12
0
اختراع العزلة

بقلم: إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن
إنَّ العُزلة لَيْسَتْ شُعورًا نَفْسِيًّا فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا فِكْرَة حَيَاتِيَّة تَمْزُجُ بَيْنَ التأمُّلِ الوُجوديِّ وَرُوحِ الاكتشافِ، مِنْ أجْلِ الوُصولِ إلى اليَقِينِ على الصَّعِيدَيْن المَعنويِّ والمَاديِّ .
والعُزلةُ هِيَ نُقْطَةُ التَّوَازُنِ في إفرازاتِ الذاكرةِ، وَمِحْوَرُ الارتكازِ في الأسئلةِ الفَلسفيَّةِ العَميقةِ، وَفَلسفةُ التَّحَرُّرِ مِنْ حَيِّزِ المَكَانِ وَضَغْطِ الزَّمَانِ. وبالتالي ، تُصبح العُزلةُ خُلاصةً للمَشاعرِ الداخليَّة ، ودَليلًا عَلى وُجودِ الحُلْمِ المَقموعِ في عَوالمِ النِّسيان .
وَمِنَ الذينَ نَقَلُوا العُزلةَ مِنْ المَفهومِ المَاديِّ التَّجْرِيدِيِّ إلى المَعنى الأدبيِّ الإبداعيِّ، الرِّوائيُّ الأمريكيُّ بول أوستر ( 1947 _ 2024 ) .
يُعَدُّ كِتَابُهُ " اختراع العُزلة " ( 1982 ) مُذَكَّرَاتٍ عَنْ وَفَاةِ وَالِدِه، وتَأمُّلاتٍ شخصية في فِعْلِ الكِتابةِ وَالخَسَارَةِ وَالوَجَعِ والفَقْدِ .
يَنقسِم الكِتَابُ إلى جُزْأَيْن ، الجُزْءُ الأوَّلُ : صُورة رَجُلٍ خَفِيٍّ . يتناول المَوْتَ المُفَاجِئ لِوَالِدِه، حَيْثُ يُبَيِّن أوستر طبيعةَ غِيابِ وَالِدِهِ في حَيَاتِهِ وبَعْدَ مَوْتِه ، ويُعيدُ بِنَاءَ حَياةِ وَالِدِهِ مِنَ القِطَعِ الأثرية التي تَرَكَهَا وَرَاءَه .
والجُزْءُ الثاني : كتاب الذاكرة . وَهُوَ سَرْدٌ بِضَميرِ الغائبِ ، حَيْثُ تَبْرُزُ المَوضوعاتُ المَوجودةُ في أعمال أوستر اللاحقة ، مِثْل : تَرتيب الأحداث ، والعَبثية ، والوُجودية ، والصُّدْفَة ، وعَلاقة الأبِ والابْنِ ، والبَحْث عَن الهُوِيَّةِ والمَعاني الإنسانيَّةِ .
وَيَعتبر النُّقَّادُ " اختراع العُزلة " مِفتاحًا لِتَفسيرِ أعمال أوستر السَّرْدِيَّة والشِّعْرِيَّة ، وَهُوَ جَوْهَر أعمالِه كُلِّهَا .
لَقَدْ قَامَ أوستر _ مِنْ خِلالِ شخصيةِ الأبِ _ باختراعِ العُزلةِ شُعورًا وسُلوكًا ، عَبْرَ الحَفْرِ في الذاكرةِ ، والغَوْصِ في المَاضِي الذي لا يَمْضِي ، وَتَفْسِيرِ مَعنى الخَسَارَةِ ، واسترجاعِ الذِّكْرَيَاتِ اعتمادًا على المُقْتَنَيَاتِ التي تَرَكَهَا هَذا الأبُ الذي يَتَّصِفُ بِالغُموضِ والخَفَاءِ والغِيَابِ.
إنَّهَا رِحْلَة بَحْث مُضْنية عَنْ أبٍ مَعْزُولٍ ، وَغَامِضٍ ، وَغَرِيبِ الأطوارِ ، وَغَيْرِ مَرْئيٍّ ، وَلَمْ يَكُنْ حاضرًا بِما فِيه الكِفَاية في حياة أُسْرته .
ولا يُمكِن حَصْرُ مَفهومِ العُزلةِ في الروابطِ الأُسَرِيَّةِ والعَلاقاتِ الاجتماعيَّةِ ، فالعُزلةُ مَنظومةٌ إنسانيَّة على تَمَاس مُباشر مَعَ الشَّخصيةِ والهُوِيَّةِ،وهَذا يَتَّضِح في كِتاب" مَتاهة العُزلة " ( 1950 ) للأديب المَكْسيكي أوكتافيو باث ( 1914 _ 1998 / نوبل 1990 ) ، وَهُوَ يُعْتَبَر أهَمَّ أعمالِه على الإطلاق .
وقد أشادت به الأكاديمية السويدية عندما منحته جائزة نوبل . وحاولَ فيه باث أن يَتَحَرَّى عَنْ شخصية الإنسان المَكْسيكي ، وَيَسْبُر أغوارَها .
وَهَذا الكِتابُ عِبارة عن بحث في التاريخ الرُّوحِيِّ للمكسيك ، في طُقوسه وعاداته المَوْروثة ، مِنْ أيَّامِ الأزتيك ( سُكَّان المَكْسيك القُدامى ) . وهو أيضًا نظرة تأمُّل مُتَعَمِّقَة في الأوضاع التي أثَّرَتْ في تَحديد طبيعة المكسيكيين وتاريخهم .
يَرَى باث أنَّ الوَحْدَةَ أعمقُ حَقيقةٍ في الوُجودِ الإنسانيِّ ، فالإنسانُ هُوَ الكائنُ الوَحِيدُ الذي يُدْرِكُ أنَّهُ وَحِيدٌ، والوَحِيدُ الذي يَبْحَثُ عَنْ غَيْرِه . وَقَدْ جاءَ إلى الدُّنيا وحيدًا ، وَسَيَمُوت وَحِيدًا .
والإنسانُ أثناءَ فَترةِ حَياته يُعيد اختراعَ عُزلته، واكتشافَ نَفْسِه ، ويَسْعَى إلى تَحقيقِ ذَاتِهِ في غَيْرِه ، فَهُوَ دَائِمُ الحَنينِ إلى المَاضِي ، ودَائمُ البَحْثِ عَن التواصل مَعَ الآخَرِين .
وَيُعْتَبَر كِتابُ " مَتاهة العُزلة " أساسًا وُجوديًّا ودَليلًا فِكْرِيًّا لِفَهْمِ الهُوِيَّةِ المَكْسيكية،مِنْ خِلالِ تَحليل عميق للشَّخصيةِ الفَرْدِيَّةِ والهُوِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ والتفاعلِ الثقافيِّ ، ويَعْكِسُ جوانب مِنَ العُزلةِ الثقافية التي عَاشَتْهَا المَكسيك بَعْدَ فَترةِ الاستعمارِ ، وتأثير ذلك على المُجتمع المَكْسيكي الحديث الغَنِيِّ بثقافته وتاريخِهِ المُعَقَّد .
والإنسانُ _ في لَحَظَاتٍ مُعَيَّنَة في حَيَاتِه _ يَشْعُرُ بانفصالِهِ عَن العَالَمِ ، واغترابِه عَنْ ذَاتِه ، وانعزالِهِ عَن التاريخِ والحَضَارَةِ . ومَعَ هَذا ، فَهُوَ لا يَمْلِكُ خِيَارًا سِوَى السَّعْي إلى تَجَاوُزِ العُزلةِ ، وَمَحْوِ الاغترابِ ، واستعادةِ العَلاقاتِ الاجتماعيَّة .
وهَذا لا يَتَأتَّى إلا بِتَفعيلِ الوَعْي بذاتِه ، وعَدَمِ مُحاولة تَغييرِ جِلْدِه .
والشُّعُورُ بالعُزلةِ والانفصالُ عَن الآخرين يُمثِّل أُسلوبَ حَيَاةٍ لِكَثيرٍ مِنَ الأُدباءِ ، فالرِّوائيُّ الفرنسي جان ماري لوكليزيو ( وُلِدَ 1940 / نوبل 2008 ) ، يُعْتَبَر مُتَعَدِّد الهُوِيَّات ومُتشابِك الجُذور ، فَهُوَ مَولود في مدينة نيس الفرنسية لأبٍ بريطاني عَمِلَ طبيبًا عسكريًّا في أفريقيا ، وأُمٍّ فرنسية مِنْ جُزَرِ موريشيوس .
وَقَدْ ظَلَّ الروائيُّ طِيلة عُقود يبحث في التباس الانتماءِ والهُوِيَّة ، الذي وَجَدَ نَفْسَه فيه ، فَقَد اكتسبَ الجِنسية الفرنسية مِن أُمِّه ، وأَخَذَ الجِنسية البريطانية مِنْ والدِه.
وكانَ يَشْعُرُ بأنَّهُ مُزْدَوَج الولاء والانتماء، وَهَذا مَنَحَه شُعورًا بالغُربةِ والعُزلةِ، وطَالَمَا رَغِبَ بالتَّخَلُّصِ مِنْ هَذا الشُّعور ، وكانَ بحاجةٍ إلى هُوِيَّةٍ مُحَدَّدة بشكلٍ حاسمٍ .
يَرفضُ لوكليزيو الظُّهُورَ في الإعلام ، فَهُوَ صَامِتٌ ومُنعزِل ومُتَأمِّل ، ويَعْتَبِر الإنسانَ مَجموعةً مِنَ المُكْتَسَبَاتِ الثقافية ، والإرْثِ العائليِّ ، والمُتغيِّرات الفِكرية ، وَتَجَارِب العَيْشِ في بُلدان وأوضاع مُتغيِّرة ، وخِيارات شخصية ، وكُشوفات وأحلام مُتحقِّقة أوْ مُتهاوية.
ويَمتاز إبداع لوكليزيو بِعُمْقٍ إنسانيٍّ، وفُيوض شِعْرِية دَفَّاقة ، وَتجريب مُمْتِع. ويُعْتَبَر أعظمَ كاتب فرنسي على قَيْدِ الحَيَاة .