37

0

الاحتلال يحتجز الجثامين ويغتال الكرامة..

665 شهيدًا بلا قبور وآلاف الأسرى تحت التعذيب

 

بقلم: بن معمر الحاج عيسى

 

في جريمة تتجاوز حدود الانتهاك إلى عمق الهمجية، يمضي الاحتلال الإسرائيلي في سياسة احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين، محوّلًا أجساد الضحايا إلى أوراق تفاوض، وذاكرة الألم إلى سياسة عقابية ممنهجة، لا تستثني طفلًا ولا امرأة ولا أسيرًا.

فمنذ عام 1967 وحتى يناير 2025، سجّلت الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء احتجاز سلطات الاحتلال لجثامين 665 شهيدًا فلسطينيًا، بينهم 256 شهيدًا دُفنوا في ما يُعرف بـ"مقابر الأرقام"، وهي مقابر سرية تخضع لإشراف عسكري، تُدفن فيها الجثث دون أسماء أو معالم، في ظروف تخالف أبسط معايير الكرامة الإنسانية.

وتتذرع إسرائيل بعدة حجج لتبرير هذا الاحتجاز غير القانوني، أبرزها منع "التحريض الجماهيري" خلال التشييع، أو لأغراض "أمنية"، أو استخدام الجثامين كورقة مقايضة في صفقات تبادل الأسرى، كما حدث مرارًا في السنوات الماضية.

غير أن هذه الذرائع تنهار أمام نصوص القانون الدولي الإنساني، خصوصًا اتفاقيات جنيف، التي تلزم باحترام رفات القتلى وتمكين ذويهم من دفنهم وفق طقوسهم، وتعتبر احتجاز الجثامين شكلًا من أشكال المعاملة المهينة وغير الإنسانية.

وتنص المادة 130 من اتفاقية جنيف الرابعة، والبروتوكول الإضافي الأول (المادة 34)، بشكل واضح على حظر احتجاز الجثامين، وتؤكد وجوب تسليمها لعائلاتهم دون تأخير.

وتتضاعف المأساة في ظل استمرار الاحتلال برفض الكشف عن مصير عدد كبير من الجثامين، خاصة في أعقاب حرب الإبادة المستمرة في قطاع غزة منذ أكثر من عشرة أشهر، حيث كشفت صحيفة "هآرتس" العبرية في يوليو 2024 أن جيش الاحتلال يحتجز نحو 1500 جثمان لفلسطينيين تم تصنيفهم بالأرقام، وتخزينهم في حاويات مبردة داخل قاعدة "سديه تيمان" العسكرية، دون إجراء عمليات تشخيص أو تحقق من الهوية، وبعض هذه الجثامين وصلت إلى مرحلة تحلل متقدمة، أو كانت مبتورة الأطراف، أو بلا ملامح، مما يعكس حجم الإجرام الممارس بحق الشهداء وذويهم. هذا الواقع المظلم لا يقف عند حدود الشهداء، بل يمتد إلى الأسرى الأحياء في سجون الاحتلال، حيث يعاني أكثر من 9000 أسير فلسطيني من انتهاكات جسيمة، تشمل التعذيب الجسدي والنفسي، الإهمال الطبي، العزل الانفرادي، والحرمان من الزيارة والتعليم والعلاج.

ومنذ أكتوبر 2023، ارتقى 66 شهيدًا داخل السجون، نتيجة التعذيب أو الإهمال الطبي أو سياسة التجويع، في ظل غياب أي رقابة دولية حقيقية بعد منع الصليب الأحمر من الوصول إلى المعتقلات، وإغلاق أبواب السجون أمام المنظمات الإنسانية.

أما الاعتقال الإداري، فبات سيفًا مسلطًا على رقاب الفلسطينيين، يُمارس بشكل تعسفي دون توجيه تهم أو محاكمة عادلة. وبحسب المعطيات المحدثة، تحتجز إسرائيل أكثر من 3550 معتقلًا إداريًا، بينهم قرابة 100 طفل، ونحو 1850 معتقلًا من قطاع غزة تم تصنيفهم كمقاتلين غير شرعيين، وغالبيتهم محتجزون في معسكرات عسكرية مغلقة، مثل "سديه تيمان"، "نفتالي"، و"ركيفت"، دون أي معلومات عن أوضاعهم الصحية أو القانونية، ما يرقى إلى جريمة إخفاء قسري محظورة دوليًا.

وتُعد سياسة الإهمال الطبي المتعمد من أخطر أدوات الاحتلال لقمع الأسرى، حيث لا يتلقى المرضى العلاج المناسب، ويُقدَّم لهم مسكّن "الأكامول" كمخرج لكل الأمراض، من السرطان إلى الصداع، ويُمنع نقلهم للمستشفيات حتى في الحالات الحرجة.

منذ عام 1967، استشهد أكثر من 305 أسرى داخل السجون، منهم أكثر من 100 بسبب الإهمال الطبي، من بينهم ناصر أبو حميد (2022)، خضر عدنان (2023)، ووليد دقة (2024)، الذين تُركوا يصارعون المرض وهم مكبلون في الأسر دون علاج أو رعاية، رغم المناشدات الدولية المتكررة.

على الصعيد الحقوقي، تقدمت مؤسسات فلسطينية عديدة، مثل مركز عدالة، ومؤسسة الضمير، وهيئة شؤون الأسرى، بمئات الالتماسات القانونية أمام المحكمة العليا الإسرائيلية، وبعضها نجح في استعادة جثامين الشهداء، كما حدث مع الشهيد مشهور العاروري الذي استعيد جثمانه عام 2010 بعد 34 عامًا من الاحتجاز.

لكن المحكمة ذاتها، وتحت ضغط سياسي متواصل، شرّعت في 2019 احتجاز الجثامين استنادًا إلى "أنظمة الطوارئ البريطانية لعام 1945"، مما شكّل غطاء قانونيًا مرفوضًا عالميًا لاستمرار هذه الجريمة.

دوليًا، أصدرت جهات عدة إدانات واضحة، منها المفوض السامي لحقوق الإنسان، لجنة مناهضة التعذيب، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومنظمة العفو الدولية، وأكدت أن هذه الممارسات ترقى إلى التعذيب والمعاملة القاسية والمهينة. ورغم ذلك، لا يزال الضغط الدولي غير كافٍ لوقف الانتهاكات، ما يدفع المنظمات الحقوقية الفلسطينية للمطالبة بتدويل الملف وتقديمه إلى المحكمة الجنائية الدولية باعتباره جريمة ضد الإنسانية، خاصة في ظل التحقيق المفتوح من المحكمة منذ عام 2020.

الإعلام العربي، وتحديدًا الجزائري، يلعب دورًا محوريًا في تسليط الضوء على هذه الجرائم، حيث تخصص صحف مثل "الأيام نيوز"، و"الشروق"، و"الوسيط المغاربي"، مساحات منتظمة لقضية الأسرى والشهداء، وتواكب تفاصيل الإضرابات، الانتهاكات، وحملات التضامن، وإن كان التركيز لا يزال أكبر على قضية الأسرى مقارنة بحجز الجثامين.

لكن الإعلام العربي يواجه تحديات كبيرة في اختراق التعتيم الغربي الذي يهيمن عليه اللوبي الصهيوني، ويغض الطرف عن الانتهاكات اليومية بحق الفلسطينيين.

وبينما تستمر الجرائم، تبقى العائلات الفلسطينية في مواجهة الموت بصمت، تحوّل وجعها إلى فعل مقاومة، تُنظّم الوقفات، وتُشارك في التظاهرات، وتُطالب بجثامين أحبائها، غير آبهة بجدران الصمت أو عنجهية الاحتلال. إن الصمت الدولي شراكة، والتواطؤ الإعلامي تغطية للجريمة، ولا بد من كسر هذا الحصار بالصوت، بالصورة، وبالعدالة.

 

 

 

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services