108
0
ضربات إسرائيل في العمق الإيراني... عصر الحروب الذكية بدأ من دون إعلان؟

بقلم: ضياء الدين سعداوي
في لحظة فارقة من عمر الصراع الإقليمي، ضربت إسرائيل العمق الإيراني في هجمات متعددة الأدوات، تداخل فيها الجوي بالمسيّر، والبشري بالذكاء الاصطناعي، في عملية حملت توقيع ما بات يُعرف بـ"الحرب الهجينة الذكية".
ولم تكن هذه الضربات مجرد طلعات جوية تقليدية، بل مزيجًا بالغ التعقيد من الأدوات السيبرانية، الإستخباراتية، والتقنيات المتقدمة، يذكرنا – بلا مواربة – بما فعلته أوكرانيا في العمق الروسي.
لكن هذه المرة، المشهد مختلف، فالضربات لا تأتي من خصم مباشر محلي، بل من عدو إقليمي يمتلك أطول باع استخباراتي وتكنولوجي في المنطقة. وإيران، المستهدفة، ليست ساحة حرب مفتوحة، بل دولة ذات منظومات دفاعية متطورة وتجربة في امتصاص الضغط، ما يجعل من العملية برمتها حدثاً يستحق التأمل العميق.
أوجه الشبه مع النموذج الأوكراني...عندما تلتقي الأدمغة في غرفة عمليات واحدة
النمط الذي اعتمدته إسرائيل في هجماتها الأخيرة على إيران يشبه إلى حد التطابق التكتيكات الأوكرانية في ضرب المنشآت الروسية، وهو أمر لا يمكن تجاهله. في الحالتين، المسيّرات تدخل المجال الجوي بطريقة يصعب تعقّبها، وتضرب أهدافاً محددة بدقة، وغالباً ما تكون ذات طابع عسكري أو سيادي.
في كلا الحالتين أيضاً، تقف خلف الضربات بنية استخباراتية دولية شبه موحدة، تؤمن بالمفهوم الحديث للضربة "الذكية"، حيث يتداخل التخطيط البشري بالتحليل الآلي، وتُدار الحروب ليس فقط من الميدان، بل من شاشات مراكز القيادة في واشنطن وتل أبيب وربما عواصم أخرى شريكة في شبكة "العيون الخمس".
**الاستخبارات البشرية والتكنولوجيا... شراكة هجومية من العيار الثقيل**
الفاعلية اللافتة لهذه الضربات تفتح الباب أمام تساؤل جوهري، هل هي نتيجة اختراق استخباراتي ميداني، أم نتاج لتفوق تقني وتحليل ذكي للبيانات؟ و الراجح أنهما معًا.
الإستخبارات البشرية (HUMINT)
من المرجح أن معلومات دقيقة قد جُمعت من داخل إيران، عبر عملاء أو أدوات اختراق داخلية. مواقع الاستهداف تشير إلى معرفة دقيقة بالبنية العسكرية والأمنية، وربما أيضاً بشبكة التمويه الدفاعي.
الذكاء الاصطناعي والمراقبة التقنية (SIGINT + AI)
يُعتقد أن طائرات المسيّرة استخدمت خوارزميات ذكية لتحديد المسارات الأقل كشفاً بالرادارات، واختارت توقيتات تنفيذ دقيقة، ما يعكس حضور الذكاء الاصطناعي ليس فقط في التوجيه، بل ربما في اتخاذ القرار الهجومي ذاته.
طائرات مسيّرة "بلا أثر"
تصميم المسيرات المستخدمة، على ما يبدو، يرتكز على تقنيات الشبحية والبصمة الرادارية المنخفضة، مما يجعل اعتراضها أمراً بالغ الصعوبة. وهو ما يفسر نجاحها في الوصول إلى أهدافها، رغم الدفاعات الجوية الإيرانية المعروفة بتشعّبها.
إشارات استراتيجية لا يمكن تجاهلها
بعيداً عن حدود الضربة وتوقيتها، تقرأ إسرائيل من خلالها عدة رسائل استراتيجية:
لا ملاذ آمن، فالرسالة الأولى والأهم أن الهجوم الإسرائيلي يمكن أن يحدث في أي مكان، حتى في قلب العدو، وهو ما يعيد تعريف مفهوم "الأمن السيادي".
ضغط مستمر على البرنامج النووي الإيراني
حتى دون استهداف مباشر للمنشآت النووية، فإن ضربات تطال البنى التحتية أو اللوجستية المرتبطة بها تكفي لتأخير أو إرباك بعض المسارات التقنية، استنزاف استراتيجي لإيران ،عبر إجبار طهران على رفع مستوى إنفاقها في المجال السيبراني والدفاعي، قد تدخل إيران سباقاً مكلفاً ضد خصم يملك أفضلية تقنية و استخباراتية واضحة.
هل نحن أمام مرحلة جديدة من الحرب الهجينة؟
ما يحدث في الشرق الأوسط اليوم، من بيروت إلى دمشق، ومن غزة إلى طهران، يؤشر إلى مرحلة ما بعد الحرب الكلاسيكية. حرب هجينة، لا تبدأ بإعلان، ولا تُخاض بجيوش، بل ببيانات وخرائط وشبكات إنترنت مظلمة.
الضربة الإسرائيلية على إيران تدخل ضمن هذا السياق، وتعيد تعريف قواعد الاشتباك. لم يعد من الضروري أن تُظهر طائرات F-16 عضلاتها فوق سماء العدو. يكفي إرسال سرب من المسيّرات، مُغذى بالذكاء الاصطناعي، ليحقق المهمة بأقل كلفة وأدنى خسائر.
غرف الحرب تغيّرت... ومفهوم السيادة أيضاً
ربما لم يعد من المبالغة القول إن الحروب باتت تُدار من "سيرفرات" أكثر مما تُدار من خنادق. وأن القادة العسكريين يشاركون غرفهم اليوم مع خبراء خوارزميات ومهندسين في السيبرانية والبيانات الضخمة.
لكن هذا التحول يحمل وجهًا آخر، مزيد من الغموض، غياب الجبهة الواضحة، وخطر التصعيد غير المتوقع. فطهران، المعروفة بردودها غير المتناظرة، قد تختار الرد عبر حلفائها، أو عبر هجمات سيبرانية معقدة تستهدف منشآت إسرائيلية أو أميركية.
عصر "الزرّ القاتل" بدأ بالفعل
الضربة الإسرائيلية ليست حدثاً معزولاً، بل هي حلقة في سلسلة تطور دراماتيكي لشكل الحروب. إنها تقول للعالم، لسنا بحاجة إلى غزو كي ننتصر، ولا إلى دبابات كي نهزّ العروش. ما نحتاجه فقط هو معلومة دقيقة، وطائرة لا تُرى، وسيرفر قادر على إدارة المعركة.
لكنها أيضاً تطرح سؤالاً خطيراً على مستقبل البشرية: هل اقتربنا من عصر الحروب بلا وجوه؟ حيث يُقتل الناس بقرارات تُتخذ من خلف الشاشات، وتُنفّذ بضغط زر؟
الجواب قد يتضح في الضربة القادمة.