تزخر عاصمة الشرق الجزائري بالعديد من العادات والتقاليد، ولكل شارع من شوارعها قصة حتى وان غاب راويها فالحفيد اليوم يحيكها، ومن بين العادات المتأصلة والموسمية التي تشهدها المنطقة مع اشراقة كل موسم ربيع، يتصدر تقطير الورد ومشتقاته من زهر و عطرشة، زعتر...الخ القائمة.
دنيا الزاهي
وللحديث عن هذا التقليد الأزلي الذي يصور لنا حكايا قسنطينيات الزمن الجميل من وسط الدار و السقيفة على أنغام المالوف و عبق الورد وما يصاحبها من طقوس مشكلة لنا لوحة فنية تشهد على أصالة وتمسك النسوة بعاداتهم على مر العصور، هي بالواقع متلازمات تنعش ذاكرتنا مع اشراقة فصل الربيع، المعروف بموسم تفتح الأزهار والورود كما تطلق عليه النسوة بمدينة الصخر العتيق، المعروفة بأناقتها وعشقها للعطور ونباتات الزينة.
عادة قديمة ترتبط بأصالة المنطقة
ويعد تقطير الورد والزهر عادة قديمة تؤرخ لأصالة المنطقة، وتقليدا متوارثا بين الأجيال، حيث يدخل ضمن التراث الثقافي للمنطقة ، ويعتبر واحدا من مكونات الهوية القسنطينية.
والأصل في تقطير الورد يعود الى عهد البايات، وبالرغم من تعدد الروايات والشائعات التي غرسها اليهود،(طائفة من السكان عاشوا وتملكوا قديما بالمنطقة) في أذهان الأهالي.
كما جاء في أحد الروايات ''أنه يجب أن تتم عملية التقطير في غرفة واحدة على مدار الأعوام''، وفي حديث مع واحدة من كبار المدينة بهذا الخصوص تقول أنه: ‘بكري أمهاتنا كانوا يقولون لنا بأنه لي يقطر الورد أو الزهر مرة لازم يبقى حياتو كامل يقطر'.
وفي محاولة منا لمعرفة السبب تستوقفنا شائعة مفادها يقول: أنه مؤشر بؤس وشؤم بالبيت ان ثبت ولم تلتزم النسوة بهاته البنود، وقد يصل الأمر لموت فرد من العائلة، الا أن أمهاتنا لا يزلن محافظات اليوم على هاته العادة، ويحضرن لها كل موسم ربيع في أجواء احتفالية أقل ما يقال عنها أنها عيد.
وككل مناسبة ومع بداية كل موسم يتم تزويد المنطقة بالأزهار والورود من طرف حدائق الحامة على بعد حوالي عشرة كيلومترات من الشمال الغربي للمدينة، حيت تعتبر الأصل والمنبع للأزهار والورود المستعملة في التقطير، الى جانب توفير الوسائل التقليدية المتمثلة في: القطار(اناء التقطير)، الطنجرة(طنجرة الكسكسي)، قارورة غاز البوتان، قطعة القماش. مستلزمات لا تكاد تخلوا من كل بيت قسنطيني، تماما كحال صينية القهوة هي الأخرى لا تكاد تخلوا بأي حال من الأحوال من مرش ماء الزهر أو الورد المقطر بالبيوت،(ماء الزهر يستعمل مع القهوة أما ماء الورد يضاف كمعطر للحلويات)،وهذا هو السر وراء البنه والنكهة التي تتميز بها حلوياتنا التقليدية كالبقلاوة، وطمينه اللوز...الخ.
فرصة للسمر والتعاون
هي عادة مقدسة وطقوس متعارفة، كما تعد فرصة لالتقاء النسوة في جو يسوده التعاون ويزينه عبق الورد المقطر على أنغام المالوف، تبدأ أولى مراحل التقطير.
وتجدر الاشارة هنا الى أنه هنالك فرق بين كل من الورد والزهر في عملية التقطير، بالنسبة للورد أول ما يجب علينا معرفته أنه يقطف على مرحلتين الأولى تعطينا ماء ورد ذو رائحة خفيفة، أما القطفة الثانية والأصح أنه يقطف في 15 من أفريل رائحته تكون قوية وتدوم، وعليه يجب قطفه بأيام قليلة قبل موعد تقطيره (ماء الورد يستخلص من الورود التارة أي الغير ذابل وبالتالي هو لا يدوم طويلا).
أما فيما يخص الزهر فهنا لنا حكاية أخرى تقول ماء الزهر يستخلص من الأزهار الذابلة(ويجب نشرها على ستار مثلا أو قطعة قماش لمدة 3 أيام في الظل ومكان معتدل حتى تذبل).
خطوات التقطير
والتقطير ككل عملية تحتاج منا الى مجموعة من الخطوات نلخصها في ما يلي:نضع القطار( اناء التقطير) على النار ونضع في إنائه الداخلي كمية ماء بقدر الثلث، ثم نضع كمية من الورد او الزهر حوالي سيار مملوء أي غربال ونغلقه بإحكام، (للعلم أن السيار يعطينا قارورتين من راس القطار وهي أول كمية تفريغ وتكون مفيدة جدا ومركزة وثمنها يكون أغلى من بقية الكميات الموالية).
وفي المرحلة الثالثة نملئ الإناء الخارجي بالماء ونتركه على النار الى أن نسمع فرقعات الغليان بالنسبة للإناء الداخلي، عندها ننقص تماما درجة حرارة الفرن لكي تتم عملية التقطير على نار هادئة، مع تجديد ماء الاناء الخارجي عندما يسخن وقبل الغليان، واستبداله بغيره من الماء البارد، وهذا لكي نضمن أكبر عملية تكثيف على السطح الداخلي للإناء وبالتالي أكبر حجم من ماء الورد أو الزهر.
ومن العادات المصاحبة للانتهاء من عملية التقطير أن تقوم النسوة بقسنطينة بتحضير الولائم تعبيرا منهم على الاحتفال بموسوم الربيع أو كما يسميه البعض موسم تفتح الأزهار، والورود، يتبادلون فيه الورد والزهر المقطر فيما بينهم، لتبقى بذلك مدينة الصخر العتيق بعاداتها وتقاليدها همزة وصل بين الماضي بالحاضر.