184

0

"دار لالاهم " مزار تراثي يعكس ذاكرة القصبة العريقة

في حي القصبة العتيق يلفت انتباه الزائر منزل يعود تاريخ بنائه إلى ثلاثة قرون وخمس وعشرين سنة، ويعد واحدا من أقدم البيوت التي ما تزال محافظة على روحها الأصلية، جامعا بين كونه مسكنا ومزارا في آن واحد، ويحكي قصة سكان الحي عبر الأجيال.

نسرين بوزيان

يعرف هذا البيت باسم "دار لالاهم " ويحمل اسمه دلالة خاصة في الموروث الشعبي الجزائري، إذ يطلق على المرأة الحكيمة والقوية والماهرة، التي لا تقارن بغيرها. 
ويبرز هذا الاسم مكانة النساء في المجتمع التقليدي للقصبة، حيث كن مثالا للهيبة والحكمة والفنون التقليدية، من إعداد الأطعمة المنزلية إلى الحرف اليدوية التي تظهر براعة اليد وروعة الصنعة. 

    

     

 

 


ما إن تعبر عتبة البيت حتى تنتابك مشاعر الزمان الماضي، كأن كل زاوية تحكي قصة من زمن بعيد، هنا كانت تعيش العائلة الممتدة بكامل أفرادها، الأم والجدة، الأبناء الصغار والكبار، في انسجام يجسد فعليا مفهوم "الدار الكبيرة" التي تجمع ولا تفرق. 
ويضيف هذا الانسجام بعدا ثقافيا واجتماعيا، إذ لم يكن البيت مجرد مكان للسكن، بل قلبا نابضا بالذكريات والروابط الأسرية والمناسبات اليومية التي شكلت حياة سكان القصبة على مر الأجيال.

حماية الإرث ونقل تجربة الماضي

     

 

 

دخلنا الدار لنشهد كيف كانت الحياة تنبض في كل زاوية من زواياها، والتقينا منير بوزنات، مالك "دار لالاهم"، الذي أوضح أن الدار رغم عمليات الترميم التي خضعت لها على مر السنين، ما تزال محافظة على طابعها الأصيل وهويتها المعمارية. 
وأضاف أن أشغال الترميم لم تقتصر على الجدران والأسقف فحسب، بل صممت بعناية لحماية هذا الإرث وضمان نقل تجربة الماضي للزائرين دون فقدان روح المكان.

 

 

يفتح البيت على ساحة داخلية صغيرة تعرف بـ "الدويرة"، وهي قلب الدار وروحها، حيث أوضح منير أن الجدات كن يحضرن الطعام والأطفال يركضون ويلهون، والرجال يتبادلون أخبار الصيادين والأسواق. 

وأكد أن الدويرة تحولت من مجرد فضاء معماري إلى مسرح للحياة اليومية وجزء عميق من ذاكرة المكان، وفي إحدى زوايا الدويرة يوجد "الجبّ" وهو بئر تقليدي يجمع مياه الأمطار عبر أنابيب فخارية تمتد من السطح إلى الداخل، وأشار منير إلى أن سكان القصبة قديما لم يحتاجوا إلى أي منبع خارجي للماء، فقد كان هذا البئر يكفي العائلة طوال السنة، ويضمن مياها نظيفة وعذبة، معقمة بفضل طبيعة الحجر والجير الذي يكسو الجدران، ما يعكس قدرة السكان على التكيف مع الطبيعة واستغلال مواردها دون إسراف.


حكمة نوافذ بيوت القصبة

       

 

ولأن الحياء والخصوصية كانت إحدى ركائز الحياة في القصبة، أكد منير أن البيوت لم تكن تطل بنوافذ على الشارع، بل اكتفت بنافذة صغيرة للتهوية، موضحا أن كل دار تضم "السدة" وهي مساحة مخصصة لتخزين المؤونة قبل ظهور الثلاجات حيث تحفظ كميات القمح، الكسكسي، الزيتون، وغيرها من المواد الأساسية.

رحلة في التراث الجزائري بالملابس التقليدية

       

 

من جانبها، تقول السيدة صفية، التي ورثت دارها عن أجدادها، إن فكرة تحويل المنزل إلى فضاء تراثي لم تخطر ببالها يوما، حتى بدأ الزوار يطرقون بابها بحثا عن ذاكرة حي القصبة العريق. 
وأضافت أن الدار بفضل إشرافها المستمر، تحولت تدريجيا إلى فضاء حي يعكس تاريخ المكان ويتيح للزائرين تجربة مباشرة للألبسة التقليدية.

     

 

وأوضحت صفية أنها عملت على تزيين باحة المنزل بالسينوة التقليدية المزخرفة، وأعادت إحياء صندوق جهاز العروسة بما يحتويه من كراكو وقويط ومجوهرات تقليدية كانت تستخدم في الماضي. وذكرت أن هذه القطع ليست مجرد زينة، بل تحمل بين طياتها قصصا وحكايات النساء اللواتي صنعنها بكل مهارة ودقة، لتكون شاهدا حيا على تراث القصبة الأصيل.
وتستقبل صفية اليوم الزوار من مختلف ولايات الجزائر وحتى من الخارج، موضحة أنها تتيح لهم استئجار الحايك اللباس التقليدي والقفة والعجار مقابل مبلغ رمزي، لمنحهم فرصة التقاط الصور داخل الدار. 
وأكدت أن الهدف من هذه التجربة هو السماح للزائرين بالانغماس في التراث الجزائري بشكل حي، مشيرة إلى اندهاش وانبهار السياح الأجانب من جمال الملابس التقليدية  وروح المكان.
ويبدو واضحا أن تجربة ارتداء الحايك تترك أثرا عميقا في نفوس الزائرات، حيث أبرزت الزائرة ملاك، في حديثها لـ "بركة نيوز"، أن ارتداء الحايك داخل هذا البيت العريق أعادها إلى زمن الجدات، حيث يجتمع الوقار والأنوثة مع العادات والتقاليد العريقة والمكانة الاجتماعية التي حافظت عليها نساء القصبة عبر القرون. 
وأوضحت أن التجول بين أروقة الدار ومشاهدة السينوة وصندوق جهاز العروسة، جعل تقاليد الماضي حاضرة بوضوح، ما يجعل تجربة الزائر أكثر من مجرد مشاهدة مبنى قديم، بل رحلة عميقة في تاريخ القصبة وروحها الحية.

 

مشهد بانورامي ساحر 

       

 

من جهة أخرى، تضم " دار لالاهم" مجموعة غنية من الأدوات المنزلية القديمة، مثل الأواني الفخارية والملاعق الخشبية والصواني التقليدية، التي كانت جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية للعائلة، وتحمل بين طياتها ذكريات الأجيال، وتعكس بساطة العيش وروح التعاون والتكافل بين أفراد الأسرة.

أما ما يلفت الأنظار أكثر فهو السطح والإطلالة الخلابة التي توفرها الدار، حيث يمكن للزائر أن يرى قلب الجزائر العاصمة ممتدا أمامه، بما في ذلك مقام الشهيد وجامع الجزائر، في مشهد يتيح فرصة رائعة للتصوير والتأمل في جمال المدينة من منظور فريد.


في الختام، تظل "دار لالاهم" تجربة استثنائية تربط الزوار بتاريخ القصبة العريق، وتتيح لهم الغوص في تفاصيل حياتها اليومية، مع التقاط الصور والتمتع بارتداء الحايك الجزائري للنساء والبرنوس التقليدي للرجال، لتصبح بذلك مساحة حية تنبض بالذكريات وتواصل سرد قصصها العريقة لكل من يقصدها اليوم.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services