18
0
الحرب الإيرانية – الإسرائيلية:
ملامح الجيل الجديد من الحروب وحدود الدم والنار في زمن التكنولوجيا والردع الاستراتيجي
.jpeg)
بقلم: الحاج بن معمر
في منتصف شهر يونيو 2025، اندلع فصل غير مسبوق من الصراع بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكيان الإسرائيلي، لتدخل المنطقة طورًا جديدًا من الحروب، مختلفًا في طبيعته وتوقيته وأدواته وأهدافه، ومحمّلاً برسائل استراتيجية يتردد صداها في عواصم القرار العالمي من واشنطن إلى موسكو، ومن طهران إلى تل أبيب، ومن الدوحة إلى مضيق هرمز. لم تكن الحرب هذه المرة تقليدية، ولم تنخرط الجيوش في مواجهات برية، ولم تُرفع الرايات في ساحات الوغى كما في حروب الماضي، بل جرى كل شيء في صمت الطائرات الشبح، وفي دقة الصواريخ، وفي خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وفي مراكز القيادة المغلقة التي تدير معركة الجيل الخامس من الحروب. لقد بلغ التصعيد ذروته حين وجهت إسرائيل ضربات خاطفة إلى منشآت نووية ومواقع للحرس الثوري داخل إيران، لترد طهران بإطلاق وابل من الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى، بعضها طاف الأجواء بسرعة الصوت، وبعضها أدارته برمجيات ذكية من خارج نطاق الرادارات. وبينما اشتعلت السماء، انطلقت المعركة الكبرى على الشاشات والمنصات، في حرب إعلامية موازية تخوضها الجيوش الرقمية والمتحدثون الرسميون ومصانع السرد، في محاولة لتثبيت "السردية المنتصرة" في أذهان الرأي العام العالمي.
الحرب التي امتدت على مسافة تقارب 900 كيلومتر دون جندي على الأرض، كانت معركة البُعد والسرعة، استخدمت فيها إسرائيل طائرات F-35 وF-15I، بينما اعتمدت إيران على صواريخ "خيبر" و"ذو الفقار" ومسيرات "شاهد"، ما حوّل السماء إلى ساحة اشتباك خفي تتداخل فيها البيانات مع البارود. لا حدود لهذه الحرب، ولا خنادق، ولا ميدان تقليدي، بل فقط أهداف استراتيجية تُحدَّد بالأقمار الصناعية، وتُضرب بصمت مطبق. الحرب لم تكن شاملة، لكنها كانت كثيفة ومدروسة، إذ حرص الطرفان على عدم كسر "خطوط التماس الرمزية"، فتجنبت إسرائيل قصف مواقع مدنية، وركزت على البنية التحتية العلمية والعسكرية، بينما ركزت إيران ضرباتها على القواعد العسكرية الإسرائيلية ومخازن الذخيرة، متفاديةً التصعيد المباشر ضد المدنيين. هذا الانضباط العسكري لم يكن أخلاقيًا، بل هو جزء من عقلانية الردع المتبادل، حيث يسعى كل طرف إلى إيصال رسالة قوة دون التورط في حرب استنزاف غير محسوبة العواقب.
لكن التحول الاستراتيجي الأخطر لم يكن في تبادل الضربات، بل في الرسائل الرمزية الكبرى التي أرسلتها طهران حين استهدفت قاعدة "العديد" الأمريكية في قطر، الضربة التي لم تُحدث خسائر بشرية بسبب التنسيق المسبق مع الجانب القطري، لكنها كانت بمثابة إعلان بأن إيران قادرة على الوصول إلى العمق العسكري الأمريكي دون تجاوز الخطوط الحمراء. تلك الضربة، إضافة إلى التلويح بورقة إغلاق مضيق هرمز، قلبت الطاولة في وجه واشنطن، ودقتها على الجدران الهشة لتحالفاتها في الخليج، في وقت بات فيه مجرد التفكير في تعطيل حركة الملاحة عبر المضيق يُربك أسواق الطاقة، ويهدد الاقتصاد العالمي بانهيارات متتالية. لم تعد إيران في موقع الدفاع، بل فرضت معادلتها الجديدة: من يهاجم العمق الإيراني سيتلقى الضرب في قلب الخليج، ومن يهدد أمن طهران ستُهدد مصالحه الاقتصادية والبحرية.
في موازاة ذلك، أظهرت الحرب أن التكنولوجيا هي الحاسم الفعلي في ميزان القوة، وليس عدد الجنود أو حجم الترسانة. إسرائيل اعتمدت على أنظمة القبة الحديدية ومقلاع داوود لاعتراض الصواريخ، لكن تحت كثافة النيران الإيرانية، كشفت هذه الأنظمة عن محدوديتها، إذ فشلت في التصدي لكل الضربات، مما أدى إلى خسائر مادية ونفسية في الداخل الإسرائيلي. بالمقابل، لم تكن الدفاعات الإيرانية أفضل حالًا، فبعض الضربات الإسرائيلية أصابت أهدافها بدقة، ما يعكس وجود ثغرات في منظومة الإنذار المبكر والرادارات الإيرانية. ومع ذلك، فإن قدرة إيران على الرد السريع، وتفعيل حلفائها الإقليميين من اليمن إلى سوريا والعراق، أعطت انطباعًا بأن طهران تمتلك شبكة ردع غير مباشرة، تستطيع من خلالها تحويل الحرب إلى معركة مفتوحة على أكثر من جبهة إذا اقتضى الأمر.
ما حدث ليس مجرد اشتباك مسلح، بل ولادة جيل جديد من الحروب، تُحسم فيه المعارك بالصورة والمعلومة قبل السلاح. فالضربات لا تُنفذ فقط على الأرض، بل تبدأ من السيادة على الفضاء السيبراني، وعلى من يملك الأقمار الاصطناعية والطائرات المسيّرة والمنصات الرقمية. لذلك لم يعد الحديث عن الأمن القومي مقتصرًا على حماية الحدود، بل أصبح يشمل الأمن السيبراني والمعلوماتي والغذائي والطاقة. كل ذلك يعيد صياغة العقائد العسكرية الحديثة، ويجعل من واجب الجيوش تحديث بنيتها، وتغيير هيكلة القوات، واعتماد نموذج متعدد الطبقات في الدفاع، يشمل الطائرات المُسيّرة والصواريخ الدقيقة والذكاء الاصطناعي.
وفي هذا السياق، جاءت الضغوط الدولية كعامل حاسم في فرض وقف إطلاق النار، خاصة من جانب الولايات المتحدة، التي أدركت أن أي تصعيد جديد قد يدفع طهران إلى خطوات غير محسوبة، مثل تعطيل الملاحة في هرمز أو استهداف قواعد أمريكية أخرى في الخليج، وهو ما سيؤدي إلى انفجار الوضع الإقليمي برمته. كذلك مارست روسيا والصين ضغوطًا متزايدة، ليس حبًا في السلام، بل حفاظًا على مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة. أما الاتحاد الأوروبي، فقد وجد نفسه في وضع هش بين تأمين الطاقة ومحاولة الحفاظ على ماء وجهه السياسي. وهكذا، جاء وقف إطلاق النار لا كنتيجة لهزيمة أو نصر، بل كنتيجة لتوازن استراتيجي مرعب، يعلم فيه الطرفان أن أي طلقة زائدة قد تفتح أبواب جحيم لا يمكن إغلاقه.
الحرب الإيرانية – الإسرائيلية لم تكن سوى نموذج مصغر لما سيكون عليه شكل الحروب في المستقبل: قصيرة، ذكية، بعيدة المدى، لكنها ذات تأثير استراتيجي هائل. هي لحظة تحوّل في فهم الجغرافيا العسكرية، وإعادة تعريف الأمن القومي، وتحطيم حدود كانت تُعتبر ثابتة. وفي ضوء ذلك، فإن على الدول التي تراقب المشهد من الخارج، أن تدرك أن ما جرى ليس حدثًا منعزلاً، بل محطة فاصلة في التاريخ العسكري الحديث. ومن لم يبدأ اليوم في تحديث قدراته المعرفية والتكنولوجية، وتأهيل أجياله الجديدة على قراءة هذا التحول، فسيجد نفسه غدًا خارج اللعبة تمامًا، في زمن لا يرحم الضعفاء، ولا يلتفت إلى من يعيش في وهم الجغرافيا القديمة والأسلحة الثقيلة.
الحرب لم تنتهِ فعليًا، بل تحوّلت إلى معركة كسر إرادات، كل طرف فيها يراهن على الوقت والصبر والتكنولوجيا. ومع كل دقيقة تمر، تعيد مراكز التفكير رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط، وتعيد مصانع السلاح النظر في مفاهيم القوة، وتدرك الشعوب أن زمن الحروب تغيّر إلى الأبد. السؤال الآن لم يعد: من ربح الحرب؟ بل: من تعلّم منها؟