135

0

الثلاثاء الأحمر... حين صلبت فلسطين أبناءها على بوابة المجد

بقلم: بن  معمر الحاج عيسى

في صباح يومٍ لا يُنسى من تاريخ فلسطين، الثلاثاء السابع عشر من حزيران عام 1930، تهادى صدى الأذان في عكا باكياً، وهو يشهد واحدة من أعظم المآسي المشرّفة التي سطّرها شعبٌ يقف على حافة الجراح ويكتب المجد من دماء أبنائه. ففي سجن القلعة بمدينة عكا، وقفت أعواد المشانق تنتصب كعروش ظلم، لتلتف حول أعناق ثلاثة من أكرم من أنجبت هذه الأرض المباركة، وتعلن للعالم أن فلسطين لم تنحنِ، وأن رجالها لا يموتون بل يتحولون إلى شُعل مضيئة على درب النضال.

محمد جمجوم، فؤاد حجازي، وعطا الزير... ثلاثة أسماء نقشتها الذاكرة الفلسطينية بالدمع والدم، وصارت مع الأيام رموزًا لا تخبو، وأيقونات للكرامة والتحدي. كان الواحد منهم أمة في رجل، جمعوا بين الفكر والفعل، بين الوطنية الصافية والشجاعة التي لا تعرف مساومة. أعدمهم الاحتلال البريطاني بدمٍ بارد، بزعم مسؤوليتهم عن أحداث ثورة البراق عام 1929، لكن الحقيقة التي عرفها شعبهم وظل يرددها هي أنهم أُعدموا لأنهم أحبوا فلسطين أكثر من اللازم، ولأنهم صدحوا بالحق في زمن القهر.

في مدينة الخليل ولد محمد جمجوم، وتشرب الوطنية من ترابها وأزقتها، ليكون في طليعة من قادوا المظاهرات دفاعًا عن الأرض والعقيدة، كان شجاعًا لا يعرف المواربة، وحين وقف على منصة الإعدام، لم يجزع، بل ارتدى ثوب الفداء كمن يستعد لحفل زفاف. أما فؤاد حجازي، ابن صفد البهية، فقد تفتحت عيناه على وعيٍ مبكر، فنهل من الكلية الأسكتلندية والجامعة الأمريكية في بيروت، وعاد إلى وطنه حاملًا وعي المثقف وهمّ المناضل، فكان من أبرز من تصدوا للهجمة الصهيونية المدعومة من سلطة الانتداب البريطاني، مشاركًا بفعالية في الانتفاضة التي تفجرت بعد اقتحام اليهود لحائط البراق الشريف. أما عطا الزير، الفلاح البسيط، فقد كان صوت الريف الفلسطيني في وجه الطغيان، شارك في كل مظاهرة، وهتف مع كل من هتفوا من أجل القدس والخليل ويافا، وكان في مقدمة من تصدى للعدوان الصهيوني في أحداث البراق.

عندما جاء حكم الإعدام، حاول البعض من أبناء جلدتنا أن يتوسطوا ويطلبوا الرحمة، لكن أبطال عكا رفضوا أن يُخفف الحكم، رفضوا أن تنقذهم رسالة استرحام، وأصرّوا أن يكونوا شهداء لا أحياءً مذلولين. كتبوا رسائلهم من خلف القضبان، ومضوا نحو المشنقة وصدورهم عامرة بالإيمان، وابتسامة الرضا تسبق خطاهم. لم يرتجف أحد منهم، بل تنافسوا في من يصعد أولاً، فصعد محمد جمجوم، تلاه فؤاد، ثم عطا، وكل واحد منهم يسلم روحه كأنها أمانة آن أوان ردّها.

وكان أول من التقط هذه اللحظة الخالدة الشاعر إبراهيم طوقان، الذي خلدهم في قصيدته الخالدة "الثلاثاء الحمراء"، فكتب يقول:
"قتلوا الثلاثة في النهار *** كأنهم *** لم يقتلوا *** بل ناموا في ظل النخيل"...
ثم جاء الشاعر الشعبي نوح إبراهيم فأنشد أغنيته التي غنّتها فرقة العاشقين، "من سجن عكا طلعت جنازة"، فكانت الأغنية أيقونة نضالية عابرة للأجيال، حفظها أطفال المخيمات كما حفظها شيوخ البيوت، وغنّاها الجرح الفلسطيني في كل الذكريات والانتفاضات.

ولم يتوقف الخلود عند القصائد والأغاني، بل امتد إلى الريشة، حيث رسم الفنان محمود البوليس أولى اللوحات التوثيقية للشهداء الثلاثة، فوضع ملامحهم في إطار الخلود، وصارت صورهم تُرفع في كل ذكرى، وتوضع على صدور الأطفال في المسيرات، لأنهم لم يعودوا مجرد أسماء، بل صاروا أوتادًا في خيمة الوطن.

تسعون عامًا وأكثر، ودم الشهداء ما زال يتحدث. تسعون عامًا ونحن نردد أسماؤهم كأننا نعرفهم، كأنهم بيننا. تسعون عامًا ولا تزال فلسطين تُنجب من يحمل وصيتهم، ومن يقف على بوابة الشهادة كما وقفوا، رافعين الرؤوس، ماضين إلى السماء على وقع نشيد البلاد المجروحة. إنهم شهداء سجن عكا، وإنه ليومٌ لا يُنسى، ذاك الثلاثاء الأحمر، الذي لا يزال يسكن الذاكرة الفلسطينية، ويصرخ في وجه الزمن: هنا فلسطين... وهنا رجالها الذين لا يموتون.

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services