309

0

عن 196 متر، أو ألجييرس (عنوان الفيلم بالإنكليزي)

متابعات / سينما

 

.

بقلم عمر خضرون

 

   ينبغي أن يذكرنا العنوان المزدوج لفيلم "شكيب طالب بن دياب" بأفلام أخرى لها أكثر من عنوان وتجري حوادثها في العاصمة الجزائرية.

   لا مفر مثلا من تذكر فيلم "محمد زينات" الشهير، "تحيا يا ديدو" (1971) الذي فضل المنتجون آنذاك (بلدية الجزائر الوسطى) أن يحمل عنوانا آخر لم يعد يذكره أحد: Alger insolite.

   هناك في الحالتين معا، رغبةٌ في استهداف جماهير أخرى باختيار عناوين مناسبة لثقافاتهم. ويبدو أن المخرج بن دياب، باختياره المزدوج هذا، يرمي إلى لفت انتباه مشاهدين من الضفتين، ربما كانوا مختلفين في أذواقهم ولكنهم يشتركون في الاهتمام بهذه المدينة ولا يرفضون النقاش حول مشاكلها المعقدة، الناجمة أساسا من معمارها العجيب. (وجب أن نذكر أنه نجح فعلا في تحقيق هدفه لأن الفيلم حظي باهتمام موزعين أجانب في كندا وأنه نال الجائزة الكبرى في المهرجان الدولي للفيلم في "رود آيلاند" بأمريكا).

   كما يمكن أن نتذكر الفيلم الفرنسي الشهير Pépé le Moko (1937) الذي حظي باهتمام هوليوود في وقته، فسارعوا لشراء حقوقه وأنتجوا فيلمين متواضعين، مقتبسين عن فيلم "جوليان ديفيفييه"، الأول في السنة نفسها بعنوان "ألجييرس" أخرجه "جون كرومويل"، والثاني أخرجه "جون بيري"، عشر سنوات بعد ذلك، بعنوان "قَصبة".

   هناك شيء من التقاطع بين الأفلام الثلاثة: في فيلم "ديفيفييه"، يختبئ المجرم بين شوارع القصبة فيتعذر على مصالح الأمن العثور عليه بين ساكنيها وفي متاهاتها، في أثر لافت من آثار "الإيكزوتيزم" الذي يعيب الأفلام الكولونيالية. وفي فيلم بن دياب، يُكلَّفُ مفتش الشرطة بالبحث عن مجرمٍ، خاطفِ أطفالٍ متسلسلٍ ((serial criminal، ويتيه في البحث عنه كما لو كان يبحث عن إبرة دقيقة في جبل من القش، رغم أن صاحبه لا محالة مختبئٌ في مكان ما، غير بعيد عن مسرح الجريمة، وفقا لما ترى الأخصائية النفسانية التي تحشرُ نفسها بالقوة في المهمة التي كُلِّفَ بها.

   وتجزم الاخصائية أنَّ الخاطف الطريدَ موجودٌ في مساحة جد ضيقة في هذه المدينة الضيقة جدا، ربما على مسافة لا تزيد عن المائتي متر، الأمر الذي يبرر بعض الشيء عنوان الفيلم. وتتوالى مشاهد القصة بعد ذلك على خلفية من خلفيات الجراح والصدمات النفسية (traumatismes) التي تراكمت من سنوات الدم والدموع التي عرفتها العاصمة في التسعينيات. فمفتش الشرطة يبدو في غاية الضجر والإرهاق ويبدو مستعدا للاستقالة في أي وقت رغم تفانيه وإخلاصه في العمل، أمَّا الطبيبة النفسانية فإنها تخفي ماضيا حزينا يجعلها تعيش في شقتها العالية وحيدةً وغير مستعدة للارتباط ولا للاندماج.

   محمد زينات، من جهته، آثر التركيز في فيلمه على شرفات القصبة السفلى وعلى شوارع وسط العاصمة بمعماره "الهوسماني" المفتوح على البحر، دون أن ينفي وجود الصدمات النفسية فهي موجودة بالفعل، ولكنها نتجت أساسا عن تبعات الاستعمار وعن كوابيس التعذيب الشنيع الذي تعرض له بطل الفيلم أثناء ثورة التحرير.

   وبقدر ما تكررت رسائل الحب في " تحيا يا ديدو"، وبقدر ما لاحت علامات تعلق مخرجه بهذه المدينة الجميلة وسكانها الطيبين المتسامحين وأطفالها الصغار الاشقياء، بقدر ما يشعر المشاهد بأن بن دياب مشمئز من الحالة التي آلت إليها مدينته لأنها، على ما يبدو، ترفض أن تتعاطى الدواء الذي يشفيها من ماضيها الأليم. هناك في الفيلم دلائل متعددة على هذا الأمر: شوارع مظلمة، مقفرة، متسخة، أحياء لا يشعر فيها المرء بالأمان، أحياء يتعرض الأطفال فيها للخطف بكل سهولة، انقطاعات متكررة للماء الصالح للشرب، حنفيات معطلة بالجير والصدأ، مظاهرات احتجاج متكررة، وأحد أبطال الفيلم لا يتردد في التذمر من العمارة التي تٌخبأ فيها الطفلة المختطفة فيصفها بالقديمة و"الراشية"، وأخيرا، تصريح المجرم المختطف بعد القبض عليه، ربما ليبرر حقده، بأن البلد ذاهب للهاوية. كل هذا يأتي في وقت غير مُوات لهذه المدينة البيضاء المضيئة التي ما فتئت تفتن السياح الذين يزورونها لأول مرة.

   يريد أن يقنعنا بن دياب بأن العاصمة بنيت على جبل فلابد أن تكون خانقةً إذن. خانقةٌ بتشبعها وازدحامها المميت وشوارعها التي يلفها الليل سريعا والتي لا يتعدى طولها المائتي متر، وأنها، لهذا السبب، وعلى غرار كبريات العواصم الضخمة في العالم، مرتع طبيعي للجرائم والآفات والعقد لأنها طُبِعت منذ البداية على قدر التكدس، تكدس البشر في مساحات ضيقة تتصادم فيها كل المشاعر، أولها مشاعر حب المهنة والتضحية والتفاني مُمَثَّلةً، هنا، في عناصر الشرطة وفي تكوينهم العالي. فمفتش الشرطة يبدو شابا ذكيا ومثقفا للغاية (نبيل عسلي متميز في الدور كعادته، مثله مثل باقي الممثلين) فهو لا يتردد في التبادل، أثناء العمل، مع أقرب أعوانه عن محتويات كتاب "فن الحرب" الشهير، فيعرب الاثنان معا على ثقافة عالية في الموضوع. وثانيها مشاعر إخلاصهم العجيب الذي يؤكده المخرج مرة أخرى في جينيريك النهاية حين يذكر بأن حوادث اختطاف الأطفال في كل عواصم العالم ميؤوس منها إذا انقضت 48 ساعة دون العثور على الأطفال المختطفين. وإذن، فإن عثور المفتش على الطفلة المختطفة وتمكنه من استرجاعها حية سالمة يعتبر نوعا من الختام "الهابي أند happy end" السعيد، ولكنه ختامٌ مُستهلَكٌ وخالٍ من عنصر المفاجأة، حتى وإن كان فيه إقرار صادق بقدرات الشرطة الجزائرية. ويقابل هذه المشاعر النبيلة، مشاعر أخرى يتميز بها أولئك المجرمون الأشرار، ناتجة عن حبهم للانزواء وعن رغبتهم في الانتقام وإلحاق الأذى بالآخرين.

   وعلى الرغم مما سبق، هناك دلائل كافية تؤكد أن المخرج متعلق فعلا بمدينته حتى لا نقول محبٌّ لها، فهو ابن المجاهد الفخور بأصله وحضارة بلده ( بن دياب الذي كتب جينيريك فيلمه كاملا بالعربية السليمة، وهذا شيء  جميل ومفاجئ، كان قد  أخرج العام 2011  فيلما وثائقيا عن ابن رشد ويطمح الآن، وفق تصريحه، أن يكون فيلمه الروائي الثاني عن تاريخ الجزائر وعن مآثر أجدادنا في الأندلس) ولكنه فضل، في هذا الفيلم، أن يصور العاصمة بكل شجاعة وأن يمنحها دور البطولة في فيلم جريمة على غرار الأفلام الأمريكية السوداء (films noirs) التي تتلذذ بالمطاردات البوليسية في شوارع نيويورك المخيفة. ويبدو أنه فعل ذلك بكل إرادة وشغف، فلم يقتد بِسُنَّةٍ غير محمودة لعددٍ من مخرجينا الذين تنقصهم الشجاعة، والذين يتجنبون المدن التي يصعب فيها التصوير وتصعب فيها إدارة الممثلين، وباتوا يحتمون بالجنوب الكبير وديكوراته الآمنة. فما الذي دار في ذهن مخرجنا حتى بدت عاصمتنا المضيئة، في فيلمه هذا، مختزَلة ومظلمة لهذا الحد؟

   تصعب مهمة مخرجي أفلام الجريمة إن كانت قصصهم تجري في ديكورات سياحية، جميلة ومشمسة (تحت ظلال الأشجار الجميلة في حديقة الحامة مثلا، أو في أفنية القصور العثمانية المطلة على البحر)، لأن المُشاهد المُحبَّ لهذا النوع من الأفلام يطالب بحقه من مشاهد العتمة والتشويق والضغط النفسي مثل التي يجدها في الفيلم الامريكي "تاكسي درايفر" عن شاب منعزل ينهار شيئا فشيئا في غياهب الجريمة أو الفيلم الإيراني " ليالي مشهد" وقاتله المتسلسل الحريص على الآداب العامة والذي يقترف جرائمه ليلا أو سلسلة أفلام "باتمان" ومدينته الداكنة، بناطحات سحبها المسببة للغثيان وشوارعها الموحشة وأشرارها الذين لا يرحمون. ولذا، اعترف المخرج في تصريح لجريدة الوطن، بأن ما كان يهمه هو إنجاز فيلم حركة وجريمة تدور حوادثه ليلا في العاصمة، وأنه الآن سعيد بالنجاح في مسعاه وسارع للادعاء بأن الفرنسيين أنفسهم لا يحسنون صناعة هذا النوع من الأفلام بخلاف الامريكان والكوريين الذين لا يخفي إعجابه بهم. وتحضر هنا مقولة للممثل الامريكي "لي مارفن"، وحش أفلام الحركة والجريمة، حين حاوره صحفي مجلة "بروميار" بمناسبة صدور " صهد"، الفيلم الفرنسي الرتيب الذي لعب بطولته العام 1984، وسأله إن كانت مدن أوروبا صالحة لتصوير أفلام الجريمة فأجاب بالنفي القاطع والساخر، وبرر ذلك بكونها مخضرة أكثر من اللازم، بمعني ريفية وهادئة أكثر من اللازم! وإذن، فإن مشاهد العتمة الطاغية في فيلم بن دياب تبدو مقصودة ومبررة لأنه أراد من خلالها إضفاء أجواء من الخطر والرعب والإثارة كالتي تحدث في أفلام الجريمة وكالتي يدعي أنها تحدث ليلا في كل عواصم العالم.

   وهناك أيضا مشكلة كبيرة لا يمكن إخفاؤها. إنها مشكلة ضعف الأموال التي رُصِدت للتصوير. لقد صرح المخرج بعد ذلك أنه اضطر للاستدانة واستعمال كل مدخراته لإنتاج العمل. ويمكن أن نخمن أن العديد من الفنيين والممثلين عملوا معه بأجور زهيدة، لأنه حرص على تقديم الشكر لهم وذكر أسمائهم بالتفصيل في جينيريك النهاية. كما أنه كتب السيناريو وحده وأنتج الفيلم ثم أخرجه ووضع موسيقاه، مُذكِّرًا فيما يبدو، بكلينت إيستوود، الذي ينبغي أن نعود لفيلمه العظيم "ميستيك رايفر" الذي تبدأ قصته بعملية اختطاف لطفل قاصر في حي سكني فقير، متعب ومرهق، بمدينة "بوستن"، من بين أكثر مدن العالم غرقا في العنف والاجرام والمخدرات، حتى وإن كان بن دياب يفضل أن يُذكَّرَ بأحد مؤسسي الأفلام السوداء في العالم، عملاق السينما اليابانية "أكيرا كوروساوا" وفيلمه الكبير "يوجيمبو".

   للأسف، إن ضعف الميزانية مؤثر وبادٍ في كل المشاهد أو في أغلبها على الأقل. فبخصوص الإضاءة الضعيفة، لا يمكن أن نتحجج بكونها ضرورية لوصف حوادث الفيلم التي يجري أغلبها في الليل، لأن المخرج لم يستطع أن يوفر، فيما يبدو، الأموال والمعدات التي تمكنه من التقاط صور على قدر مقبول من الجمال والنقاء. وكذلك الأمر في بعض المشاهد التي تبدو مبتورة وغير كاملة، وفي بعض الاستنتاجات التبسيطية والمكررة، وبعض المواقف والحوارات التي تخلو من العمق، هذا، على الرغم مما بُذِل من جهد واضح وغير مسبوق في التطرق إلى نفسية رجال الأمن المتأرجحة بين مشاعر الضجر والكآبة من جهة ومشاعر الواجب والأخلاق من جهة أخرى، وهذا الأمر وحده كَفَى لتمكين العمل من التمتع بصدقية كبيرة، خالية من مظاهر التزلف والسطحية. ولعل كاتب السيناريو جنح منذ البداية إلى نوع من الاقتصاد لأنه كان يعلم أن لن يتحصل على الأموال الكافية لتصوير عمله لو رفع سقف طموحاته كثيرا. المفارقة أن الفيلم، على الرغم مما سبق من عوائق، وعلى الرغم مما بدا من هنات، خرج للقاعات مثيرا ومشوقا وجديرا بالاحترام.

   ولا شك أن بن دياب في منتهى سعادته الآن، سعيدٌ بالنتيجة المحققة وباختيار فيلمه لتمثيل الجزائر في مسابقات الأوسكار. ولا شك أن موهبته لن تبطئ بالتفجر في قادم أفلامه وأنه سيتمكن من الحصول على ظروف عمل أحسن بعد أن أقنع المشاهدين والموزعين معا، لأنه بَرْهنَ بهذا الفيلم الفعال والبسيط أنه جدير بالثقة ... وأن لديه ما يقول.

 

 

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services