124
0
عروس المتوسط …البهجة مدينة سيدي عبد الرحمن الساحرة

بقلم الأستاذ أدم محمد الأمين
تعود أصول المدينة إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد،وتختلف آراء المؤرخين وتتضارب في نسبة تسميتها، فيذكر عبد الرحمان الجيلالي إنه كانت هناك مجموعة الجزر ومن جمعها عاد اسم الجزائر.
وهناك رأي أخر ومخالف يروي إن كلمة ايكوسيم مركبة من جزئيين، أي: بمعنى الجزيرة كسيم: بمعنى الشوك وجمعها هو جزيرة الشوك، وهناك من يخالف الآراء السابقة ويذكر إن كلمة ايكوسيم مركبة من شطرين، أي: بمعنى الجزيرة، كسيم: النورس. وهي جزيرة النورس.
وهناك أسطورة تقول إن هرقل خرج مع عشرين من أصحابه بقصد الوصول إلى الغرب ليفصل بين جزيرة إببريا والمغرب،ـ ما يعرف اليوم بأعمدة هرقل في مضيق جبل طارق، ولما وصل هرقل وأصحابه إلى المكان المعروف اليوم بالجزائر للإستراحة أعجبوا بالمكان وانفصلوا عليه وأطلقوا على المكان إسم ايكوسي أي العشرين، وأرخ لهذه الأسطورة المؤرخ الروماني صاولين.
ويذكر مارمول كاربخال إن الرومان يسمونها يوليا القيصرية على شرف يوليوس قيصر،وأمام هذا الإختلاف في المعاني والتباعد فيما بينها، لايمكن إعطاء حكم ثابت حول أصل التسمية لعدم وجود دليل قاطع يحملنا على الإختيار بين المعاني المختلفة .
المدينة في العصر القديم:
هي تلك المدينة الساحرة حباها الله بجمال طبيعتها الضاربة في التاريخ لجئ إليها الفينيقيون بعد هجرتهم نحو شمال إفريقيا وجعلوا منها مرفأ لسفنهم ويكون أول من حل بالمدينة، وهذا ما أكدته الدراسات الأثرية والحفريات، فلقد تم اكتشاف جرة مملوءة بالمسكوكات وهي تمثل 158 قطعة نحاسية و154 من رصاص مكتوبة بالخط الفينيقي* من اليمين لليسار ومضروب عليها لفظة ايكوسيم ،وبالموازاة مع اكتشافات أخرى تشهد وجود علاقات تجارية مع الضفة الأخرى جنوب ايطالية.
وبعد جلاء الفينيقيين حكم الرومان المدينة icosim وتوسعت قليلا عما كانت فيه في العهد الفينيقي،وازدهرت الحياة فيها ثم انتقلت من حكم اوغست إلى وصاية موريطانيا القيصرية وأصبحت المدينة مستعمرة رومانية، وفي القرن الرابع ميلادي وعلى اإر تردي الأوضاع واستياء الأهالي قاد فيرومس* ثورة على الحكام اسقط المدينة ونهبها سنة 372،وبقيت المدينة مهجورة بعد جلاء الرومان منها ولم تذكرها المصادر فيما بعد.
المدينة في العهد الإسلامي:
بقيت المدينة منسية بعد جلاء الرومان من القرن الخامس إلى القرن العاشر حيث أمر زيري بن مناد الصنهاجي إبنه بلكين*ببناء مدينة سنة 960م ولقد وقع اختيار بلكين على الموقع القديم لأكوزيم وأعجب به وذلك بسبب مجموعة الجزر والإمكانيات الطبيعية لها وكذلك إمكانيات استغلال الحجارة الموجودة من بقايا المدينة القديمة ووجود تخطيط عمراني، وعرفت بجزائر بني مزغنة نسبة لقبيلة بنو مزغنة.
ولقد اشتهرت في عهد بلكين بن زيري الذي عمل على إعادة الوجه الحضاري للمدينة وازدهارها وهذا ما أكده ابن حوقل بقوله: (…. أقيمت الجزائر حول خليج وتحيط بها الأسوار وهي تحوي على عدد كبير من الأسواق وبعض ينابيع بالقرب من البحر..) وهذا دليل على الإستقرار والازدهار.
ويضيف المراكشي في كتابه الإستبصار واصفا إياها (… مدينة أزلية على ضفة البحر، والبحر يضرب في صورها، وهي قديمة البناء أزلية فيها الكثير من الآثار العجيبة…).
ولقد تولى على المدينة العديد من الحكام في العهد الإسلامي فبعد سقوط الدولة الزيرية، كانت المدينة جزء من مملكة بني حماد ودمجوها في ملكهم، ثم استولى عليها المرابطون ومن بعدها عادت لسلطان الموحدين(546ه -1152 م) وفي سنة(580 ه- 1185 م) استولى عليها ابن غانية على الجزائر ولكنه لم يحتفظ بها طويلا ثم حكمها المأمون الموحدي سنة(627ه- 1230 م )حكمها الحفصيين.
وفي سنة(652ه- 1255م)تم التمرد على الحفصيين وطردهم ولقد عاش أهالي الجزائر بدون وصاية ومستقلين حتى عام(675ه-1277م) استعاد أبو زكريا الحفصي المدينة ليلحقها لبجاية وفي سنة(706ه- 1307 م) حرر ابن علان المدينة وبقيت أربع عشر عام حرة لا تخضع لسلطان إي إمارة حتى ضمها أبو حمو الأول لحكم الزيانيين (720ه- 1321م) ــ(747ه- 1347 م)، ثم ضمها المرينيين(747ه- 1347 م) ــ(751ه- 1351 م) واستعادها أبو حمو الثاني وبسبب الضرائب المرتفعة ثاروا عليه .
فلم تعش المدينة الإستقرار السياسي فكانت الأحوال دائما مضطربة وهذا ما انعكس بالسلب على الحياة الإجتماعية للأهالي والأوضاع الإقتصادية وسبب ركود الحياة الثقافية والفكرية والعلمية فكانت المدينة خالية من العلماء ووصفها العبدري في رحلته فقال (… لم يبقى بها من هو أهل العلم محسوب، ولا شخص إلى الفن من فنون المعارف منسوب، وقد دخلتها سائلا عن عالم يكشف كربة، أو أديب يؤنس غربة، فكأني اسأل عن الأبلق العقوق …).
الجزائر حاضرة علمية محل أطماع الغزاة
حكم الثعالبة المدينة وكانوا أسيادها وأقاموا جمهورية صغيرة يحكمها الفئة البرجوازية ويعتبر عبد الرحمان الثعالبي أشهر حكام المدينة وفي فترة حكمه عادت الجزائر حاضرة علمية تنافس بجاية.
لقد كانت المدينة مزدهرة فنشاطها التجاري وموقعها كان محل أطماع الغزاة، وكان عبد الرحمان الثعالبي قد استشعر هذا في رؤيت(…فإن كل عاقل يستشعر قتال بني الأصفر….ولو اطلعتم على ما اطلعت عليه من التحريض لما وسعكم ان تنشغلوا بشيء بعد الصلاة إلا بآلة الجهاد…)
خصوص بعد سقوط غرناطة أخر ممالك المسلمين في الأندلس، وتوافد المهاجرين إليها قررت اليزابيلا وفرديناند إخضاع شمال إفريقيا وهكذا استولى على المرسى الكبير 1505م ووهران 1509م، بجاية 1510م،وأمام هذا التوسع الاسباني في المنطقة اعترف أهالي المدينة بالسيادة الاسبانية وظلوا يدفعون الضرائب للأسبان وهذا لم يقنع الأسبان فأقاموا قبالة المدينة حصن عرف بحصن البنيون، فأصبحت الحامية الإسبانية الموجودة تزعج الأهالي وظلت شوكة في حلقهم وضاقوا من تصرفاتهم وبموت فرديناند اعتبر الأهالي أنهم غير ملزمين بدفع الأموال، بل استنجد الأهالي بالإخوة بربروس الذين اشتهروا بالشجاعة خصوص بعد طردهم الأسبان من بجاية 1512م، فبعث سالم التومي بوفد للإخوة حيث وافقوا على نجدة الأهالي ففي خريف 1516م وقعت معركة كبيرة بين الإخوة بربروس والأسبان عرفت بمعركة باب الوادي وكان النصر حليف المسلمين، وبعدها قرر عروج الاستقرار في المدينة ولقد حاول عروج تحطيم الحصن ولكنه فشل، وبعد موت عروج وهو يحاول فتح تلمسان، قرر خير الدين الخروج من المدينة ولكن ضغط الأهالي دفعه للبقاء، مقابل إرسال وفد يحمل رسالة من الأهالي إلى السلطان سليم الأول سنة 1519 م ،حيث عين خيرالدين بربروس بيلرباي* على ايالة الجزائر ْوألحقها بالخلافة العثمانية
وأرسل السلطان ألفين إنكشاري لدعم الإيالة ولقد استطاع خيرالدين بربروس تحطيم الحصن الإسباني سنة 1529م وأمر بإنشاء ممر يربط الجزيرة بالشاطئ ولقد أصبحت المدينة عاصمة للإيالة،وأصبح كل القطر بمعروف بالجزائر.
المدينة عاصمة للجهاد البحري
ولقد استمرت الحملات الإسبانية والصليبية على المدينة ولكنها كانت تنكسر أمام تحصينات المدينة القوية فكانت الأسوار الشامخة تحيط بالمدينة وتجاوز طولها الكيلومتران ونصف وعلوها يتجاوز العشر أمتار وعرضها حوالي المتران وفي أسفلها خنادق عميقة وكانت الأبراج والثكنات منتشرة على طول المدينة وكان للمدينة*خمس أبواب تغلق مع غروب الشمس وتفتح مع شروقها.
فلقد قضى الحكام على أعدائهم وسيطروا على البحر وانصرفوا في شؤونه فأصبحت الجزائر عاصمة الجهاد البحري القوى البحرية في المتوسط.
وجلبت مدينة الجزائر الإهتمام إليها باعتبارها قطب الدولة العلية في المتوسط فأصبحت مزارا للعلماء والفقهاء وهذا دليل على الإزدهار والرقي الذي شاهدته المدينة في العهد العثماني ووصفها ابن زاكور الفاسي (… بدخول مدينة الجزائر، ذات الجمال الباهر، وحلول مغانيها النواظر التي غص ببهجتها كل عدو كافر، فلذلك يتربصون بها الدوائر، في الموارد والمصادر يرسلون عليها صواعق لم تعهد في الزمن الغابر ….)
فكانت مدينة ذات حركة اقتصادية نشيطة متميزة بأسواقها المنتشرة في محيط المدينة وأهمها سوق باب عزون، سوق باب الوادي، ورحبة السمن بالقرب من جامع سيدي رمضان، وكان بالمدينة خمس فنادق، فلقد كانت مدينة رائدة في المتوسط تتفوق على باليرمو وروما ومرسيليا ولا تتفوق عليها إلا نابولي في المتوسط الغربي.
ولقد استمرت الأوضاع مستقرة ومزدهرة حتى الثلث الأخير من القرن الثامن عشر وبداية المؤامرات حتى سقطت المدينة في يد الفرنسيين بعد حصار دام ثلاث سنوات.