786

1

غذاء الروح في رمضان

بقلم الأستاذ سيد علي دعاس

لِمَاذَا غِذَاءُ الرُّوح؟

 كرّم الله آدم بأن خلقه بيده من طين الأرض، ونفخ فيه من روحه، فقال الله – تعالى-: "إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ".[1]

 وحتى يعيش الإنسان لابد له أن يتغذّى؛ وبما أنّه مركّب من جسد وروح فلابد وأن يكون لكل منهما غذاء خاص به؛ ولذلك جعل الله غذاء الجسد من الأرض التي خُلِق منها، وجعل غذاء الروح من مصدر خلقها وهو الله - سبحانه وتعالى-؛ لذلك فغذاء الرّوح لا يكون إلاّ بذكر الله وطاعته واتباع سبيله وصراطه المستقيم.

إذن... فغذاء الجسد هو الأدنى، وغذاء الروح هو الأسمى.

وإذا كان اهتمامنا في نهار رمضان مركّزا على الجوع والتفكير في لحظة أذان الإفطار... فمن الأولى أن نهتمّ بالرّوح... لأنّه إذا لم نهتم بغذائها وهو ذكر الله والعمل بأوامره فقد تهلك... أمّا إذا تغذّت بذكر الله – تعالى- فإنّه يعطيها القوّة التي تؤثر بإيجابية على صحة الجسد، فيعمل بنشاط وحيوية... وعليه، فلابد من الاهتمام بغذاء الرّوح في رمضان، بل وفي سائر الشهور... لأنه هو الذي يمنحنا الحياة الصحّية روحًا وجسدًا.

وإذا أدركنا هذه الحقيقة... وجب علينا أن نتساءل:

مَا هُوَ السِّرُّ فِي الصِّيَامِ حَتَّى كَانَ رُكْنًا مِنْ اَرْكَان الإسلام؟ وَعِبَادَةً مِن العِبَادَاتِ التِّي يُحِبُّهَا اللهُ وَيُكْثِر مِنْ التَّقَّرُّبِ بِهَا رُسُلُ الله وَأَنْبِيَاؤهُ وَأَوْلِيَاؤهُ؟

ولِمَاذَا كَانَ النَّبِيُّ يَتَغَيَّرُ فِي رَمَضَان؟ وَيَزْدَادُ فِي التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ وَفِعْلِ الطَّاعَات؟

مَا الذِّي أَحْدَثَهُ الصَّوْمُ فِي النَّبِيّ ؟

هَل النَّبِيُّ وَهُوَ الذِّي لَمْ يُخَالِطْ قَلبُهُ مَحَبَّةً غَيْرَ مَحَبَّةِ الله يَتَأَثَّرُ بِالصِّيَامِ لِهَذَا الحَدّ؟ فَيَحْدُثُ لَهُ هَذَا النَّشَاطُ العَجِيبُ غَيْرَ المُعْتَادِ؟

وَلِمَاذَا كَانَ الصَّوْمُ جُنَّةٌ؟

وَلِمَاذَا رَائِحَةُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ الله مِنْ رِيحِ المِسْك؟

وَلِمَاذَا لَّمَا سأل أَحَدُ الصّحابة رضوان الله عليهم الرَّسُولَ بقوله: مُرْنِي بِأَمْرٍ آخُذُهُ عَنْكَ قَالَ: "عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ[2]

لِمَاذَا كَانَ لِلصَّائِمِ بَابٌ يٌقَالُ لَهُ بَاب الرَّيَّان لَا يَدْخُلُ مِنْهُ إلاّ الصّائمون؟

لِمَاذَا كَانَ الصَّوْمُ للهِ وَهُوَ يَجْزِي بِهِ؟

هَلْ هَذَا كُلَّهُ لِأَجْلِ الإِمْسَاكِ فَقَطْ عَنْ المُفْطِرَاتِ مِنْ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ و...؟ أَيُمْكِنُ لَنَا أَنْ نَفُوزَ بِفَوَائِدَ الصِّيَامِ بِمُجَرَّدِ أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكْ؟

كَلاَّ... بَلْ هُناَكَ غِذَاءٌ يُحْدِثُهُ الصَّوْمُ فِي شَهْرِ رَمَضَانْ... غِذَاءٌ يُخَالِفُ غِذَاءَ البَدَنِ... إنّه غِذَاءٌ تَحْيَا بِهِ الأَرْوَاحُ وَتَصْلُحُ بِهِ الأُمَّة، وَتَسْتَقِيمُ بِهِ أَحْوَالها...

فحياة الأجساد وإشباع شهواتها ليست هي الحياة الحقيقية... بل إنّها حياة الأرواح والقلوب التي ترسخ في نفس العبد الاستقرار النّفسي والطمأنينة التي يجد بها وجه الحياة مشرقًا مبتسما.

 

                         يا خادمَ الجسمِ كمْ تَشقَى بِخِدْمَتِهِ  ***  أتَطلُبُ الرِّبْـحَ فيما فيه خُسـرانُ

أقْبِلْ على النفسِ واسْتكمِلْ فَضائِلَها ***  فَأَنْتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إنسـانُ[3]

 

فحَتَّى السَّلَفُ الصَّالِح ممّن ذَاقُوا طَعْمَ هذه الرُّوحَانِيَّةَ، وَعَرَفُوا حَلَاوَتَهَا... لم يستطيعوا وَصْفَهَا وَلَا التَّعْبِيرَ عَنْها إِلّا بِعبارات عَامَّةٍ لَمْ تُفْصِحْ عَنْ حَقِيقَةِ هذه الطّمأنينة الرّوحانية.

وَمع ذلك اقرؤوا لابن القيم وهو يَقُول: "...فإنّ طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذّته وابتهاجه، وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته مِن ترك الشهوات المحرّمة والشبهات الباطلة هو النّعيم على الحقيقة، ولا نسبة لنعيم البدن إليه؛ فقد قال بعض من ذاق هذه اللذة: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف، وقال آخر: إنه يمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب، وقال الآخر: "إِنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّة، مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَنْ يَدْخُلَ جَنَّةَ الآخِرَة. إِنَّهَا حَلَاوَةُ الإيمَان وَطَعْمُ الصِّلَةِ بِاللّه؛ إِنَّهَا أَفْرَاحُ الرُّوح لَا تُنْقَلُ بِالكَلِمَات، إِنَّمَا تَسْرِي فِي القَلْبِ فَيَسْتَرْوِحُهَا وَيهُسُّ لَهَا وَيَنْدَى بِهَا".[4]

وقد عبَّر الغزالي عن فلسفة الصيام في الإسلام قائلاً: "اعلم أن الصّوْم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. أما صَوْم العموم: فهو كفّ البطن والفرج عن قضاء الشهوة كما سبق تفصيله. وأما صوم الخصوص: فهو كفّ السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص: فصوم القلب عن الهمم الدنِيَّة والأفكار الدنيوية، وكفّه عما سوى الله عزّ وجل بالكلية".[5]

وَكَأَنِّي بِكَ أَيُّهَا الصَّائِمُ تَقُولْ: "تَرَفَّقْ فَنُفُوسُنَا تَشقَّقْ، وَقُلُوبُنَا تُحَرَّقْ، وَدُمُوعُنَا تَدَفَّقْ. فَكَيْفَ السَّبِيلُ لِهَذَا النَّعِيمْ؟  كَيْفَ نَصُومُ وَكَيْفَ نَقُومُ ليالي رمضان لِنَجِدَ مَا وَجَدَ هَؤُلَاءِ الرِّجَالْ؟

هَذَا مَا سَنَحْرِصُ عَلَى بَيَانِهِ مَعَكُمْ فِي هذا الكتيب النافع بإذن الله تعالى.



[1]  سورة ص / الآيتان: 71 – 72.

[2]  عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الباهلي رضي الله عنه، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: مُرْنِي بِأَمْرٍ آخُذُهُ عَنْكَ قَالَ: "عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ". رواه أحمد (22149)، والنسائي (4/165) وغيرهما، وصحّحه الألباني.

[3]   من قصيدة للشاعر أبي الفتح البستي.

[4]  الجواب الكافي، ابن القيم (ص: 84).

[5]  أبو حامد الغزالي: أسرار الصوم، [ص:40]، تحقيق ماهر المنجد، ط 1، 1417هـ / 1996م، دار الفكر – دمشق.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services