267

0

ياسر عرفات.. القصيدة التي لم تُغلق دفّتها بعد

بقلم الحاج بن معمر

في صمت العالم حين ينام على أوجاعه، يظلّ اسم ياسر عرفات يهمس في ذاكرة الأرض، فيجدف فوق الزمن كما يجدف النهر على الصخور ليكتب التاريخ بدمه وكرامته. لم يكن عرفات رجلاً عادياً، لم يكن زعيمًا فقط، بل كان نصًّا حيًّا يقرأه كل طفل فلسطيني قبل أن يقرأه المؤرخ، وكل شجرة زيتون تهمس باسمه في كل ركنٍ من أركان فلسطين. منذ لحظة الولادة الأولى في القاهرة، حتى رحيله الأخير في باريس، كان يعيش في القلب كصوتٍ لا يُخمد، كقصيدةٍ تتفتح على الألم والأمل معًا. الكوفية التي ارتداها لم تكن مجرد قطعة قماش، بل شهادة على عزته، على الوجع الجماعي، على التزامه بأن لا يسقط الحلم من أعين شعبٍ عانق الصبر منذ أزل.

في الجزائر، تلك الأرض التي عرفت كيف تصغي إلى الأحرار، أعلن عرفات قيام الدولة الفلسطينية، هناك حيث احتضنت الصحراء الثورة واحتوت الواحات الحلم. الجزائر لم تكن مجرد مساحة جغرافية، بل كانت حضنًا للكرامة وملاذًا لكل من حمل قضيته على القلب قبل أن يحملها على السلاح. لقد خاطب العالم من هناك، وقال للعالم أن فلسطين ليست مجرد أرض، بل نبضٌ وضميرٌ وذاكرة، وأن الشعب الذي فقد وطنه لم يفقد حلمه. إن إعلان الدولة الفلسطينية من الجزائر لم يكن خبرًا في صفحات الجرائد، بل كان صرخة أملٍ تتردد بين جبال الأوراس وسواحل البحر المتوسط، وتنسج خيوط الحرية بين كل قلبٍ يرفض أن يسقط الغصن من يديه.

في التسعينيات، حين كانت دماء الشعب الفلسطيني تتساقط في غزة والضفة والشتات، كان عرفات واقفًا في بيروت، يرفع صوته في وجه الموت، يقول: "جئتكم بغصن الزيتون وبندقية الثائر"، كان يعرف أن الكلمة أقوى من كل بندقية حين تُكتب بالصدق، حين تحمل القلب قبل اليد. وها هو يقف في الأمم المتحدة، متحدثًا باسم ملايين الأطفال والنساء والشيوخ الذين لم يعرفوا سوى الظلم، يرفع راية فلسطين على أعلى منصات العالم، ويجعل من صمته أداة احتجاج أكثر نفاذًا من أي صاروخ. في خطابه ذاك، كان الشعر يتسلل بين الكلمات، فتنبعث صورة الأرض المحترقة، وتشرق شمس الأمل في وجوه من لم يروا وطنهم إلا في الحلم.

لم يكن عرفات يسعى للشهرة، بل للوجود، وللكرامة، وللفلسطين التي تسكنه قبل أن تسكن الجغرافيا. لقد عاش سنواته بين حصار رام الله، وبين مؤامرات الداخل والخارج، ومع ذلك لم يزل يحمل البسمة في عينيه، كأن الأرض نفسها تتنفس من صموده. كان يعرف أن النصر لا يُقاس بالحدود أو بالبندقية، بل بالقدرة على جعل الذاكرة حيّة، على تحويل الألم إلى صمود، وعلى كتابة الحلم على الجدران التي حاولت الإشارة إلى الهزيمة.

في قلبه فلسطين، وفي عينه العالم. لم يكتفِ بأن يكون زعيمًا، بل كان رمزًا إنسانيًا يتجاوز الجغرافيا والزمان. حروف اسمه تتناثر بين الكتب، بين الأغاني، بين الحكايات التي يرويها الشيوخ للأطفال في المخيمات، بين القصائد التي كتبها الشعراء تخليدًا لرحلة رجلٍ جعل من الوطن قصيدة، ومن المقاومة نشيدًا لا يموت. في كل زاوية من زاوياته، كانت فلسطين تتحدث بصوت عرفات: عن الحجارة، عن الزيتون، عن الأطفال الذين يعرفون الحلم قبل أن يعرفوا العنف.

وكانت الجزائر، كما عرفها، أكثر من مجرد دولة صديقة. كانت الذاكرة التي احتوت الحلم، كانت الأرض التي جعلت من إعلان الدولة الفلسطينية حدثًا إنسانيًا قبل أن يكون سياسيًا، وكانت صديقًا لفلسطين حين غابت أصوات العواصم الأخرى. لقد رفع العلم الفلسطيني في قلب الجزائر، ووجد فيها صدى الحلم الذي لا يعرف الانكسار. ولم يكن هذا مجرد رمز سياسي، بل تأكيد أن الحرية لا تُمنح، بل تُصنع مع الأرض والضمير والشجاعة.

في حياته الشخصية، كان عرفات مثقفًا واسع الاطلاع، عاشقًا للقراءة والتاريخ، متأملًا في الشعر والفلسفة، يدرك أن الكلمة أقدر من الرصاصة حين تُرفع باسم الحق، وأن القلب أوسع من كل قصرٍ سياسي. الكوفية على كتفه، القبعة الخشبية على رأسه، لم تكن مجرد زيّ، بل امتدادًا لشخصه، لكل قصة نُسجت في فلسطين منذ النكبة وحتى زمن حصار رام الله. لقد ترك بصمة لا تُمحى على كل من عرفه، وعلى كل من قرأ سيرته، وعلى كل من حاول أن يفهم معنى الصمود الحقيقي.

وعندما نتحدث عن حصاره في رام الله، نتحدث عن رجلٍ عاش أكثر من شهرين في مبنىٍ محاصر، بين القصف والتهديد والموت، ومع ذلك ظلّ يقاوم بالكرامة وبالابتسامة، وبالرسائل المكتوبة، وباللقاءات التي أراد لها أن تكون صدى للحرية قبل أن تكون سياسية. كان يعرف أن المقاومة ليست فقط في السلاح، بل في القدرة على الحفاظ على الأمل حيًّا، وفي القدرة على تحويل الحصار إلى شهادة على الإنسانية.

وعند الحديث عن شواهد شخصه، يجب أن نذكر صموده في بيروت أثناء الاجتياح، مسيرته منذ شبابه في حركة فتح، مقاومته للنكسة، تحمّله لكل الاختبارات التي مرت بها القضية الفلسطينية، وفهمه العميق بأن فلسطين ليست مجرد أرض، بل ضميرٌ حيٌّ للإنسانية. كان يعرف أن الشعب العربي لا يمكن أن ينسى، وأن التاريخ يسجل أسماء الذين حملوا الحلم على عاتقهم، وأن القلوب الصغيرة التي تتفتح في المخيمات هي الميدان الحقيقي للمقاومة.

وفي قلب كل هذا، لم ينسَ عرفات الجانب الإنساني، كان يستمع للأطفال في المخيمات، ويقرأ رسائل النساء، ويبتسم للشيوخ الذين عاشوا النكبة منذ الصغر. كانت فلسطين في نظره أكثر من وطن، كانت رسالة، وكانت قصيدة لم تُكتمل بعد، وكانت الجزائر مكانًا لولادة هذه الرسالة، حيث أعلن الدولة الفلسطينية وسط تضامن شعبي وروحي، وجعل من الكلمات جسرًا بين الحلم والواقع، بين الوجع والأمل.

في كل خطاب، كان يزرع الأمل، وفي كل لقاء، كان يحفر في ذاكرة الشعب الفلسطيني، ويذكّر العالم بأن الأرض لا تُشترى ولا تُباع، وأن الحق لا يُقاس بالقوة، بل بالاستمرارية والصبر والمثابرة. من الأمم المتحدة إلى المخيمات، من الجزائر إلى رام الله، كانت فلسطين تسري في دمه كما تسري اللغة في الشعر، وكما يتنفس الطفل حلمه قبل أن يعرف الواقع.

لقد ترك عرفات إرثًا يتجاوز السياسة، إرثًا إنسانيًا، قصيدةً لا تنتهي، رسالةً لا تموت، رمزًا يظل حاضرًا في كل قلب فلسطيني وعربي. ومن هنا يظل صوته حيًا، وصموده مثالًا، وعمله جسرًا بين الأجيال. كانت الجزائر الشقيقة جزءًا من هذا الجسر، الأرض التي احتضنت الحلم، والذاكرة التي رفعت علم فلسطين، وأظهرت للعالم أن الحرية تحتاج إلى صديق حقيقي قبل أن تحتاج إلى اعتراف رسمي، وأن الكرامة لا تُشترى إلا بصبر الرجال الذين يكتبون التاريخ بدمائهم وبأرواحهم.

وعندما نفكر في رحيله، لا نفكر في الغياب فقط، بل في الحضور المستمر. ياسر عرفات لم يرحل لأن الذين يشبهونه لا يموتون، بل يتحولون إلى ذاكرة حية، إلى قصيدة طويلة، إلى صرخة أمل تتردد في وجدان كل طفل فلسطيني، وفي صوت كل شاعر يحاول أن يكتب عن الحرية. كانت صورته معلقة في كل مكان، في المخيمات، في المدارس، في صفحات الكتب، وفي قلوب كل من عرفه أو سمع عنه، لأن الحلم الذي حمله أكبر من الجغرافيا، وأقوى من الزمن، وأطول من العمر.

سلام عليك يا أبا عمار، يا من علمتنا أن فلسطين ليست قضية فقط، بل نبض وإنسانية، سلام عليك وأنت الذي جعلت من الكلمة بندقية، ومن الغصن درعًا، ومن الحلم وطنًا. سلام عليك وأنت الذي لم تهزم رغم كل الحصار، ولم تنكسر رغم كل المؤامرات، وأثبت للعالم أن الصمود أسمى من كل اتفاق، وأن الكرامة أغلى من كل عرش. سلام عليك وأنت الذي زرعت فلسطين في كل قلب عربي، وأعلنت للعالم أن الحرية ليست حلمًا عابرًا، بل حق لا يزول.

سلام عليك يا ياسر، يا القصيدة التي لم تُغلق دفّتها بعد، يا الصوت الذي يستمر في العبور من الجزائر إلى القدس، من المخيمات إلى الجامعات، من القلب إلى القلب، لتظل فلسطين حيّة في ضمير كل إنسان، ولتظل الكوفية على كتف كل طفل يعرف أن الحرية تبدأ بحلم صغير، وأن الحلم الكبير لا يموت، وأن كل دمعة على الحجارة تثمر يوماً شجرة زيتون جديدة، وكل كلمة تُكتب من القلب تصل إلى الأفق، وكل روح صامدة تكتب التاريخ قبل أن يكتبه الزمن.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services