207

1

"أُريض أفكاري حتى يتروّض المعنى العميق، فيُستدعى للسطح كزُبدة بعد المدّ والجزر"

 

بقلم: حنكه علي أمجد

 

مقدمة: الفكرة ليست شرارة، بل حياة كامنة

ليست كل فكرة تستحق أن تُقال، ولا كل عبارة تصلح لأن تُكتب.

هناك طبقات من المعاني، بعضها يطفو سريعًا ويبهج القارئ، وبعضها الآخر يسكن في الأعماق، لا يخرج إلا بتأنٍّ، بصبر، وبحضور ذهني خالص. في عبارة "أُريض أفكاري حتى يتروّض المعنى العميق، فيُستدعى للسطح كزُبدة بعد المدّ والجزر" يكمن تصور فريد عن الكتابة والتفكير، يُقارب الفنّ الروحي لا الصناعة الذهنية. وهي ليست مجرد تقنية عقلية، بل سلوك فكري يحمل في جوهره أدبًا داخليًا مع الفكرة نفسها، قبل أن تكون علاقة بين الكاتب والقارئ.

ترويض الفكرة: بين الانضباط والحدس

"أُريض أفكاري" تعني أكثر من تهذيب. إنها عملية طويلة من التدريب العقلي والانفعالي، حيث لا تُستعمل الفكرة فور ولادتها، بل تُعاد صياغتها داخليًا، تُراقَب وهي تنمو، وتُخضع لنوع من التصفية الذاتية. إنها عملية شبيهة بتربية الخيل: لا بالعنف تُروّض، بل بالفهم، بالاقتراب، وببناء الثقة.

الكاتب الذي يُرَيّض أفكاره لا يسارع إلى الحبر. إنه يُنصت إلى اهتزازاتها الداخلية، يُميّز بين المعنى العابر والجوهر الصادق، يجرّب أن يسكن معها، لا أن يستهلكها. إنه لا يستدعي المعنى كما يُستدعى جندي في طابور الصباح، بل ينتظره كما يُنتظر الغيم الثقيل على أطراف صحراء.

في هذا المقام، تُصبح الكتابة نفسها حالة انتظار، انتظار نُضج لا انتظار حدث. وهنا فقط يبدأ الفرق بين من يكتب لأداء، ومن يكتب لحضور.

المعنى العميق: لا يُولد إلا بعد مشقّة

ليس المعنى العميق ما يُثير الإعجاب فحسب، بل ما يملك القدرة على البقاء، والتسلّل إلى الوعي دون استئذان. لكنه لا يُعطى مجانًا، ولا يُكشف إلا بعد مجاهدة.

المعاني العميقة تختبر صبرنا، تشترط علينا أن نتخلّى عن السطحية، أن نُنظّف عقولنا من ضجيج اليوميّ، أن نفتح نوافذ في داخلنا لم نكن نعلم بوجودها. إنها لا تحب الازدحام، ولا تُزهر تحت الضوء القاسي. إنها تُشبه جذور الشجرة، تعمل بصمت، لكنها تحمل في داخلها نبوءة الظهور.

من يكتب من عمق، يعلم أن الفكرة العظيمة تمر بمراحل تشبه مراحل النمو العضوي: بذر، سكوت، تفتّح، ثم ثمر. لا يمكن قطف الثمرة في غير أوانها، وإلا سقطت حامضة.

الزبدة بعد المدّ والجزر: استعارة دقيقة للعمق

تشبيه المعنى العميق بـ"الزُبدة بعد المدّ والجزر" ليس محض صورة شاعرية. بل هو تصوير دقيق لديناميكية الفكرة الداخلية.

المدّ: هو فيضان الأفكار، الانفعال، التشوّش، كثرة الاحتمالات.

الجزر: هو السكون، التأمل، التصفية، الإنصات.

الزُبدة: هي ما يبقى بعد كل شيء، بعد أن تنحسر الموجة الفكرية… ويبقى الخلاصة.

هذا النوع من المعاني لا يُولد في لحظة، بل يُختبر في موجات داخلية. ولهذا، الكاتب أو المفكر الذي لا يُعطي نفسه فرصة المرور بهذه المراحل، سيظل ينتج أفكارًا مبتورة، لا روح فيها.

الزُبدة هنا ليست مجرد نتيجة، بل تجلي الحقيقة بعد خلوّ الذات من الضجيج. وتلك لحظة نادرة، لا يذوقها إلا من تجرأ على الانتظار.

الكتابة كتأمل لا كأداء

أنت حين تروض فكرتك، لا تكتب لتؤدي دورًا، بل لتكشف جزءًا من ذاتك. هذه الكتابة ليست ترفًا فكريًا ولا استعراضًا بلاغيًا، بل حالة داخلية من الحضور التام. هنا يصبح الكاتب شاهِدًا على انكشاف الحقيقة، لا مجرد ناقلٍ لها.

فكما أن الشاعر لا يكتب القصيدة، بل تُكتب القصيدة عبره، كذلك من يروض أفكاره — يُصبح قناة لا مُتحدثًا.

وتلك القناة تحتاج إلى صفاء، إلى فراغ محسوب، إلى مساحة تتسكع فيها الفكرة بلا ارتباك. لا تلزمك خلفية موسيقية، بل خلفية ذهنية صافية، كمن يقف على حافة جبل، وينتظر أن يتهدّل الضباب.

الترويض في زمن الفوضى: فنّ المقاومة الصامتة

في عصر المحتوى السريع، والعناوين الصادمة، والكتابة لأجل اللحظة، يصبح "ترويض الأفكار" فعل مقاومة ناعم. أنت لا تُقاطع الزمن، بل تُبطّئه. لا تُجاري الموجة، بل تبني قاربًا يسير بثقة وسطها.

وهنا، يُصبح الكاتب أشبه بالناسك: لا يكتب إلا إذا استوفت الفكرة شروط ظهورها. ولا يُخرجها إلا في لحظة نُضجها.

السرعة تقتل العمق. والإكثار يُميت النكهة. وتكرار الكلام يفقده المعنى. وحده من تأنّى، من أطال الجلوس على ضفاف عقله، هو من يخرج بالكلمات التي تشبه الكنز بعد رحلة صامتة تحت سطح البحر.

فن التعري المحتشم: مكاشفة بلا فضيحة

أفكارك، حين تُروض، لا تظهر فجّة، ولا ترتدي أقنعة. إنها تُشبه لحظة من لحظات التعري المحتشم. تظهر ببطء، بتدرّج، بكشفٍ محسوب.

لا تصرخ، بل تُلمّح. لا تقتحم، بل تدعو. وكأنك حين تكتب، تُقدّم المعنى كما تُقدّم أمٌّ وجبة مطهية على مهل، تعرف أن رائحتها ستكفي.

هذا النوع من الكشف يتطلب مهارة نادرة: أن تقول دون أن تُفسد الغموض، وأن تُظهر دون أن تُعرّي. والكاتب هنا يصبح سيد المسرح، لا لأنه يملك الأضواء، بل لأنه يملك الإيقاع.

خاتمة: نداء إلى من يحترم المعنى

هذه العبارة ليست فلسفة كتابة فقط، بل طريقة عيش. أن تروض فكرتك يعني أن تحترم الزمن، أن تؤمن بأن كل معنى عميق له موعد لا يتقدّم ولا يتأخر، وأن دورك هو التهيئة، لا السيطرة.

الفكر لا يُساق، بل يُدعى…
والمعنى لا يُخترَع، بل يُستخرج…
ومن لا يصبر على المدّ والجزر، لن يحصد الزبدة.

تذكّر: كل فكرة تُكتب فور انفعالها، غالبًا ما تولد ناقصة. لكن حين تُمهَّد لها أرضية النضج، فإنها تخرج بكامل قوامها، بلونها، برائحتها.

اكتب لتكشف… لا لتصرخ.
انتظر المعنى… لا تستعجله.
وتذكّر دائمًا أن العمق لا يأتي لمن يطلبه، بل لمن يتهيأ له.

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services