50
0
جثامين بلا وداع..كيف يحوّل الاحتلال الموتى إلى رهائن؟

بقلم: بن معمر الحاج عيسى
في عالم يرفع شعارات الكرامة والعدالة وحقوق الإنسان، تظل جثامين مئات الشهداء الفلسطينيين محتجزة في ثلاجات الاحتلال الإسرائيلي ومقابر الأرقام السرية، كرهائن سياسية وعقابية، في واحدة من أكثر الجرائم انتهاكًا للكرامة الإنسانية.
هؤلاء الشهداء لم يحظوا بوداع يليق بهم، ولا قبور تحمل أسماءهم، بل تحوّلت أجسادهم إلى أرقام جامدة في مقابر مغلقة أو إلى قوالب جليد تُسلم لعائلاتهم بعد سنوات من الانتظار، دون أن يُسمح لهم حتى بفتح نعوش الوداع الأخير.
منذ عقود، تتعامل إسرائيل مع جثامين الشهداء الفلسطينيين كأوراق مساومة وضغط، تارةً بذريعة الأمن، وتارةً أخرى بحجة ردع العمليات، فيما تصر عائلات الشهداء على حقهم الأبسط: دفن أبنائهم وفق شعائرهم الدينية والوطنية، ووداع من لم يودّعوا.
708 شهيدًا.. أرقام لا تنام في الذاكرة
حتى تاريخ 1 حزيران 2025، وثّقت "الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء والمفقودين" احتجاز جثامين 708 شهيدًا وشهيدة، بينهم أطفال ونساء وأسرى ومواطنون عرب.
يقبع 256 منهم في مقابر الأرقام، بينما احتُجز 452 منذ أن أعادت إسرائيل تطبيق هذه السياسة عام 2015.
وبينهم 305 شهيدًا منذ اندلاع حرب الإبادة على غزة، و65 طفلاً لم يتجاوزوا الثامنة عشرة.
ورغم فظاعة هذه الأرقام، تبقى غير شاملة، فالعدد الحقيقي قد يكون أكبر بكثير، خاصة أن السلطات الإسرائيلية ترفض الكشف عن القوائم الكاملة للمحتجزين، وتتهرب من إصدار شهادات وفاة، ما يُبقي عائلات الشهداء في دائرة عدم اليقين، ويحوّل مصيرهم إلى حالة إخفاء قسري.
مقابر الأرقام: حين تتحول القبور إلى رموز للنكبة المتجددة مقابر الأرقام هي عنوان الظلم المركب.
لا أسماء، لا شواهد، لا تواريخ. فقط أرقام معدنية تميز القبور، وتُسجّل في ملفات سرية لدى الجيش الإسرائيلي. هذه المقابر، التي تم الكشف عن أربع منها سابقًا – معظمها في غور الأردن وشمال فلسطين – محاطة بالأسلاك، ممنوع الاقتراب منها، ومصنّفة كمناطق عسكرية مغلقة.
إنها قبور بلا وجوه، وجنازات بلا معزين، وذاكرة بلا ضوء
ولا تقتصر المأساة على الضفة الغربية. ففي قطاع غزة، كشفت الحملة أن الاحتلال سلّم 516 جثمانًا مجهول الهوية ودُفنوا في مقابر جماعية وسط وجنوب القطاع.
بينما تشير تقارير عبرية إلى احتجاز أكثر من 1500 شهيد في معسكر "سدي تيمان"، في ظروف تصفها التقارير الحقوقية بأنها غير إنسانية، حيث تتحول الجثامين إلى أدوات ضغط، أو أوراق تفاوض لتبادل الأسرى.
احتجاز يخالف كل القوانين وفقًا للقانون الدولي الإنساني، وتحديدًا المادة 17 من اتفاقية جنيف الأولى، يجب احترام جثامين الموتى وتمكين ذويهم من دفنهم حسب شعائرهم. ومع ذلك، تواصل إسرائيل انتهاك هذه المادة بلا حسيب أو رقيب.
في بعض الحالات، يتم تسليم الجثامين بعد شهور أو سنوات وهي في حالة تجميد تام، يُطلب من العائلة دفنها خلال ساعتين فقط، ودون تشريح، وأحيانًا مقابل كفالات مالية.
تتعدى هذه الانتهاكات الجانب الرمزي
إذ تفيد تقارير الأمم المتحدة أن 62% من الشهداء منذ 2022 لم يكونوا مسلحين، بل جرى إعدام بعضهم ميدانيًا، أو تُركوا ينزفون دون إسعاف. ومع ذلك، يحتجز الاحتلال جثامينهم، في مخالفة أخرى للقانون الدولي، ولأبسط مبادئ الإنسانية.
المسار القانوني: صراع في قاعات المحاكم منذ تأسيس الحملة عام 2008، خاضت معارك قانونية أمام المحكمة العليا الإسرائيلية، نجحت خلالها في تحرير بعض الجثامين، مثل الشهيد مشهور العاروري بعد 34 عامًا من الاحتجاز، وحافظ أبو زنط بعد 35 عامًا.
كما أسفرت جهودها عن استرداد 91 جثمانًا عام 2012، ضمن ما سُمّي بمبادرة "حسن نية" للعودة إلى المفاوضات.
لكن النية لم تستمر
ففي سبتمبر 2019، أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قرارًا يسمح للجيش باحتجاز الجثامين، بشرط أن يكون الشهيد من حماس أو نفذ "عملية نوعية"، وهو شرط فضفاض تفسره إسرائيل حسب مزاجها الأمني والسياسي. ولعل المثال الأوضح على هذا هو رفض المحكمة في أكتوبر الماضي تسليم جثمان الطفل المقدسي زهدي محمد الطويل، رغم أنه طفل، بحجة قرار صادر عن الكابينيت يمنع التسليم دون النظر إلى هوية الشهيد أو فصيله.
أين العالم؟
في ظل هذا الواقع المأساوي، تغيب المحاسبة الدولية، ويغيب الصوت الأخلاقي، فالعالم الذي ثار لمقتل صحفية أو طالب جامعي في ظروف مأساوية، يغض الطرف عن مئات الجثامين المحتجزة في قبور صامتة، دون أن يطالب بحقها في الوداع، ولا بحق أهلها في الحزن.
إن احتجاز الجثامين لا يمسّ فقط بحرمة الموتى، بل يُشكّل اعتداءً على الأحياء، على ذويهم، على ذاكرتهم، على قدرتهم على الحداد. كيف يحزن الإنسان على ابنه، وهو لا يعرف إن كان ما زال حيًا، أو إن كان ميتًا في ثلاجة على هيئة لوح جليد؟ كيف يُطفئ نار الفقد دون أن يرى الجثمان؟ كيف تنام أمّ دون أن تزور قبر ابنها؟ كيف ينسى وطنٌ أسماء من حُرموا من حتى الموت الكريم؟
لنا أسماء... ولنا وطن
هذا الشعار الذي ترفعه الحملة الوطنية ليس مجرد عنوان، بل صرخة ضمير، صرخة أمهات وآباء، إخوة وأخوات، لا يطلبون سوى حقهم في معرفة مصير أبنائهم، في دفنهم بكرامة، في أن تتحول أرقام المقابر إلى شواهد بأسماء وصور وورود.
الحملة لا تقف وحدها بل تشكلت لجان تنسيقية في كل المحافظات الفلسطينية، وتحركت نحو حشد رأي عام دولي، وأصدرت وثائق ودراسات قانونية بثلاث لغات.
ولكنها، حتى اليوم، لا تزال تواجه جدار الصمت والتسويف والمماطلة، إن استمرار احتجاز الجثامين هو جريمة مركبة: إنسانية، قانونية، وأخلاقية.
ومن العار أن يظل العالم صامتًا أمام جريمة تبدأ بطلقة، ولا تنتهي حتى في القبر.