يعد فن الجداريات من أقدم الفنون التي عرفها الإنسان منذ العصور الاولى، کما أنه يعتبر أول لغة استعملت للتخاطب، بحيث كانت جدران الكهوف الصخرية أول السطوح التي رسم عليها الفنان القديم لوحاته التي لم تكن ذات هدف تزيني في ذلك الوقت، وإنما وسيلة تعبر عما يدور في ذهن الإنسان القديم من مخاوف وأضرار ومن حرکات رآها من خلال مراقبته للطبيعة وذلك قبل أن تظهر الكتابة والخط.
شروق طالب
ومع مرور الزمن تطورت حياة الإنسان وتطور معها فن الرسم الجداري بتطور الخامات والأدوات المستخدمة فيه، واصبح الرسم على واجهات المعابد والمقابر، يأخذ طابعا دينيا يجسد رؤى الإنسان للموت والعالم الآخر وذلك لفترة طويلة من الزمن، بجانب مشاهد الصيد وغيرها من المشاهد التي تصف أبعاد الحياة الإنسانية وما تحفل به.
واليوم وفي الوقت الحاضر أخذ فن الجداريات مواضيع أخرى بين فنية واجتماعية تعكس أيضا الواقع المعاش وما يجوب في نفسية الذي قام بتلك الجدارية، وبالتالي فإن الفن الجداري من الفنون التي لها عمق فني ثقافي يمتد عبر الحضارات ويختلف أيضا تبعا لتنوع الهدف والوظيفة من عصر إلى عصر آخر .
الجداريات في مختلف الحضارات الإنسانية
وفي هذا الصدد كان لنا لقاء مع عزوق عبد الكريم استاذ التعليم العالي بمعهد الآثار بجامعة الجزائر 2 ، حيث أوضح بأن موضوع الجداريات هو موضوع يكتسي أهمية كبيرة في تاريخ الحضارات القديمة من حيث نشأته و التعريف به وأهم المظاهر التي عرفها ثم انتشاره في مختلف مناطق العالم، حيث نجده في الآثار الأولى للحضارات الإنسانية بصفة عامة و في الجزائر على وجه الخصوص، اذ يعتبر لون من ألوان الفنون الأولى التي عرفها الإنسان البدائي وفي نفس الوقت هو تجسيد مظاهر الطبيعة والنشاط الإنساني على مختلف الجداريات و الصخور التي وجدها للتعبير عن عوامل حياته من جوانبها الاجتماعية و النفسية والحضارية.
وبخصوص الجداريات في مختلف الحضارات الإنسانية أوضح عزوق بأنها تعتبر المرآة العاكسة لمستوى حضارة ما و تمثل صورة صادقة للفنون والواقع الاجتماعي، حيث نجد هذا المظهر إذا عدنا إلى الحضارة الفرعونية القديمة والرومانية والبيزنطية وحتى الاسلامية التي تزخر بكم هائل بما يعرف اليوم بفن الجداريات أو الرسومات التي كانت تمثل على مختلف الداعمات التي تعتبر واقع حضاري عاشه الإنسان في تلك الفترة.
وفي ذات السياق أشار عزوق للحضارة الفرعونية،التي غلب عليها الطابع الديني و الحياة الأخرى أي ما بعد الموت بمعنى الحياة الدائمة في مفهوم الحضارة الفرعونية، وهي فكرة عقائدية التي ترسخت لدى الإنسان المصري القديم جعلته ينتج كثير من مظاهر هذه الرسوم والكتابات على المعابد والمقابر، أما بالنسبة للحضارة الرومانية تحمل جدارياتها مظاهر الزراعة والحياة الاجتماعية كالصيد و الحروب واستجمام لدى الاباطرة، وعلى سبيل المثال كان داخل القصور أحواض تحيط بها أربع جدران عبارة عن واجهات مجسد عليها مختلف مظاهر النشاط الاجتماعي والرقي داخل ذلك القصر، أما بخصوص الحضارة البيزنطية فهي الأخرى صارت على مسار الحضارة الإغريقية و الرومانية فيما يخص هذا الفن.
خصوصية الجداريات في الحضارة الإسلامية
وبالنسبة للحضارة الإسلامية أوضح عزوق أنها لا تخلو من الألواح الجدارية التي تعكس مستوى تطور ورقي الحضارة الإسلامية، والتي تملك خصوصية نستطيع معرفتها من خلال تلك التمثيلات الجدارية على واجهات المباني و القصور والحمامات وكذا على المساجد، حيث أننا لا نجد رسومات آدمية أو حيوانية أي عزوف الانسان المسلم على تمثيل الاشياء التي لا تتوافق مع العقيدة وتفاديه أيضا لبعض الأشكال الفنية التي كانت في الحضارات الاخرى ، حيث نجد ما يميز الحضارة الإسلامية في تلك الفترة ما يعرف بفن التجريدي فضلا عن أهم عنصر فني اشتهرت به هو فن الكتابة والخط العربي حيث تعتبر الوحيدة التي استعملت الخط العربي كمظهر من مظاهر الفنون في العالم.
أما فيما يخص الكتابات في الحضارة الإسلامية ذكرعزوق بأنها تمتلك عدة أنواع على غرارالكتابات التأسيسية و التذكارية و الدينية التي كانت تكتب على الواجهات لما لها من مدلول أثري و فني و تاريخي كتلك التي كانت تكتب على القصور حاملة تاريخ و طبيعة البناء ومؤسسه مما تشكل مصدر يعود إليه المؤرخ، والزخرفات هي الأخرى اكتسحت الجداريات بمختلف انواعها الهندسية والنباتية ورمزية كمظهر فني تميزت به الحضارة الإسلامية.
المناطق الأثرية في الجزائر تزخر بمختلف التصاوير الجدارية واذا عدنا إلى الجزائر على وجه الخصوص يذكر لنا عزوق بأننا نجد هذا اللون من الألوان البدائية الأولى بدأ مع الحضارات ما قبل التاريخ التي جسدت بصورة واضحة في كل من الهقار و طاسيلي التي تعتبر من المتاحف العملاقة و المفتوحة على الهواء الطلق، كما أنها تصنف ضمن التراث العالمي لدى منظمة اليونسكو بالإضافة إلى تصنيفها من التراث النظري وذلك للكم الهائل التي تحتويه من هذه الرسومات الجدارية والنقوش الصخرية والتي يعتمد عليها اليوم لمعرفة مستوى و نمط معيشة الإنسان ما قبل التاريخ وكذا الحيوانات التي استأنسها، حيث اكتشفت الحفريات الأثرية الكثير منها والتي كانت موجودة في الطبيعة من عظام هذه الحيوانات التي مجسدة اليوم ضمن ما يعرف بالتصاوير الجدارية التي عرفت بحياة الانسان من جوانبها المتعددة وهي تعتبر في نظر عالم الآثار و المؤرخ فن من الفنون البدائية.
من الجداريات الى فن الجرافيتي
وفي هذا السياق اوضح عزوق بانه قديما كان هذا النوع من الكتابات والتصاوير الجدارية له هدف حضاري وتاريخي وفني وهو بمثابة مصدر لعالم الأثار و المؤرخ، وعلى مستوى الجزائر يعد فن تطور منذ ظهوره لدى الحضارات البدائية الأولى في مختلف المناطق الأثرية على غرار التاسيلي والهقار والأطلس الصحراوي بالإضافة إلى كل الحضارات التي تلتها، أما حاليا يعرف هذا النوع من التمثيلات عند البعض بالفن الجرافيتي حيث هناك ما يعتبر هذه التصاوير الجدارية بتمثيلات عفوية تلقائية وهناك ما يعتبرها بخربشات لكن في كلتا الحالتين هي امتداد لنوع من الممارسة عبرت عن مختلف المحطات التاريخية التي عرفتها المناطق الأثرية في الجزائر.
كما لفت ذات المتحدث إلى أن الذي تغير في الوقت الحالي واقع هذا الجداريات من حيث المفهوم والهدف و المواضيع وكذا الصيغ المستعملة، وحتى الكتابات التي تكتب أخذت طابع عام، بحيث البعض منها يكون مخالف للمجتمع والثقافة الجزائرية و البعض الآخر يحمل مواضيع رياضية، لكن أي كان الأمر فهو يعتبر فن من الفنون الذي فرض نفسه في واقعنا اليوم وجاء ليعبر عن جوانب مختلف حيث وجد في هذه الجدران واللوحات، الوسيلة الوحيدة لتفريغ ثقل او كبث معين سواء كان الشخص عاجز عن التعبير عن مشاعره أو لديه موهبة فهو بهذا يقوم بتجسيدها.
وأوضح عزوق بأن الجرافيتي اليوم هو محل دراسة من قبل علماء الاجتماع باعتباره ظاهرة موجودة في المجتمع، ومن المواضيع التي يدرسها علماء النفس من الناحية السيكولوجية، أما بالنسبة لعلماء الآثار فهم يركزون على الجانب الفني أكثر وعن طريقة تنفيذ هذه الجداريات من حيث الصيغ المستعملة والموضوع والألوان باعتباره فن حمل خصائص مختلف الحضارات الإنسانية و عاداتها وطريقة عيشها وحتى فنونها باختلافها كما هو الحال اليوم في تنوع مواضيع تلك الجداريات، وبين مؤيد لها و معارض لكن في كل الأحوال تعتبر فن من الفنون الذي له امتداد وآثار موجودة إلى حد الساعة.
الجداريات من منظوري الفن
وفي هذا الشأن كان لنا حوار مع محمد قنين فنان تشكيلي و ذو تجربة طويلة في فن الجرافيتي وفي عدة انواع أخرى من الجداريات الذي بدا شغفه بها منذ نعومة أظافره ثم احترف هذا المجال وأصبح من هاوي فقط إلى هاوي وفنان محترف يقوم بمختلف الجداريات على واجهات المباني و المطاعم و حتى على واجهات المؤسسات التربوية في إطار قانوني، كتلك الجدارية التي قام بها في مدخل ثانوية عروج و خير الدين بربروس في الجزائر العاصمة التي مزج فيها بين القصة البطولية للإخوة بربروس، وجسد مختلف الرموز التي تدل على بعض المواد التي تدرس كالرياضيات والفلسفة، ليشكل في الاخير لوحة فنية تجمع بين الفن والإبداع.
وفي تعريفه للجداريات يقول قنين بأن الجداريات كما هو متعارف عليه فن قديم ويمثل الفرع الأعم الذي يضمن عدة فروع على غرارفن الكاليغرافي هو التشكيل بالخط فقط، المستوحى من فنيات الخط العربي، كما يوجد أيضا فن الكالغرافيتي وهو رسم باستعمال الحروف بتقنيات متعددة لكن بدون كتابة معينة، الذي يندرج في معظم الأحيان فيما يعرف بالتجريد التعبيري وكذا التجريد الهندسي، بجانب أنواع أخرى من الجداريات.
الجرافيتي الفرع الظاهر في الجداريات وأضاف بأن الفرع الظاهر في الجداريات هو فن الجرافيتي أو الغرافيتي الذي يعرف لغة بأنه فن على الحائط أما اصطلاحا هو فن تشكيلي يمثل على قاعدة جدارية بعدة تقنيات وله أنواع عدة كالنقوش الصخرية التي هي الأخرى كانت تعتبر جرافيتي في العصور الأولى وذلك لأن الانسان ابن بيئته والفن بصفة عامة هو سفير المكان والزمان، كما كان لهذا الفن تواجد في معظم الحضارات الإنسانية كالحضارة الفرعونية التي باتت تقنياته تدرس اليوم.
ونوه بان الجرافيتي شهد نقلة نوعية في العصر الحديث حيث أصبح أكثر انتشارا خاصة في تسعينيات القرن الماضي مع موسيقى الهيب هوب في نيويورك، واستعمل أيضا لكتابة اسم العصابات وأصبحت هناك تنافس بينهم ليس فقط في تنفيذ سلطتهم على الأحياء بل حتى في طريقة تشكيل شعارهم على جدران ذلك الحي مما جعلهم يقومون باستدعاء فنانين لكتابة اسم العصابة بطريقة فنية ومتميزة مما يعكس قيمتها ومكانتها بين باقي العصابات.
كما أشاربأنه كان لواجهات قاطرات القطار نصيب أيضا من هذا الفن وعامل مهم في شهرته نسبة لأن القطار في نيويورك سكته تمر من داخل الأحياء لهذا يستعملها هوات هذا الفن في تشهير لهم، ليظهر بعد هذا الجرافيتي في أمريكا الجنوبية وفي المكسيك وزاد من شهرته أكثر خاصة بعد ظهوره عبر مختلف الشاشات وكذا في معظم الدول العربية على غرار الجزائر والمغرب وتونس التي خصصت أماكن خاصة لفن الجرافيتي.
أشهر أنواع الجرافيتي وعن أنواع وطرق التي يؤدى بها الجرافيتي، يذكرقنين بأنها تختلف حسب العامل الزمني و حسب قدرات الفنان في التشكيل أوالتلوين فقط أو في قدرته على رسم لوحة فنية كاملة، كأول نوع وأشهرهم هو "Tag" الطاق "التاج" حيث يعد عنصر أساسي في الجرافيتي لأنه يحمل إسم وتوقيع الفنان يستغرق انجازه 3 او 5 ثواني، أما “Throwup”الثروأب" أساسه العامل الزمني أي يتم انجازه في أقل من دقيقة واحدة وهو عبارة عن كتابة كلمة ما بحروف متصلة و ذات شكل يبدو كالفقاعات وتكون مجوفة بجانب استعمال تقنيات أخرى لتظهر في شكل متجانس و متناسق.
أما "Piece" "البيس" او كما يطلق عليها "البياسة" وهو عمل فني جرافيتي كامل ومعقد يحتوي على ألوان متعددة وتفاصيل دقيقة يستطيع القيام بها الفنان فقط نظرا لأنها تعد بمثابة لوحة فنية كباقي اللوحات الفرق الوحيد هو كونها ترسم على قاعدة جدارية، بجانب أنها تظهر احتراف الفنان في انجاز عمل فني عكس باقي الأنواع التي تظهر قدرته على التشكيل فقط.
الجرافيتي و الأحياء الشعبية
وفي هذا الصدد اوضح قنين بأن الجرافيتي في الأحياء الشعبية له طابعه الخاص يغلب عليه التحفظ لأنه سيشاهد من قبل أفراد ذلك الحي ويكون تحت طلبهم، وعادة تكون حول الفرق الرياضية وبالأخص رياضة كرة القدم لما لها من شعبية واسعة في الجزائر بصفة عامة و في الأحياء الشعبية بصفة خاصة.
كما نوه محدثنا في الأخير بأن قبل انجاز أي رسم أو كتابة على حائط لابد من أخذ الموافقة من قبل الجهات المعنية وذلك للعمل في إطار قانوني، منوها بإستغلال هذا الفن في الأمر الإيجابي ،لأنه يحمل رسالة وذو تأثير، لهذا السبب لابد من ترك أثر هادف.
الجرافيتي من المنظور النفسي
ولمعرفة العوامل النفسية التي تدفع شباب اليوم للاقدام على هذا النوع من الفنون، أكد لنا البروفسور حماش حسين المختص في علم النفس الاجتماعي بجامعة الجزائر2، بأن الجداريات بصفة عامة أو بالأحرى فن الجرافيتي، أي تلك الاشكال و الكتابات التي يقوم بها الشباب أو الفنانين على الجدران وفي فضاءات الأحياء الشعبية خاصة هي في حقيقة الأمر تعبير شعوري ولا شعوري في نفس الوقت على ما يهم هذه الفئة وعن الأشياء التي تجوب في نفسياتهم وفي حياتهم اليومية. وأضاف أن الحياة الاجتماعية اليوم مملوءة بالأحداث و القضايا و الأفكار و المواضيع التي يعيشها الشاب وفي بعض الأحيان تكون الإمكانيات والوسائل غير متوفرة لكي يتمكن من ايصال هذه الأفكار التي تشغل باله، وعندما يعتذر عليه إيصال هذه الرسائل والاهتمامات إلى المؤسسات المعنية بالأمر قصد الاستجابة لهذه الحاجيات، فإنه يلجأ إلى هذه الجداريات لرسم رموز وإشارات وكذا تصوير القضية الأساسية في حياته على غرار الحرية والعمل من جانب آخر التأكيد على هويته و شخصيته خاصة في الأحياء الشعبية.
ومن بين القضايا او المواضيع التي يجسدها في الجداريات، ذكر حماش علاقته بمختلف القضايا الرياضية كمقابلة رياضية فيقوم الشاب برسم أعلام ولاعبي الفريق الذي يشجعه، وحتى القضايا السياسية هي الأخرى تشغل شباب اليوم كالقضية الفلسطينية ليؤكد على حرارة حبه و دعمه لتلك القضية، بالإضافة الى القضايا العلمية والثقافية.
وفي الاخير دعا حماش إلى توفير فضاءات خاصة لتجسيد هذا الفن الذي يعتبر بمثابة متنفس لشباب وفي نفس الوقت هو توجه نحو الفن لابد من التشجيع ودعمه لما له من أثر في تفادي و تجنب توجهات اخرى التي تكون عادة سلبية كالعنف ومظاهر أخرى.