2259

0

الشاعر المتوكل طه:" الكُتّاب الفلسطينيين مُطالبون بأن يمتلكوا القدرة الكافية لاجتراح بلاغةٍ تساوي بلاغةَ الدم المسفوح "

تفاصيل يرويها الكاتب الفلسطيني في الجزاء الثاني والأخير من الحوار

في الجزء الثاني والأخير في حوارنا مع الأديب والشاعر الفلسطيني المتوكل طه، حاولنا تسليط الضوء على مسالة الهوية وعلاقتها بالأدب وما يحاك ضدها في حرب تشتعل أوزارها على كل الميادين ولا سيما الجانب الثقافي، وعن واقع الادب الفلسطيني في ظل السياق العام، ودوره في توثيق اللحظات التاريخية الفارقة التي تعيشها فلسطين اليوم. 

 

حاوره الحاج بن معمر 

كيف ترى حال الأدب سواء المنتج داخل فلسطين أو خارجها في السنوات الأخيرة وصداه في المحافل الثقافية وحظه من الجوائز وصور التقدير المختلفة، ومدى تأثرها بالعوامل السياسية، وخصوصا أن لك تجربة في أدب الأسرى عبر سيرة "رمل الأفعى" في سيرتك "رمل الأفعى" ؟

الأدب الفلسطيني عموماً، تميز أنه ذو خلفيات ومرجعيات كثيرة،بسبب الشتات مرة، وبسبب الأيديولوجية مرة أخرى،ولهذا فإنه ليس نسيجاً واحداً أو تجربة واحدة، فالتحديات المختلفة والقضايا المتعددة التي فرضت نفسها على هذا الأدب،جعلت منه متعددَ الأشكال والأساليب والذروات،أيضاً،ب شكل يلفت النظر.

ويكاد لا يَجمَع بين هذا الأدب سوى مقاربته للقضية الوطنية على تفاوت هذه المقاربة، إذ نجد حقاً أن التجربة الأدبية الفلسطينية في الشتات تختلف اختلافاً بيّناً عنها في الأرض المحتلة، ففي الوقت الذي كانت فيه التجربة في الخارج تتبنى قضايا سياسية وجمالية وشكلية معينة، كانت التجربة في الداخل مضطرة ومجبرة على أن تتساوق والواقع الذي يفرض ذاته عليها،وكان الواقع فقيراً ومدقعاً من جهة الجدل العقلي والسجال الثقافي.

ففي زمن الحروب والاضطرابات تقل السجالات، ولكن هذا الواقع كان يقدم أروع النماذج وأشدها قوة من جهة أشكال التضحيات وأساليب النضال.

كان لا يمكن للأديب سوى أن ينخرط في ما يجري في الشارع، وكان لا بد له من أن يبرر شعره، أو يبرر تميزه النثري، أو، وربما كان هذا هو الأدق، كان عليه أن يقدم شيئاً مفيداً، مفهوماً، محرّضاً، سريع التأثير، شيئاً جامعاً، أغنية تصلح للغناء أو الترديد في شوارع، كان عليه أن يجعل قصيدته قريبة من أسماع الذين يحملون النعوش أو يستعدون للمواجهة، أو الذين يصرخون أمام الدبابات، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الكاتب نفسه كان منخرطاً في العمل السيـاسي حتى أذنيه، فإن ذلك كان يجعل من نصّه خادما لأهدافه السياسية أو التنظيمية.

بكلمات أخرى، كان الواقع المعيش يجعل من القصيدة،مثلا، غنية بالموسيقى، هادرة بالكلمات، واضحة المعنى، تصلح للضجيج، مناسبة للجموع، تحكي عن ناسها وعن مكانها، كانت تشبه عملية تسجيل اللحظات الخالدة، يتماهى فيها الفرد / الشاعر مع أناسه جميعاً، فهو يشبههم ولا يزيد عنهم ولا ينقص، صوته هو صوتهم ومشاعره هي مشاعرهم، لا ذاتية زمن الحروب، ولا فردانية لحظة المواجهة، هناك النَفَسُ الجماعي والروح الجماعية،الحامية والحافظة،الأقوى والأكثر صموداً وبقاء واستمراراً.

إن القصة أو القصيـدة التي ولـدت في الأرض المحتلة بعـد احتلال العام (1967)، كانت بصورة أو بأخرى، قصة الجماعة، ونصّ المكان،وقصيدة التحريض،بشكلها المهم.

وبعد العام (1993) ومع اتفاقيات أوسلو، وما جرى من زعزعة المفاهيم وموت بعض القديم وميلاد جديد آخر، وتغير المزاج واللغة والمصطلح والمرجعيات، وما طرأ على المجتمع الفلسطيني من تغيرات بنيوية فإن الحركة الأدبية الفلسطينية في الداخل – حيث طعمت بأصوات وتجارب جديدة عليها – واجهت قضايا ومسائل أخرى مختلفة، كان عليها أولاً أن تتوازن؛ بمعنى البحث عن لغة جديدة وآفاق جديدة ومرافئ للعودة إليها، وكان عليها أن ترد بشكل أو بآخر على تحديات من نوع ثقافي لم تتعود عليه، كالعلاقة مع الآخر، والعلاقة مع السلطة، وكان عليها، أيضاً، أن تقارن نفسها بالتجارب العالمية التي ذهبت بعيداً بالتجربة الشعرية.

وعليه فإن المقاربة النقدية لمثل هذا الأدب الخاص،المحكوم بالزمان والمكان والظرف التاريخي والحضاري، يجب أن تنبع من داخله، ومن شروطه، ومن نسقه العام.

وبعد أوسلو فقدت القضية الفلسطينية الكثير من أهميتها ومحوريتها وقداستها، بسبب التطبيع الرسمي الفلسطيني مع الاحتلال، لكننا بدأنا نتخارج مع عمقنا العربي والعالمي،إلى حد ما..فبقينا منكفئين على أنفسنا، لولا بعض الاختراقات ،هنا وهناك،والتي أوصلت بعض المنتج الأدبي إلى المتلقّي العربي والإنساني.

لكن تواصلنا الخارجي ما زال قاصرا،ولم يحقق ما نحلم به من روافع توصلنا ،لنتفاعل مع نتاج ما يحيط بنا.وأعتقد أن حمولتنا الأدبية لم يتم تناولها ونقدها وعجمها وتبيانها،كما ينبغي..إلا القليل القليل،وأخشى أن يكون "التعاطف"معنا باعتبارنا الضحية،هو أحد أسباب دعمنا بالجوائز،مع أن هذا لا ينفي فنيّة الفائز وتميّزه.

 إلى أي مدى يمكن اعتبار أن الأدب يستطيع سدّ ثغرات التأريخ والتوثيق؟

ثمة نقصٌ جارحٌ نعاني منه،نحن الفلسطينيين،يتعلق بتأصيل تاريخنا النضالي والثقافي وحتى الاجتماعي وغيره،الأمر الذي يستحيل معه جمع كلّ أو أهم ما يتّصل بالفلسطينيين في ظلّ وجود "مناطق" فلسطينية متعددة،في فلسطين التاريخية (فلسطين 1948،الضفة الغربية، قطاع غزة ، القدس) وفي الشتات العربي، وعلى مستوى الجاليات المتناثرة في العالم . فمثلاً، لم تتوفر معلومات شافية حول المجازر التي اقتُرِفت بحقّ شعبنا ولا نعرف الكثير عن المعارك قبل النكبة، التي خاضها مجاهدونا وثورتنا في العديد من المواقع، ولم يتمّ جمع مُجمل الخسائر التي لحقتنا،أيام الثورة، وعلى كل الصّعد، ونجد صعوبة بالغة في التعرّف على نتاجنا الثقافي والفكري والفني، ولم نحفظ التي تمّ تبديدها، وإحلال جغرافيا مكانها، ليبقى الحق والحلم الفلسطينيان قائمين على أرضية راسخة.

ومن دون تأصيل تاريخي فإننا لن نمتلك هويتنا، ولن نحفظ شخصيتنا ، بكل مكوّناتها ، ولن نشرف على المستقبل .

وخصوصا أن الاحتلال لديه سرديته وروايته عن نفسه وعنّا! أما نحن فلن نستطع،حتى اللحظة،من أن نجمع روايتنا ونجعلها سبيكة صلبة لامعة،لتواجه رواية الاحتلال.لدينا مِزق وشذرات ومحاولات فردية،متباعدة،وربما متعاكسة!

ومن السّيئ أن تتذكّر الماضي أحياناً، خاصةً إذا كان مُوجِعاً، لكنّ الدمَ الملعون لم يتخثّر، والكراهية ما فتئت تمدّ لسانَها المسموم، والعنف يتفشّى مثل كابوسٍ مُفزع، والاحتلال، صاحب ورشة الشيطان، ما زال يُعيد إنتاج الموت، بكلّ صوره،على حياتنا،وهذا ما شكّل لُحْمة سنواتنا،ودفعها إلى مساراتٍ إكْراهية،وطَبَعها بظلاله الثقيلة السوداء.

وباعتقادي؛ فإنّ أي كتابٍ أدبيٍّ لا يكاد يخلو من " سِيرةٍ " ما، لهذا،من المفيد أنْ نؤرّخ لكل ما مرّ بنا من أحداث، بهدف تأصيل روايتنا، التي مهما كانت شخصيةً ذاتيةً، فإنّها تظلّ سيرةً عامةً، لصعوبة فصم الخاص عن العام، وتداخلهما في وضعنا الفلسطيني، وحتى لا تظلّ ذاكرتنا عُرْضةً للفناء والعذرية والعدم، ولأن المعاناة بصمتٍ تُعمّقها، وعلى العالَم أن يعرف! وأظنّ أنّ الكُتّاب الفلسطينيين مُطالبون بأن يمتلكوا القدرة الكافية لاجتراح بلاغةٍ تساوي بلاغةَ الدم المسفوح أو تُقاربها، وهذا تحدٍّ خاص بهم، ويزيد من ارتباكهم.

وإذا كانت ليلتُنا سيّئةً، فهذا لا يعني أن يكون صباحنا سيّئاً، أيضاً.

 

*في ظل العدوان المستمر على مقدرات الشعب الفلسطيني، كيف ترى العمل الثقافي الفلسطيني ببعديه الرسمي والشعبي وقدرته على مجابهة ذلك العدوان والصمود أمام شراسته وسعيه الدائم إلى محو الهوية الفلسطينية بمختلف تجلياتها، والتي باتت مهددة حتى في ظل الانقسام الفلسطيني وتشرذم المحيط الجغرافي الذي لطالما كان جامعا لتلك التجليات جيلا بعد جيل؟ 

العدوان على غزة كشف عنا الغطاء، وأسقط ورقة التوت عن عورات أنظمتنا وخطابنا وأدائنا .

كشف الهوّة الكبيرة بين النخب وبين جماهيرها،وبين الشعارات وتطبيقها،كشف قوّة الجمهور وعدم تجانسه وتماسكه واستمراره، قوّة الجماهير مندفعة وعشوائية ثم تذهب دون تنظيم، كشف موسميّة هذا الغضب وعدم تحوّله الى مؤسسة، وكشف رعب الأنظمة وخوفها ومدى بطشها، كشف تخاذل الكثير من المؤسسات غير الحكومية والمثقفين وانحيازاتهم المشبوهة، وكشف نقص الوعي وتبعثره وتوجهه إلى مهالك الهوى والغرض والمصلحة، كشف انحياز بعض النخب إلى أعدائها، أو إلى الصمت المشبوه، عندما تحين ساعة الحسم والحزم، كشف مدى اختراق العدو لنسيجنا الاجتماعي والاقتصادي والأمني والسياسي، كشف ضعف وهشاشة المجتمع المدني لدينا،وكشف ارتباطاتنا وصفقاتنا، ووهن إعلامنا وسكوت معظم كتّابنا الذين يبحثون عن خلاصهم الشخصي!

العدوان على غزة كشف الانحيازات والاستقطابات والاصطفافات، وكشف الهزيمة التي تعشّش في صدور كثير منا،ذلك الذي ادّعى الواقعية والمرونة والفهم والتفهّم،وحيث أراد أن يفرّق بين الدم وصاحبه،وبين الضلوع وبين القلوب،وتحول كثير منا إلى فلاسفة ومنظّرين لنوع وشكل وأسلوب الهزيمة، وكان من الفانتازيا أن تخرج كثير من الأسماء الكبيرة والصغيرة تحلّل ما معنى الهزيمة والنصر في غزة.وبالمقابل،كان هذا العدوان المجرم على قطاع غزة أيضاً، دافعاً إلى الرؤية الواقعية الحقيقية، فاسرائيل النووية ضعيفة من داخلها، فجغرافيتها وديموغرافيتها وبنُيتها الاجتماعية والاقتصادية لا تحتمل المقاومة ولا الصمود، ولا تحتمل المواجهة الحقيقية والإرادة الصلبة والموقف السياسي المبني على مصالح الأُمّة.

اسرائيل ليست فوق الواقع،بل هي كيان تجري عليه قوانين الواقع كما تجري على كل الكيانات،وقتالها والانتصار عليها ليست معجزة أو خارقة، بل هي ممكنة ..وقد رأينا ذلك، عبر معارك وتجارب صحيحة وواقعية لما قد يفعله الشعب عندما يختار وعندما يفعل ما يريد، محمولاً على خطاب ثقافي أصيل يشرب من الينابيع الحقيقية لهذا الشعب، خطاب ثقافي يؤمن بالحرية والانسانية والكرامة،غير مُستلب ولا مخطوف ولا مأجور أو مستأجر ولا مهزوم أو متردد أو مضطرب.

إن ميلاد الخطاب الثقافي المعافى والممتلىء،سيرافقه بالتأكيد مقاومة لا تقل عنه صحّةً وامتلاءً ونفاذاً.

ولا أريد أن يكون جوابي نمطيا؛ فالمؤسسة الرسمية فشلت بامتياز،وصمت عدد من المثقفين،أو راوغوا وراحوا إلى الظلّ، فيما ظلت مجموعة تناطح وتجمح وتقاتل، بإبداعها ،في الضفة..ولكن الذين ظلوا على جبهة الصمود هم مبدعو غزة، دون استثناء.

 كيف ترى تأثير الأدب على الهوية الفلسطينية؟

سؤال الهوية هو سؤال الوعي، الوعي الذي يحدد التعريفات والمرجعيات، هذا الوعي الذي يبدأ بتحديد الأطر الخاصة بالأنا الفردية والأنا الجمعية وتلك العلاقة الجدلية المتنامية بينهما. 

        بكلمات أخرى، الهوية هي "أنا" الممتدة في الزمان والمرتبطة في المكان، مع تحديد قاطع لهذه الأنا الخاصة بي، والتي تختلف عن الآخرين،  وكأني بهذا التحديد، أُدخِلُ دائرةً صغيرةً في دائرةٍ أكبر، وأخرى أكبر من الكل، شرط أن تتقاطع تلك الدوائر في نقاط عديدة إلى درجة يصعب تفكيك تلك الدوائر بعضها من بعض، حيث تبدو كأنها دائرة واحدة، هي - إذاً - أقانيم متعددة تشكل أقنوماً واحداً أرتاح إليه وأرتبط به ويرتبط بي .

        لهذا، فإن الهوية متعددة المستويات، تفاضلية الترتيب، تكاملية المفهوم، تبدأ بجسدي وتنتهي بعلاقتي مع العالم بما فيه من "آخرين" .

هل يمكن القول هنا إن الهوية اختيار؟! أم إن الهوية جبر؟

        اختيار باعتبارها وعياً، أم جبر باعتبارها مشروطة بالمولد والثقافة والمكان،  هذا سؤال رد عليه الكاتب العبقري غسان كنفاني يوماً في قصته "عائد إلى حيفا" وأجاب بأن الهوية اختيار قائم على الوعي ولا علاقة له بالدم .

وعلى الرغم من حدّية هذا الجواب وأحاديته وانسلاخه عن مفاهيم الثقافة القبلية - بدوية كانت أم رعويّة - فإن هذا الجواب يشكل أحد جوانب المسألة، وبهذا المفهوم أو هذا التناول فإن الهوية -باعتبارها وعياً- تبدو نوعاً من الانحياز ليس الفكري فقط وإنما الوجداني، ولا يمكن تتبع جذور الوجدان الضاربة عميقاً في متاهات من التراكم الثقافي والأسطوري والديني الذي ينبت مع المكان وفيه .

        ولهذا، فإن من الدقة القول إن الهوية كوعي أو كاختيار لا يكفي أبداً، على الرغم من أن هذا القول مريح - ونهائي - ولكنه، أيضاً، يحتاج إلى توضيح كبير .

        فالوعي لا يقوم على مجموعة مسلمات عقلية فقط، ولا يقوم على مجرد مقدمات منطقية فحسب، الوعي نشاط متعدد الوجوه، يتعرّض لتأثيرات مختلفة من كل الجهات والأطراف، ولهذا فإن الوعي ليس نشاطاً عقلياً صرفاً أو "نظيفاً"، الوعي مؤسس على "تفاعل" حيوي مع المحيط، العقل فيه جزء من عدة أجزاء . ومن هنا، فإن الحيوية المؤسسة على الوعي، تتأسس، أيضاً، على مؤثرات لا عقلية ولا منطقية، أو لا يدخل المنطق في تمحيص صدقها من كذبها، أو حقيقتها من عدمها .

        هل أخرج الهوية هنا من حدود الوعي بها إلى حدود قدريتها؟! قد يكون هذا صحيحاً إلى حدّ ما في حالة تفسير الانتماءات القومية والدينية والعقائدية .

        الفكر لا يكفي لتفسير ذواتنا، كما أن المنطق لا يكفي لتفسير مشاعرنا، هناك ما فوق الفكر والمنطق في تحديد اتجاهات السلوك وأولويات القيم .

        ربما تكون "الأسرة" أولى المؤثرات الأقوى والأكثر تأثيراً علينا طيلة حياتنا في تحديد من نحن، إن بقاءنا مدة تزيد على اثني عشر عاماً نتلقى القيم ودروس السلوك والعادات واللغة من أهلنا تشكل الفترة الأهم في تخصيب أرواحنا وترهيف وجداننا وتكوين منظومة الصواب والخطأ في أعماقنا، وكذلك في تسمين وتضخيم ما يسميه فرويد "بالأنا الأعلى" أو ما يسميه القرآن الكريم "النفس اللوّامة" تلك النفس التي تؤنّبنا على أغلاطنا وترضى عن صوابنا - وفي هذا الصدد فقد كتب الإمام الغزالي أروع التحليل حول نوازع هذه النفس بما يسبق فرويد وغيره بمئات السنين.

        "الأسرة" التي يطلق عليها علماء الاجتماع أنها الضرورة لأساس المجتمعات تكتسب حقاً تلك الأهمية في تحديد القيمة وتحديد السلوك المرتبط بهذه القيمة، الأسرة لا تعلّم السلوك فقط وإنما تعلم القيمة المرتبطة بها، ولكل قيمة مثال، هذا المثال - شئنا أم أبينا - منتزع من ثقافة المكان ذاته .

المكان - بما أنه قديم ووعاء للنشاط البشري - يتحول شيئاً فشيئاً إلى شيء مقدس ترتبط به حكايات وروايات خاصة ترفعه من مجرد موجود محسوس إلى شيء آخر لا علاقة له بالحسّية،  يتحول المكان من مجرد وعاء إلى قيمة بحد ذاته، له قدرة التأثير على الجسد والوجدان، أيضاً وقد قام مفكرون عرب وأجانب في دراسة هذا التأثيرالمكاني على النشاط البشري وادّعوا وجود علاقة كبيرة بين الأمرين، بما دعي "بالمكانية" في مصر أو "الجوانيّة" في سوريا، ولهذا، فإن المكان يتحول هو الآخر إلى خيط في نسيج تعريف الأنا الخاصة والأنا الجمعية، باعتبار أن هذا المكان يتشكل من مجموعة من المثل والحكايات والأساطير يطلق عليها اسم ثقافة المكان .

ثقافة المكان ليست ميكانيكية أو منفصلة، بل هي متصلة وتتطور ببطىء ولكنها تتحول فعلاً إلى أشياء مقدسة، ومن هنا قوتها وصعوبة الخلاص منها أو عبادتها وتأليهها .

        وقوة المكان تأتي من زمانية ! فالمكان قديم، وكل قديم طيّب وقابل للتأويل، وسهل العبارة، أيضاً.

        نحن نحتاج القديم لفهم الجديد، ونحتاج القديم لتعريف حاضرنا، ونحتاج القديم باعتباره خبرة ضرورية، ونحتاج القديم باعتباره أكثر صدقاً وبهجة وقرباً من الطبيعة وأكثر براءة وقرباً من السماء، نحتاج إلى القديم لأنه يذكرنا بطفولتنا الفردية والجمعية أيضاً . القديم ضروري لتعريف الحاضر وإضاءته وإعادة تشكيله .

القديم ليس فقط للاعتبار، بل - وبالقوة ذاتها - جزء من تشكيل الوعي، هذا الوعي الذي يحتاج إلى مكان للحركة وزمان للتنفس، القديم، هو الماضي، هو ما تم إنجازه، ويمكن الحكم عليه أو تأويله، هو ما مضى ولكنه ما زال يتردد حتى الآن، ومن هنا فلا انقطاع للزمن، الماضي جزء هام من تعريف الحاضر - مرة أخرى - ذلك أن الماضي (الزماني والمكان) جزء من منظومة القيم التي ظلت على الدوام نافعة ومؤثرة إلى حدّ كبير .

        وما تقديس الماضي إلا لهذا، وما العودة إلى الماضي إلا لهذه الأسباب، وبالتالي، فإن صلاح الدين، ذلك البطل الذي أنجز ومضى، سيظل في وجداننا تجربة ناجحة تشكل ذروة من ذروات المثل العليا،  هل الماضي مُثلٌ عليا فقط؟! هذه إشكالية أخرى وجدت لها تعبيراً فيما يسمى الأصالة والمعاصرة والعلاقة مع التراث .

وبرأيي فإن هذه المشكلة مصطنعة لأنها تعبير عن أزمة بالتعامل مع الواقع، الأمر الذي أدى إلى اختلال بالعلاقة مع الماضي .

        عندما أكون صانعاً للتاريخ، فلا أجد مشكلة معه، أما عندما أنزوي فأصبح جالداً للذات، والذات في جزء منها ماضٍ، وتعريف الهوية، الذي هو، أيضاً، تعريف للذات بمستوياتها المتعددة، لا يترك مجالاً للآخر بتعكير صفو هذا الصفاء،  الذات لا تقبل معيناً لها في تعريف يفصلها عن الذوات الأخرى .

        الهوية بمعناها الشامل - غير العنصري، والمنفتح والإنساني- تحاول وترغب في أن ترى ذاتها مؤطّرة بمكان فريد وثقافة عريقة، وهذا لا علاقة له بالانفتاح على الآخرين أو التفاعل معهم أو التشارك وإياهم،  (نرى حالياً نهضة قوميات عديدة تحاول أن تضع الحدود والفوارق بينها وبين الجماعات الأثنية التي تعيش معها، وأكثر من هذا، فإن الفرنسي غوستاف لوبون يرى أن البحث عن تعريفات قومية خاصة بالهوية تحرك التاريخ نفسه على شكل ثورات سياسية وثقافية مختلفة) .

        قد يكون من العجيب - وهذا رأيي على الأقل - أن تعريف الذات - في حالتنا الفلسطينية - لا يرى في الآخر / النقيض مكملاً بقدر ما يراه نقيضاً يجب الحذر منه والتشكك فيه، وقد رأينا في العقود الماضية عدد الشعوب والجماعات التي تطالب بانفصالها عن الجماعات التي تشاركها الوطن الواحد،  الهوية تحتاج إلى نقيض لتعرف نفسها وتتميز عنه، الهوية باعتبارها وعياً بالعالم تحتاج إلى مَن يثيرها ويحفّزها على اختراع صيغة أخرى ورواية تختلف

*كيف ستتأثر من وجهة نظرك مستقبل الفعاليات الثقافية ذات البعد الدولي ومنها ملتقى الرواية العربية الذي يعقد في رام الله بالأوضاع التي ترتبت على "طوفان الأقصى"؟ 

العمل الثقافي في الأرض المحتلة يعاني الكثير من الإهمال، وقلّة الدعم الوطني، وغياب الاستراتيجيات وآليات العمل النافذ، وهو عمل موسميّ،أقرب إلى الارتجال،وأقرب ما يكون إلى "الاكسسوار"،بمعنى أن الثقافة الفلسطينية تتعرّض لاشتراطات التمويل المشبوه والمشروط، ولعدم توفّر الروافع والمنابر والمراكز وطرائق الانهاض الحق، وبالتالي فإن معظم المؤتمرات والمعارض ما هي إلا مناسبات مؤقتة لا ترتبط بسياق كامل وممتلئ وعارف.ولا أنكر أن ثمة بعض المحاولات والمبادرات،كبعض الجوائز والفعاليات..لكنها قاصرة،لا تعبّر عن رؤية مدعومة ومتكاملة، علما أن المؤسستين الرسمية والأهلية اللتين تكوّنان الفرد الفلسطيني،وبالتالي المجتمع، تتعرّضان للاختراق والاستلاب والإكراهات القاتلة،وثمة مَن يعمل على تفريغهما من محتواهما الوطني والثقافي والحضاري..عداك عن الحرب الثقافية المصاحبة لحرب الإبادة، والتي نتعرّض لها بشكل مباشر.

باختصار؛لدينا مبدعون مميزون وذوي حضور كبير،ولا توجد لدينا مؤسسة بحجم التحديات والمطلوب! والآن،وبعد العدوان المجنون على غزة،فإن عجزنا بات أكثر وضوحا، ونبدوعلى المستوى الرسمي، أكثر فقرا وعريا ..مما كنا نعتقد.

 

كيف ترى حضور المأساة الفلسطينية في آداب وفنون العالم في السنوات الأخيرة،وفي المستقبل المنظور في ضوء صور التضامن المعبر عنها شعبيا في كثير من دول الغرب مع الفلسطينيين إزاء ما يتعرضون له من مجازر ترقى إلى حدّ الإبادة؟

باعتباري فلسطينياً، يذبحونه من الوريد إلى الوريد،لا أحتاج إلى هيئة الأمم، وإلى كل مؤسساتها ومربّعاتها الدولية وخطاباتها المقيتة القلقة، وقراراتها المحفوظة في الأدراج،لأنها فشلت للمرة المليون في الامتحان، وخذلت نفسها قبل أن تخذل الضحايا، أريد شيئاً واحداً،هو :الحياة، الحياة دون جنود وصورايخ ومدرّعات ورصاص وغاز وسجون وحواجز وركام وتهجير وجنازات وجوع وعتمة وعطش وهراوات واستهداف وموت لا يتوقف.

أريد كل ما يحقق لي الحياة، دون أن أقدّم أيّ اعتراف مجاني بجدوى ما لا ينفعني،بل يقتلني،  لكنّي أعوّل على المؤسسات الأهلية وعلى الشعوب الحيّة، التي جعلت شوارع العالَم فلسطينية،وكسرت احتكار إسرائيل لصورة الضحية، وهبّت تنادي بوقف العدوان.

إن مشاهد القصف والتدمير والموت قد فجّرت إنسانية ودموع وأحاسيس البشر،في كلّ مكان، وبات الجميع يصرخ:"كفى"!و"كفى" تأخذ غير شكلٍ؛ فهناك مقاطعة للبضاىع الأمريكية والدول الداعمة للاحتلال، وثمّة تظاهرات شملت الدنيا، ونرى انقلابا في مواقف الجميع، فيما ذهب الكثيرون إلى البحث عن تاريخ هذا الصراع ودوافعه وأشكاله،وما تعالق به من خطابات وعقائد،وبات العالَم يبحث، أيضا عن الوقود الذي يُبقي الفلسطينيّ ثابتاً في وجه الفناء دون تراجع، وبرضى لافت! ما جعل هذه معركة إقليمية وكونية، تتحسّس ذاتها لتكون ضد قوى الظلم،وأشكاله،

وقد قيل:إذا شعرتَ بالألم فأنت على قيد الحياة، وإذا شعرتَ بألم الآخرين فأنتَ إنسان،  ومما يثلج الصدر أن أسماء كبيرة في عالم الفن والثقافة والرياضة والسياسة قد أعلنت اصطفافها مع الضحية، لكن هذا الاصطفاف لم يتمظهر في شكل فنيّ أو ثقافي..بعد.ومع هذا؛ شكرا جميلا لكل مَن وقف ويقف مع غزة.

كلمة أخيرة توجهونها للقراء وللشعب الجزائري؟ 

أشكر القائمين على موقع بركة نيوز،تحياتي لكل الجزائريين على موقفهم الثابت والدائم مع القضية الفلسطينية.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services