258
0
ضربة «مطرقة منتصف الليل»
حين تتحوّل المعركة النووية إلى معركة سرديات إيران بين الرماد والدبلوماسية المغلقة

بقلم: ضياء الدين سعداوي
في فجر 22 جوان، ومع أولى القذائف التي سقطت على منشآت نطنز وفوردو وأصفهان، بدأت مرحلة جديدة من المواجهة بين واشنطن وطهران، مرحلة لا تقف عند حدود القدرة النووية، بل تتخطاها إلى السردية السياسية، واللعبة الدبلوماسية، وحدود الاشتباك الإقليمي والدولي. «مطرقة منتصف الليل» لم تكن مجرد اسم لعملية عسكرية أميركية، بل كانت عنوانًا لصدمة مركّبة أعادت رسم مشهد البرنامج النووي الإيراني، وهشّمت ما تبقى من اتفاق 2015، وفتحت أبواباً مغلقة على سيناريوهات أكثر عنفاً.
واشنطن بين خطاب "النصر النووي" وعسكرة الدبلوماسية
من بروكسل إلى واشنطن، ومن تصريحات دونالد ترامب إلى تغريدات المبعوثين، بدت الرواية الأميركية وكأنها تحتفل بنصر حاسم. الرئيس الأميركي لم يتوانَ عن استخدام عبارات مشبعة بالتاريخ النووي: «لا أريد استعمال مثال هيروشيما أو ناغازاكي، لكن ما فعلناه أنهى الحرب تماماً». حديث ترامب لا يعكس فقط فخرًا عسكريًا، بل يوحي برغبةٍ في تكريس منطق "الردع بالإذلال" وتحويل إيران إلى كيان رمادي لا يقوى على العودة إلى الطاولة الدولية إلا مكسورًا.
ماركو روبيو، وزير الخارجية الأميركي، عزز هذه الرواية عبر استشهاده بصور فضائية تظهر «انهيارات واسعة»، فيما تحدّث ستيف ويتكوف عن نهاية مفاعل فوردو: «12 قنبلة خارقة للتحصينات كفيلة بتسوية أي قدرة نووية». لكن ما لم يُذكر في تلك الرواية هو أن هذه الضربات قد تكون آخر الأوراق الكبيرة، وأن إعلان النصر لا يعني بالضرورة حسم المعركة.
طهران بين الرماد والعناد
الرواية الإيرانية، في المقابل، جاءت متماسكة سردياً وإن بدت خاسرة ماديًا. الإعتراف بوقوع أضرار "بالغة" في ثلاث منشآت رئيسية ترافق مع خطاب يُراهن على بقاء "المعرفة النووية"، وهي الورقة التي لطالما اعتبرتها طهران صمام أمانها: «يمكن تدمير المنشآت، لكن لا يمكن محو العقول»، كما قال عباس عراقجي، في رسالة رمزية تعيد التذكير بإرث المقاومة النووية بعد اغتيال فخري زاده والعلماء الآخرين.
لكن اللافت هو تصويت البرلمان الإيراني على تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في خطوة تعكس حجم التوتر، وقد تتحول إلى قطيعة دائمة إذا لم يتم احتواء التصعيد. من جهة أخرى، يبدو أن إيران باتت أقرب إلى الإنسحاب الكامل من اتفاقية عدم الانتشار النووي، أو على الأقل من آلياتها الرقابية، خصوصًا في ظل تصريحات طهران التي تتحدث عن "فشل" المجتمع الدولي في حمايتها.
IAEA: البحث عن اليورانيوم المفقود… ونافذة الحلّ المغلقة
رافائيل غروسي، المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، بدا وكأنه يقف على حافة فشل دبلوماسي تاريخي. الوكالة فقدت مؤقتًا الإتصال بمواقع كانت تراقبها لعقود، ولا تملك الآن تصوراً واضحاً عن حجم الدمار، أو مكان مخزون اليورانيوم العالي التخصيب. تحذيره من أن «ضياع النافذة الدبلوماسية سيكون خطأً جسيمًا» يعكس قلقًا من أن تكون الضربة الأميركية قد تجاوزت ليس فقط حدود القانون الدولي، بل ألغت هامش الثقة الوحيد المتبقي.
من اختبار القوة إلى حرب الروايات
ما حدث في 22 جوان ليس مجرد عملية عسكرية، بل انتقال واضح من الردع النووي إلى هندسة المشهد الإقليمي عبر أدوات القوة الخشنة. تسريب تقارير استخباراتية أميركية عن محدودية أثر الضربات، وعن احتمال نقل اليورانيوم والمعدات إلى أماكن مجهولة، يكشف فشل السردية الأميركية في فرض صورة "التدمير الشامل" بشكل مطلق. بل إن الحديث عن اقتراب إيران من القنبلة النووية (شهران أو ثلاثة حسب بعض التقارير) يضع الضربة في خانة التأخير لا التدمير.
في الوقت ذاته، فإن إعادة إنتاج إيران على صورة "خطر نووي داهم" في الإعلام الأميركي والغربي، هو تمهيد لعدوان أوسع، وليس لسلام محتمل. وهو ما يظهر في تصريحات ترامب التي تلوّح بإمكانية استمرار "العملية"، وفي صمت إسرائيل المشبوه، الذي قد ينذر بتصعيد مباشر لاحقًا.
توازن الردع... أو اختلاله؟
السلاح النووي لطالما وفّر نوعاً من "الردع البارد"، لكن في حالة إيران، يبدو أن معادلة الردع لم تكتمل بعد، أو أنها غير معترف بها من قبل الطرف الآخر. إذ أن الولايات المتحدة، مدفوعة بمنطق "الردع المطلق"، لا ترى في إيران شريكًا نوويًا محتملاً، بل خصمًا يجب إجهاضه قبل أن تكتمل أدوات الردع لديه.
غير أن مفارقة الردع هذه تضع العالم أمام سيناريو أكثر خطورة، فإذا امتلكت إيران القنبلة، فإن ميزان القوى سيبقى غير متكافئ أمام أميركا وإسرائيل، لكنه سيمنح طهران أداة تفاوض جديدة. أما إذا تم منعها من ذلك بالقوة، فإنها لن تجد سببًا واحدًا للالتزام بأي اتفاق مستقبلي.
ما بعد المطرقة!
ضربة «مطرقة منتصف الليل» فتحت صندوق باندورا النووي في الشرق الأوسط من جديد. البرنامج الإيراني عاد سنوات إلى الوراء ماديًا، لكنه في المقابل تحوّل إلى قضية وطنية متجددة داخل إيران، وأدخل المنطقة في دوامة جديدة من التساؤلات: هل كانت الضربة عملاً وقائيًا أم تمهيدًا لحرب طويلة؟ هل ستقبل إيران التفاوض بعد هذا الإذلال العسكري؟ وماذا لو قررت بالفعل المضي نحو السلاح النووي كخيار دفاعي مطلق؟
في زمن تُقصف فيه المنشآت النووية تحت رعاية الأمم المتحدة، ويُبرَّر فيه العدوان بإسم "الأمن الإقليمي"، تصبح القواعد الأخلاقية والدبلوماسية هشّة إلى حدّ الانكسار. والنتيجة هو شرق أوسط أكثر توتراً، وعالم أقرب إلى مواجهة نووية بالوكالة، والكلّ يتحدّث عن السلام بينما يصنع الحرب.