بقلم محمد مصطفى حابس: جينيف/سويسرا 

بعد نجاح المؤتمر الأول العام الماضي في جامعة وهران و الذي كان قد خصص لمنظور السننية الشاملة عند المفكر الجزائري الطيب برغوث، اذ عدّ – حينها – هذا الجهد باكورة خيرو فاتحة أمل كما عدّت أبحاثه حسب بعض منظميها إجتهادا وجهدا مباركا، استفاد منه الكثير من الطلبة و الباحثين، بل واستمتعوا بما قدم وبما اكتشف فيه من طاقات واعدة بإذن الله تعالى، وحسب المفكر المحتفى بأعماله، ” سيكون لها دور مهم في نشر الوعي السنني في المجتمع، والمضي به قدما بإتجاه تحرير موقع للمنظور السنني في الفكر الإسلامي المعاصر، الذي تأخر كثيرا، ويبدو أن وقته قد حان ليأخذ حظه من الإهتمام والعناية”…” فيا سعادة و يا بشرى من سيكون له دور في بناء هذا المنظور السنني الشامل، ونشره في المجتمع والأمة، وتمكين الأجيال من الإستفادة منه في تجاوز الدوامات المنهكة التي مرت وتمر بها تجارب النهضة في العالم الإسلامي منذ قرنين، بل وتمر بها تجربة الحداثة المعاصرة كذلك، وفي فتح الطريق أمام حركة النهضة الحضارية لتمضي قدما نحو تحقيق أهدافها المنشودة، والمساهمة في تخليص الحضارة المعاصرة من ماديتها المتوحشة، وترفيتها المنهكة والمهلكة، ومركزيتها المرضية، وحماية مكاسبها ومنجزاتها الإنسانية الرائعة، باعتبارها ملكا للبشرية عامة وليست لجيل أو أمة بعينها، من واجبنا أن نحرص عليه، ونحميه ونحافظ على جوهره السنني الخير، ونمكِّن الإنسانية كلها من الاإتفاع به وبثمراته” ، على حد قول المفكر الجزائري المحتفى به.

انطلقت الأسبوع الماضي  يوم الإثنين 07 ذو الحجة 1443هـ / 06 جوان 2022م ، أشغال الملتقى الوطني الثاني بعنوان “فقه السنن الحضارية بين التحديات والتطلعات ” الذي نظمته نفس كوكبة العام الماضي، أي قسم أصول الدين بكلية العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية، بالتعاون مع مخبر مخطوطات الحضارة الإسلامية في شمال إفريقيا، بجامعة وهران..

و في جلستها الافتتاحية الآولى في حدود التاسعة صباحا، شنفت أسماع الحاضرين و المتابعين عن بعد من خارج وداخل الوطن- بآيات بينات من القران الكريم فالنشيد الوطني،  لتعطى كلمات مقتضبة على التوالي للسادة:

      – عميد كلية العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية: أ.د. دحو فغرور

     – مدير مخبر مخطوطات الحضارة الإسلامية في شمال إفريقيا :أ.د. عبد المجيد بن نعمية 

  – رئيس قسم أصول الدين. د. حمزة عواد

–  كلمة المنسق العام للملتقى ومدير مشروع البحث :أ.د. حوالف عكاشة 

ليفسح المجال للجلسات العلمية، وفق الترتيب التالي:

الجلسة العلمية الأولى بعنوان:” معالم و أسس فقه السنن الحضارية في النصوص الشرعية“، أطرها الدكتور عبد المجيد بن نعمية.

الجلسة العلمية الثانية بعنوان:”جهود الفكر الإسلامي التراثي في فقه السنن الحاضرية“، أطرها الدكتور السعدي كحلول.

الجلسة العلمية الثالثة بعنوان:”آفاق البحث في فقه فقه السنن الحضارية و أثرها على النهضة الإسلامية“، أطرها الدكتور فريد بودربالة.

الجلسة الختامية وتوصيات الملتقى أطرها الأستاذ الدكتور حوالف عكاشة، من جهته كتب المفكر الجزائري المحتفى به العام الماضي مقاربة تقييمية وتشجيعية وإعجاب بمجهود الأساتذة و الطلبة، نقتبس منها الأفكار المفتاحية التالية:

أهمية البعد التراكمي في الأعمال:

لعل مما ينبغي التنويه به هنا، هو الإصرار على الإستمرارية ومراكمة الخبرة المعرفية في هذا المجال، كما يدل على ذلك هذا الملتقى الثاني  في فقه السنن الحضارية، وهذا أمر في غاية الأهمية، لأن الأعمال تتكامل وتنضج وتعم فائدتها وبركتها، من خلال تراكم القراءات والأبحاث والدراسات والمدارسات والخبرات، وهذا التراكم يحتاج إلى استمرارية الجهد وبنائيته

مخاطر تأخر بناء الوعي بفقه النهضة الحضارية:

 ان تأخر تشكل هذا الحقل المعرفي المحوري الخاص ” بفقه النهضة الحضارية والوعي بالدورة الوجودية الكبرى للحياة الإنسانية “، كانت له عواقب كبيرة على الحياة الإنسانية الفردية والجماعية، بل وعلى البيئة والطبيعة عامة، وستكون له بلا شك عواقب أوخم على المصير الأخروي للإنسان، باعتبار الحياة الأخروية محصلة الزرع الذي زرعه الإنسان في حياته الدنيوية.

حاجة الحياة الإنسانية إلى التكاملية والتوازن

الشخصية الإنسانية لكلي تتواز وتتكامل، والحياة الثقافية والإجتماعية والحضارية للمجتمع، لكي تتوازن وتتكامل بدورها، وتعظم فعاليتها وخيريتها وبركتها العامة، في حاجة ماسة بل وضرورية، إلى التخلص من هذه التجزيئية التنافرية المنهكة، في المعرفة والتربية والثقافة والحركة معا، من خلال تغطية وتلبية كل جوانب وحاجات نمو الشخصية الإنسانية، وتنمية وتلبية كل جوانب وحاجات الحركة الإجتماعية، وعدم الإقتصار على تنمية وتلبية بعض هذه الجوانب والحاجات فحسب.

مخاطر استمرار وضعية التجزيئية والتنافرية في المعرفة والخبرة الإنسانية:

 هذه التجزيئية والتنافرية والإهتلاكية المعرفية والسلوكية والاجتماعية.. ستظل مستمرة ومؤثرة سلبا على الحياة الفردية والجماعية للإنسان، بالرغم من النمو المستمر  والهائل في المعرفة السننية الجزئية، وتحكُّم الأفراد والمجتمعات فيها، ما لم يتمكن الإنسان من بناء هذا الحقل المعرفي المحوري الرئيس، وهو حقل ” فقه النهضة الحضارية والوعي بالدورة الوجودية الكبرى للحياة الإنسانية ” الذي ما وجدت كل هذه العلوم والمعارف والخبرات الجزئية الهائلة، إلا من أجل بنائه وإنضاجه وتعميم الوعي به، وتمكين جميع الناس من الاستفادة منه في إدارة حياتهم الفردية والجماعية بشكل أكثر شمولية وتكاملية وتوازنا وفعالية وخيرية ورشدا وبركة ورحمة عامة.

ماهية فقه النهضة الحضارية:

المقصود بفقه النهضة الحضارية هنا، الفقه السنني المرتبط بشروط تحقيق الإنسان لخلافته في الأرض على وجهها الصحيح، باعتبار الحياة الدنيوية للإنسان مرحلة تأسيسية محورية أو مفصلية في ” دورته الوجودية الكبرى “، يرتبط بها الوضع الدنيوي للأفراد والمجتمعات أولا، ثم ترتبط به مصائر هؤلاء الأفراد والمجتمعات في بقية مراحل دورتهم الوجودية الكبرى، التي تعقب حياتهم الدنيوية، وتفضي بهم إلى الجزاءات النهائية المنتظرة .

محورية الوعي بفقه النهضة الحضارية في الحياة:

 وهذا يقتضي أن تدور حوله كل الحركة الفكرية والثقافية والاجتماعية الجزئية أو التخصصية أو القطاعية للإنسان، وتتجه نحوه، وتتأطر به وبمقاصده ومعطياته ومقتضياته، لأنه هو الذي يعطيها غائيتها ومقاصديتها وهدفيتها من جهة، ويحقق تكامليتها البينية من جهة أخرى، ويمنحها فعاليتها الوظيفية أو التسخيرية الهائلة من جهة ثالثة، ويضمن لمنجزاتها الفعلية المزيد من الخيرية والرشد والبركة والرحمة العامة من جهة رابعة.

قصور الوعي بفقه النهضة الحضارية:

أي أن الحركة في اتجاه بناء وتأسيس هذا المصب المركزي للمعرفة والخبرة والحكمة البشرية الشاملة، وهو ” فقه النهضة الحضارية والوعي بالدورة الوجودية الكبرى للحياة الإنسانية “، ما يزال الاهتمام به متأخرا جدا، وضعيفا جدا، بل ولا تكاد تُلمَس آثاره الجنينية بعد! بالنظر إلى اتساع نطاق الاهتمام بالمعرفة والثقافة والخبرة السننية الجزئية، التي كثيرا ما تفقد الكثير من غائيتها ومقاصديتها ورشادتها وفعاليتها التكاملية، وخيريتها وبركتها ورحمتها العامة، بسبب دورانها في نفس المسارات والمحاور الجزئية التنافرية المنهكة، التي لا يمكن الخروج منها، ووضعها في مساراتها التكاملية الفعالة، إلا بالاهتمام الجاد ببناء المصب المركزي للمعرفة والخبرة والحكمة البشرية.

فقه النهضة الحضارية والحاجة إلى الوعي بمنظور السننية الشاملة:

 ولعل هذا ما كان يقف وراء مشروع ” منظور السننية الشاملة “، الذي يستهدف توجيه حركة الفكر الإسلامي والإنساني نحو بناء هذا المصب المركزي للفكر والحياة الإنسانيين معا، الذي تصب فيه كل روافد المعرفة والخبرة والحكمة البشرية، لتغنيه وتطوره وتتجدده، وتقوِّم به نفسها وتغذِّيها وتطورها وتجددها، وتفعِّل دورها في الحياة الإنسانية.

ومن هنا جاءت الرسالات السماوية الكبرى، وظهرت الفلسفات الكبرى، وقامت الحركات الإصلاحية التجديدية الكبرى عبر الأجيال، لبناء الوعي بمعالم المنظورات السننية الشاملة التي تحكم حركة البحث عن السنن الجزئية من جهة، وحركة الاستفادة العملية الفعالة منها في إدارة حركة الحياة من جهة أخرى، حتى لا تتبعثر هذه المعرفة السننية الجزئية ولا تتشرذم، ولا تتسرطن، وتفتك بالحياة الإنسانية الفردية والجماعية، الدنيوية والأخروية، كما هو شأنها في الحداثة المعاصرة، التي بعثرت كل شيئ وذرذرته، واستحقت وصف الحداثة السائلة فعلا على حد وصف باومن لها في كتابه ” الحداثة السائلة “، بل حداثة التفاهة على حد وصف آلن دونو لبعض عواقبها في كتابه ” نظام التفاهة ” !

 الأهمية الكبيرة للوعي بمنظور السننية الشاملة:

من هنا تأتي الأهمية الكبيرة لمنظور السننية الشاملة في مواجهة هذه المعضلة، وتحقيق التكاملية المعرفية والحركية الشاملة في الحياة الإنسانية، وتخليصها من الازدواجية التنافرية الاهتلاكية المنهكة، لأنه المنظور الذي يرسم خريطة كلية متوازنة ومتكاملة للنواظم السننية الكلية التي تتحرك في إطارها مسيرة الحياة الإنسانية فكرا وتربية وثقافة وسلوكا وعلاقات اجتماعية وحضارية، .

إنه منظور قائم على سلطة السنن على الحياة الإنسانية أولا، وأنه لا شيئ يخرج عن سلطان سنن الله تعالى في خلقه

أهمية التوجه نحو العناية بمنظور السننية الشاملة:

من هنا تبدو أو تتأكد الأهمية الكبيرة أو البالغة للتوجه نحو العناية ببناء الوعي بالخريطة الكلية لمنظور السننية الشاملة، واعتباره مصبا محوريا لكل روافد الحركة الاجتهادية المعرفية والاجتماعية في المجتمع والأمة والعالم من جهة، وإطارا مرجعيا ضابطا وموجها لها من جهة أخرى، ومنهجا للرصد والتحليل والتفسير والاستشراف والإدارة للحياة الفردية والجماعية من جهة ثالثة.

إن بناء الوعي بمنظور السننية الشاملة، هو المدخل الصحيح والفعال إلى التوازن الذاتي والإجتماعي والحضاري المطلوب، ويدفع به قدما نحو المزيد من الخيرية والرشد والبركة والرحمة العامة.

دعوة و أمل :

من أجل كل هذا – يقول المفكر الجزائري- نهيب بالنخب الفكرية والإجتماعية والسياسية في مجتمعنا وعلى مستوى الأمة، أن تمنحه ما يستحقه من العناية والجهد والدعم المادي والمعنوي، حتى يتأسس وينتشر ويأخذ مكانتهالمطلوبة في حياتنا، ويدفع بها إلى المزيد من الإنسجام والفعالية والتكامل والتوازن.

  مجددا تنويهه بكل الباحثين الذين أطروا هذا الملتقى بأبحاثهم ودراساتهم الجادة، خاصة منهم الدكاترة مراد بلخيري من جامعة وهران، وعمار قاسمي من جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، ومحمود حرشاش من جامعة الجزائر 2، الذين حاولوا التعريف المباشر بمنظور السننية الشاملة، وإبراز أهميته في مجال الدراسات السننية المعاصرة، واستثمار معطياته في محاضراتهم.