151754
0
مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 161

مهما كانت نهاية الوضع القائم، فإن الجماعة المتطرفة المتمردة، التي استغلت العنف كوسيلة لتحقيق غاياتها، ستبقى المذنب الوحيد في مأساة وطننا. لقد كانت حركة قائمة على التعصب الأعمى، يقودها إرهابيون احترفوا تزوير الحقائق، وربطوا جرائمهم بالدين زورًا وبهتانًا.
لم يكن ذلك سوى فخ وقع فيه ضعاف النفوس، الذين سُلِبَ وعيهم وسُيِّروا في مغامرة همجية لم تعبأ بالدين ولا بالسياسة، بل جعلت من الحياة اليومية جحيمًا مستعرًا. لقد أدخلوا البلاد في متاهة من الفوضى، وجعلوا مستقبلها مجهولًا يعجُّ بالمخاطر.
غير أن الحقيقة كانت أبعد ما تكون عن تصوراتهم المشوَّهة، فمن انغمس في هذه الفتنة لم يكن مدركًا للواقع التاريخي لوطننا، ولا لمبادئ ديننا التي طالما نبذت العنف والتطرف، لقد جُرَّ بعضهم إلى هذا الطريق وهم غرباء عن جوهر هويتنا، حيث ارتكبوا أبشع الجرائم باسم قضية لم تكن يومًا قضيتهم.
هذا الإجرام الأعمى لم يكن سوى خيانة كبرى لكل القيم التي بُني عليها المجتمع الجزائري، فالعنف الممنهج ضد النساء والرجال على حدٍّ سواء كان خروجًا سافرًا عن روح الأمة التي قاومت الاستعمار ببطولة وشرف.
لقد عاش الجزائريون خلال تلك السنوات في دوامة من الخوف، لكنهم في أعماقهم لم يفقدوا الأمل.، كان الشعب يتوق إلى مستقبل أفضل، إلى نهضة تضع الجزائر على درب التقدم، حيث تكون التنمية والعدالة الاجتماعية والرخاء الهدف الأسمى، كانوا ينتظرون غدًا تسوده الكرامة والحرية، لكن ما حصل كان على النقيض تمامًا: دمار أخلاقي، كارثة إنسانية، وخيانة للتاريخ. لقد شكلت تلك الحقبة وصمة عار لا تُمحى، إذ جُرَّت البلاد إلى مستنقع الدماء، وأُطفِئت أحلام جيل كامل كان يطمح لرؤية وطنه مزدهرًا.
بيد أن الكارثة لم تكن مجرد مأساة داخلية، بل كانت ضربة لصورة الجزائر في أعين العالم. كيف لأمة صنعت مجدها عبر تضحيات لا تُحصى أن تُجرَّ إلى هذا السقوط المدوي؟ لقد كانت الجزائر دائمًا رمزًا للبطولة، بشعبها الذي رفض الاستعمار الفرنسي بكل أشكاله، ودفع ثمن الحرية بدماء لا تُعدُّ ولا تُحصى. أولئك الشهداء الذين استبسلوا في مقاومة الظلم لم يكن لهم أن يتصوروا أن أحفادهم سيُستَغلُّون في حرب عبثية، لا تمتُّ بأي صلة إلى القيم النبيلة التي ضحَّوا من أجلها.
لقد كان نصر الجزائر على واحدة من أعظم القوى الاستعمارية في العالم لحظة تاريخية مشرقة، تتويجًا لصبر طويل ومعاناة عظيمة. لكن بعد عقود من الاستقلال، وجدت البلاد نفسها أمام مأساة أخرى، لم يكن فيها عدو خارجي، بل أيدٍ داخلية مزَّقت النسيج الوطني، وأغرقت البلاد في بحر من الدماء والدموع. لقد كانت تلك المرحلة أشبه بامتحان أخلاقي لشعبنا، واختبارًا لقوة وحدتنا الوطنية.
إن الإرهاب، رغم قسوته وبطشه، لم يكن له أن يغيّر جوهر هذه الأمة. لقد أثبت الجزائريون أنهم أكبر من تلك المحنة، وأنهم قادرون على النهوض من تحت الرماد، تمامًا كما فعلوا في وجه الاستعمار. لقد كانت العاصفة عنيفة، لكنها لم تقتلع جذور الانتماء الوطني، ولم تطفئ شعلة الأمل التي كانت ولا تزال مشتعلة في قلوب الجزائريين.
ولعل الدرس الأكبر الذي يجب أن نستخلصه من تلك الحقبة، هو أن العنف والتطرف لا يبنيان أوطانًا، بل يدمرانها. إن التقدم الحقيقي لا يكون إلا عبر العلم والعمل والعدل، عبر بناء مجتمع يُقدِّس الحياة ويحترم الاختلاف، لا عبر الخراب وسفك الدماء. إن مستقبل الجزائر لا يمكن أن يُصاغ إلا بإرادة أبنائها، الذين يضعون مصلحة وطنهم فوق كل اعتبار، ويؤمنون أن النهضة الحقيقية تُبنى بالحكمة والعقل، لا بالرصاص والموت.
اليوم، وبعد كل تلك المعاناة، لا بد أن نرفع رؤوسنا عاليًا، ونمضي قدمًا لبناء الجزائر التي حلم بها أجدادنا، جزائر تليق بتضحياتهم، وتكون وطنًا للسلام والازدهار، لا للخوف والدمار. فالجرح كان عميقًا، لكن الشفاء ممكن، والمستقبل لا يزال مفتوحًا لمن يؤمن أن الجزائر تستحق الأفضل، دائمًا.
وإن استذكار تلك الأيام العصيبة، ليس من باب النبش في الماضي أو استدعاء الألم، بل هو ضرورة تفرضها علينا المسؤولية تجاه الأجيال القادمة. فالتاريخ ليس مجرد أحداث تُروى، بل هو عبرة نستخلصها حتى لا تتكرر الأخطاء. علينا أن نكون أكثر وعيًا، وأكثر حرصًا على حماية وحدتنا، فلا نسمح لأحد بأن يشق صفوفنا أو يعبث بمستقبلنا.
الجزائر أمانة في أعناقنا، وعلينا أن نصونها بكل ما أوتينا من عزم وقوة. وكما تجاوزنا المحن في الماضي، سنبقى دائمًا قادرين على مواجهة التحديات، بروح موحدة وإيمان راسخ في قدرة هذا الوطن على النهوض من جديد..
على امتداد سبع مراحل دموية من حربٍ وُصفت، عن حقٍّ، بأنها لا إنسانية، وأقرب إلى الإبادة الجماعية، شهدت الساعات تلو الأخرى على جرائم مروعة اقترفتها القوات الفرنسية ضد شعبٍ أعزل، هشٍّ، مجردٍ من وسائل الدفاع. لم يكن الظلم استثناءً، بل كان قاعدة، ولم تكن العدالة سوى وهمٍ مُعلّقٍ على حبال الأكاذيب السياسية. كان الأبرياء يُساقون إلى المذابح، لا لشيء سوى لأنهم طالبوا بحقهم في الحياة والكرامة. لم تكن هناك محاكم تنصفهم، ولا قوانين تحميهم، ولا حتى آذانٌ تصغي لصرخاتهم التي تلاشت في زوايا صمتٍ متعمد.
في تلك الحقبة المأساوية، لم تكن العدالة الفرنسية سوى ستارٍ يُخفي خلفه آلة قمعٍ ممنهج، تُصادر الحقوق وتمنح نفسها صلاحية تقرير من يستحق العيش ومن ينبغي أن يُمحى. لم يكن للمواطنين العُزّل خيارٌ سوى الاستسلام لمصيرٍ أسود، حُكم عليهم به قبل حتى أن يُتاح لهم الدفاع عن أنفسهم. كان الموت أقرب إليهم من أيّ منقذ، بينما تآمرت القوى الاستعمارية لإحكام قبضتها على البلاد، غير عابئةٍ بالأرواح التي تُزهق، وكأنما الحرب مجرد أرقامٍ تُدرج في تقارير عسكرية، لا مأساة إنسانية تعصف بأمةٍ بأكملها.
لكن، هل يمكن اعتبار النضال من أجل الحقيقة، دون تعريضها للتشويه، نموذجًا يُضفي على الكلمات معناها الحقيقي، فيترجم وعينا وذكاءنا وقدرتنا على المواجهة؟ إنّ من توهّم خلاف ذلك، اصطدم بحقيقةٍ دامغة: لقد كنّا، رغم شحّ الوسائل وغياب القوة والعدالة والعلم، في مستوى التحدي، قادرين على التمييز بين خيوط الصراع، والتعامل معه وفق استراتيجيات لا تقل حنكة عن قوة خصومنا. غير أن معرفتنا العميقة، وإيماننا الراسخ بعقيدتنا الإسلامية، شكّلا لنا درعًا يحفظ توازن القوى، ويرجّح كفة الكفاح في مواجهة الطغيان.
أما الأجهزة الأمنية، فلم يكن دورها مقتصرًا على المواجهة المسلحة فحسب، بل امتد إلى ساحةٍ أخرى لا تقل خطورة، حيث ارتكزت مهامها على تفكيك خطاب التطرف، وتحرير العقول المأسورة بنزعاتٍ جامحةٍ لا تستند إلى أيّ منطقٍ سليم. لقد كان عليها أن تخمد فتيل الغضب، وتُحدّ من نفوذ الأفكار الهدّامة التي، بفضل جهل أصحابها، سرعان ما حوّلتهم إلى شياطين مارقة، مستعدةٍ لمنازعة كل شيء، حتى المقدسات الإلهية.
كان هذا العمل المضني في تفكيك الفكر المتطرف مهمةً تولاها العديد من الشخصيات الوطنية البارزة والمفكرين المستنيرين، غير أن جهودهم، للأسف، كانت تذهب أدراج الرياح في كل مرة، وكأنما كانت الحقيقة قدرًا محتومًا عليها أن تظلّ حبيسة الظلام، في وجه تياراتٍ عنيفة لا تعترف إلا بقوة السلاح.
إنّ تطهير العقول من التطرف لم يكن مجرد محاولةٍ لتصحيح المسار، بل كان حربًا فكرية لا تقل شراسةً عن المعارك الميدانية. فالإرهابي ليس مجرد مقاتل يحمل السلاح، بل هو عقلٌ مريض، تلاعبت به أيديولوجيات منحرفة، جردته من إنسانيته، ودفعته إلى رؤية العالم من زاويةٍ ضيقة لا ترى سوى العنف كحلٍّ وحيد. من هنا، أدركت السلطات الأمنية أن القضاء على الإرهاب لا يتحقق فقط عبر القوة العسكرية، بل عبر مجابهة الفكر بالفكر، ومحاربة الجهل بالمعرفة، وزرع بذور الوعي حيثما استشرى الظلام.
وفي هذه المواجهة، لم يكن الدين أداة تحريضٍ كما حاول المتطرفون تصويره، بل كان سلاحًا مضادًا، يثبت، بالحجة والمنطق، زيف مزاعمهم، ويعيد للعقول الضالة رشدها. لقد كان الإسلام، بعلمه وعدالته ورحمته، الدرع الحامي ضد أولئك الذين حوّلوه إلى رايةٍ للدمار، متناسين أن تعاليمه جاءت لإرساء السلام، لا لنشر الفوضى.
لكن رغم كل الجهود، لم يكن من السهل إعادة توجيه من غُسلت أدمغتهم لسنوات. فالعقول التي تجرعت التطرف، أشبه بأرضٍ أُحرقت تربتها، لا تستجيب سريعًا لمطر الإصلاح. ومع ذلك، لم يكن هناك بديلٌ عن المحاولة، لأن ترك الأمور على حالها لم يكن خيارًا مطروحًا.
وهكذا، كانت الحرب ضد الإرهاب معركةً متعددة الأوجه، خاضتها الدولة على جبهاتٍ مختلفة: مواجهة مسلحة عند الضرورة، ومقارعة فكرية لإبطال مزاعم التطرف، وتوعية مستمرة لحماية الأجيال القادمة من السقوط في نفس المستنقع. كان الأمر يتطلب صبرًا استراتيجيًا، لأن كل انتصار في هذه الحرب لم يكن يُقاس بعدد القتلى، بل بعدد العقول التي استعادت وعيها، وعدد القلوب التي عادت إلى طريق الحق.
وبالرغم من كل الصعوبات، لم يكن من الممكن الاستسلام، لأن البديل كان يعني الفوضى، والدمار، واستمرار دوامة العنف. كان لا بد من المضي قدمًا، مهما كان الثمن، لأن الحقيقة، وإن تأخرت في الظهور، لا يمكن أن تُهزم إلى الأبد.
.يتبع....

