد لقب بالبذخ ستاني نسبة إلى إقليم "بذخستان" الذي يبعد عن "شكرستان" مسيرة شهرين قمريين على نجائب الإبل. وعندما وصل الشاعر الحكيم مجلس السلطان أجلسه السلطان إلى جواره آذنا لسائر الحضور في مجلسه بالانصراف.

 وما أن غادر الحضور حتى طلب السلطان من الشاعر الحكيم أن يلزم مكانه الذي أجلسه فيه حتى يعود بعد أن يقضي بعض شأنه. وبعد أن غادر السلطان كرسي السلطنه، تأمل الشاعر الحكيم المكان وما فيه من صنوف الزركشة وضروب الزخرفة وبديع التفنن وعظيم البنيان، وتلفت جانبا فوقعت عليناه على كرسي السلطان المزين بما جَمُل من النقوش وما راق من الألوان.

 فحدث نفسه بصوت مسموع وكأنه يخاطب الكرسي: إيه، كم رأيتَ من العز منذ أن صُنعت أيها الكرسيّ! فمن جمال المنظر إلى هيبة المحضر إلى مجالسة السلطان والأعيان! .. كم من الناس يتمنون أن يصلوا إلى ما وصلت إليه من علو الشأن يا مقعد السلطان! وكم كانت مفاجأة الشاعر الحكيم عظيمة وهو يستمع إلى الكرسيّ حينما رد عليه قائلا: لا يغرنّك من الأمور ظاهرها يا حكيم الشعراء! فكم من الكراسيّ ما هو بسيط المنظر متهالك الجوانب موضوع أمام دكان صغير على قارعة الطريق ويعد أكثر قيمة مني، فقيمة الشيء لا يحددها حُسن الزينة ولا هيبة المكان الذي يكون فيه، بل يحددها مقدرار رغبة الناس فيه ومدى حاجتهم إليه! فتساءل الشاعر الحكيم بعد سمع رد الكرسي باستغراب: أوتنطق أيضا وتتكلم أيها الكرسيّ؟! فرد عليه الكرسيّ بثقة: ألم تعلم أن إرادة الله تنطق الحجر يا حكيم الشعراء؟! فقال

 

الشاعر الحكيم: أرى في حديثك نبرة متألم وإحساس متوجع يا كرسيّ السلطان! فهل مررت بما يكدر صفوك وأنت موضع إعجاب السلطان وأعظم تحف قصره؟!فضحك الكرسيّ وقال بأسى: إيهٍ يا حكيم الشعراء! كم تكدّر صفوي وقلّ شأني! فالدهر متقلب والأحوال متغيرة! ومع ذلك فإنني لا أشكو إليك مرارة الأيام، ولا تقلب أحوالها، فهي منذ أن كانت لا تسير على وتيرة واحدة، فإن منها ما هو لك، ومنها ما هو عليك! فقال الشاعر الحكيم: ما هو لك شهدناه وعرفناه، فهلا أنبأتنا بالذي كان من الأيام عليك يا عليّ الشأن؟ فقال الكرسي: عندما أتم البناؤون بناء هذا القصر الشامخ العظيم، قبل مائة عام أمر السلطان في ذلك الحين وكان يدعى "شكران خان البذخ ستاني" الذي يقال أن الإقليم سمي باسمه الحالي نسبة إليه بأن يجهز القصر بأنفس ما يمكن أن تجهز به القصور من الأثاث والتحف والفرش والمقاعد، 

وقد أصدر مرسوما خاصا بصناعة كرسيّ السلطان الذي سيوضع في القصر الجديد، فعهد رجال القصر إلى نقيب الصناع آنذاك بالإشراف على تنفيذ ما نص عليه مرسوم السلطان، فكلف الرجل أمهر الصناع بالعمل على صناعتي، وكم كنت سعيدا وأنا أتشكل بين أيديهم وقد اهتموا بتزييني بأجمل الزخرفات وأروع النقوش وأنسب الألوان حتى بدوت في أحلى هيئة وعلى أحسن صورة! وبعد أن أتموا صناعتي، أعلن السلطان أن نقلي إلى القصر هو الحدث الرئيس في يوم افتتاح القصر الجديد.

 فاصطف الناس على جانبي الطريق الرئيس الذي سيسير فيه موكبي الذي رافقني من ديوان نقيب الصناع إلى القصر، ثم وضعت في عربة مذهبة يجرها جوادان أبلقان أمامهما خمسون من الخيالة الذين يمتطون حصنهم البيضاء وخلفي فرقة تعزف الموسيقا وخلفها أيضا خمسون من الخيالة ولكنهم يمتطون حصنهم السوداء. وما أن وصلت بي العربة باحة القصر حتى وجدت ناظر البلاط السلطاني بانتظاري، فحملني بأمر منه أربعة من الجنود على محفة مزينة وساروا بي حتى وضعوني في صدر غرفة مجلس السلطان.

ثم دخل الوزراء والوجهاء والأعيان واصطفوا على جانبي غرفة المجلس الفسيحة بكل هدوء ووقار منتظرين قدوم السلطان، ولما دخل السلطان ومعه حرسه الخاص وسار بين صفيّ الحضور متوجها إلى صدر مجلسه ضجت غرفة المجلس بما تعزفه فرقة الموسيقا التابعة لقصر السلطان من بديع الألحان التي تليق بالمقام والمكان، وحينما أدار السلطان – أجلّكَ الله – ظهره لي، وهم بالجلوس عليّ ارتفع التصفيق الحار وعلت الهتافات المجلجلة: أدام الله سلطاننا المعظم، وحفظ لنا كرسيه العظيم! ولكن فرحي – وا أسفاه! - لم يطل كثيرا، فقد شاءت إرادة الله أن يتوفى السلطان في الليلة التالية للنهار الذي أحضروني فيه إلى القصر.

 فسمعت ابن السلطان الذي هو ولي عهده يصيح: لقد مات والدي السلطان بعد أن جلس على هذا الكرسي المشؤوم، وما لبث أن قصدني مسرعا ليركلني بقدمه ركلة شديدة كسرت لشدتها عظمة من عظمات قدمه، أما أنا فقد شعرت أن إحدى أرجلي توشك على أن تنخلع من مكانها، ثم رفض الفتى  تسلم عرش أبيه قبل إخراجي من غرفة مجلس السلطان.

 

 فتقدم أحد الوزراء وقال: أريحوا نفس سلطاننا الجديد بإخراج الكرسي من هذا المكان وضعوه في غرفة استقبال الزائرين بمنزلي، فقد كانت لهذا الكرسي مكانة طيبة في نفس سلطاننا الراحل، وليس من الوفاء أن نضعه في مكان غير لائق، وإذا أراد سلطاننا الجديد أدام الله بقاءه استعادته في أي وقت من الأوقات فجميعنا خدم له! فنقلوني – مكرها – من مجلس السلطان إلى بيت الوزير تحت جنح الظلام وأنا أشعر بمرارة الخسارة وقساوة الموقف، ووضعت في صدر غرفة استقبال الضيوف في منزل الوزير، وصار الرجل يتباهى أمام كبار زواره بلحظات العز القليلة التي مررت بها حينما كنت الكرسي الخاص بفقيد "شكرستان" الراحل، السلطان المعظم "شكران خان البذخ ستاني"، فطابت نفسي بمكانتي عنده، وقلت مواسيا نفسي: مادام هنالك وزير يحفظ لي كل هذا الفخر فأنا بخير، والحمد لله! ولكن الأمر لم يدم على هذه الحال أيضا.

فقد تلقيت ضربة أخرى من قبضة الزمن حينما طرد الوزير من منصبه بعد دخولي بيته بعامين، وحبس بشبهة اشتراكه في مؤامرة ضد السلطان الجديد، وكان للوزير ولد مستهتر، خسر ذات يوم ماله بجلسة مقامرة، فقامر بي، فخسرني، فحُملت إلى سوق للمزايدة، فلم يستطع أحد دفع مبلغ من المال لشرائي فوق ما استطاعت دفعه امرأة غانية تسمى "ميّاسة"،فحملني الحمالون إلى بيتها، وكم شعرت عند دخول بيتها بالإهانة وانحطاط المكانة وقلة الشأن! وقد صار هذا الشعور لا يحتمل بعد أن عمدت تلك المرأة – في كثير من الأحيان – إلى استقبال رواد بيتها فوقي، ولكن فرج الله قريب.

 فقد داهمت بيتها ذات ليلة فرقة من العسس  وساقتها ومن كانوا معها في ذلك البيت إلى الحبس، وقبل إغلاق بيتها بأمر من القاضي تمت مصادرة ما في المنزل من الأثاث والمتاع، ثم بيعت المقتنيات المصادرة في سوق المقتنيات القديمة المستخدمة بأبخس الأثمان، وبضمنها أنا، حيث كنت في ذلك الحين بأسوأ الظروف وأردأ الأحوال، فقد بهت جمالي واختفى بهائي، بعد أن مر بي من سوء الحال ما مر.

ولم يعد هناك من يتذكر أنني كنت كرسي السلطان المتوج ذات يوم! وفي مثل هذه الحال، من الذي سيدفع الكثير من المال بكرسي مصادر من بيت غانية؟!فتداولني عدد من المشترين – من عامة الناس - الذين مكثت في بيوتهم أو في مستودعات مقتنياتهم القديمة سنوات عديدة، إلى أن اشتراني رجل سقّاء له متجر صغير لبيع الماء واللبن المخيض وبعض المشروبات المحلاة لرواد السوق، ووضعني السقاء أمام دكانه.

وعلى الرغم من أن من باعني للسقاء أخبره بما سمعه عن تاريخي، إلا أن السقاء فضل الاكتفاء بالتباهي ببعض ما تبقى عليّ من مظاهر الجمال دون أن يتفاخر بأنني كنت كرسي السلطان ذات يوم حتى لا يكذبه أحد، كما أنه لم يبح بما علمه من أنني كنت في بيت غانية بعضا من الوقت حتى لا يتقزز من الجلوس علي زبون! فبقيت أمام دكان السقاء بضع سنين، يخرجني صباحا ويدخلني مساء كأي مقعد من المقاعد، حتى صار منظري مألوفا لكثرة ما رآني الناس أمام ذلك الدكان، ولهذا لم يعد وجودي يثير أي اهتمام أو يستجلب أي انتباه! 

وذات يوم، بعد مائة عام من الوقت الذي صُنعت فيه، أعلن سلطان الإقليم  مرسوما ينص على إنشاء متحف تجمع فيه ما يمكن أن يتم الوصول إليها من التحف القديمة، وبينما كان المنادي يطوف في الشوارع والأسواق وهو يعلن المرسوم، مر من أمام دكان السقاء، فسمع السقاء ما قاله المنادي، فذهب من فوره إلى ناظر المتحف الجديد وعرضني عليه، فلم يصدق الناظر أنني كنت كرسي السلطان ذات يوم، 

فكيف للمرء أن يصدق أن كرسي السلطان المعظم "شكران خان البذخ ستاني" الجد الأكبر للسلطان الحالي هو الآن أمام متجر سقاء بسيط على قارعة الطريق؟ ولكن الناظر سرعان ما عاد إلى السقاء باحثا عن بيته ليشتريني منه بعد أن تيقن من أنني كنت كرسي السلطان.

وذلك  بعد أن عرض عليه أحدهم صورة قديمة - لتوضع في المتحف - رسمها مصور ماهر في ذلك الحين ويظهر فيها السلطان وهو يجلس فوقي في حفل افتتاح قصره. فباعني الرجل السقاء لناظر المتحف، بثمن جيد، فشعرت بالسرور لأنني استعدت شيئا من قيمتي! ويوم افتتاح المتحف، أقام الناظر  بأمر من السلطان احتفالا ضخما، حضره السلطان بنفسه، وأثناء تجوله في أنحاء المتحف ليطلع على مقتنياته، توقف السلطان بمحاذاتي، وسمعت الناظر – رفع الله قدره – يقول للسلطان: هذا الكرسي يا سلطان الزمان ذو شأن عظيم، وقد دفعنا الكثير من المال لاقتنائه، فقال السلطان: وما هو شأنه؟ فرد الناظر: لقد صنع هذا الكرسي ليجلس عليه جدكم الأكبر السلطان المعظم "شكران خان" طيب الله ثراه، وقيل إنه توفي فرحا به بعد أن جلس عليه، فسأل السلطان الناظر باهتمام: أصحيح ما تقول أيها الناظر؟ فأجابه الناظر: لست أنا من يقول بل التاريخ هو الذي يقول يا سلطاننا الأجل!

 ثم أحضر الصورة التي يظهر فيها السلطان وهو جالس فوقي وأطلع السلطان "الأبلق" عليها. فطلب السلطان من ناظر المتحف أن يحضر من فوره عربة مذهبة يجرها حصانان أبلقان لحملي إلى القصر، وكانت العربة التي سبق وأن نقلت فيها إلى القصر للمرة الأولى قبل مائة عام موجودة ضمن مقتنيات المتحف، ثم أحضر حصانان أبلقان من إسطبل السلطان، وأعلن السلطان عن إقامة حفل عظيم بمناسبة استعادة كرسي جده الأكبر بعد مرور مائة عام على صناعته، وقد عاد إلى شأني العظيم ومجدي القديم.

 وهأنذا الآن على هذه الحال التي تفضلت بوصفها أيها الشاعر الحكيم ولكنني أخشى أن يتكرر ما حدث وأعود إلى حياة الشقاء، فإن صروف الزمان لا تؤتمن! فصمت الشاعر الحكيم وقد بدا متفكرا في أمر ما، فسأله الكرسي: بم تفكر يا شاعرنا الحكيم؟ أراك أطلت الصمت! فرد الشاعر الحكيم: أجل، أفكر بسؤال ورد ببالي يا مقعد السلطان! فسأله الكرسي: وما هو سؤالك يا حكيم الشعراء؟ فرد الشاعر الحكيم:  اصدقني القول أيها الكرسي، هل علم السلطان المعظم بالذي كان يجري فوقك في بيت الغانية؟! فرد الكرسي على الشاعر الحكيم وقد أخذته المفاجأة بصوت هامس: اسكت .. اسكت.. لقد عاد السلطان!   وبعد أن غادر الشاعر الحكيم مجلس السلطان قال:

 

 

مَنْ قالَ أنَّ الدّهرَ يصفو دائمـا

لم يُسْقَ بعدُ كُؤوسَه العَكِــراتِ

كالدّربِ يحسبُهُ الضّريرُ مُمهَّدا

حتـى يُشـجَّ بطــارئ العَثـراتِ!

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services