637
0
طيف محمد قطب في ذكراه العاشرة
د. محمد مراح .
الأستاذ محمد قطب رحمه الله تعالى } 26 أبريل 1919 ـــــــــ أبريل 2014 } أحد أسرار الله تعالى في أرضه ؛ فقد أناط به سبحانه وتعالى وظيفة عليا، مزجت العلم والعاطفة مع إشراقات الفطرة، فوهبت مسلمي العصر "مُجَسّم" مستقبلهم في العالم.
بِضَمّ القطبين سيد ومحمد رضي الله عنهما توفرت لمسلمي العصر "الرؤية/ التصور الإسلامي "؛ التي هي وفق الإدارة الحديثة المحطة الأعظم في التخطيطات الكبرى والمشروعات في عصرنا، ومنها وعليها ينبثق ويُشَيد كل شيء، ويقاس ويقيم وويطور وهكذا.
ما كان لعطاء غير عطائهما في الفكر الإسلامي المعاصر أن يكون عوضا عنه اللهم إلا عطاء الإمام الوتد المودودي رضي الله عنه في "الرؤية".
لولا هذا الفتح الرباني الذي غمرنا كسائر الشباب المسلم خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين ،ما كان هناك أي ضمان لِتَحَقّقِ الصفة الإسلامية السوية المشروعة المستدامة، مهما يكن المصدر . إنه الفتح الذي دافع العصر بقوة وعتو وفتوة وعنفوان إتجاهاته ومدارسه الفكرية والفلسفية و سطوة أيديولوجاته، التي حددت للبشرية شخصيتها الحضارية بل والوجودية .فحفر هذا الفتح للإسلام والمسلمين ثِبَاتَ إمكانهم الحضاري .
إن جيل الصحوة الإسلامية المباركة في العالم العربي (أخص جيل السبعينيات والثمانينيات في الجزائر }ـ كان جيلا قطبيا في المقام الأول لما كان لمؤسسيه من التأثير والقيادة الفكرية والتوجيه العقائدي ، والاستلهام الروحي ، أي الإمامة العقائدية والفكرية والروحية والتربوية . فقد كانت المدرسة القطبية بركنيها المتينين المكينين: الشهيد سيد قطب والأستاذ المربي والمفكر محمد قطب تَصَدُّر منابع التوجيه ، وصياغة الشخصية الشبابية الحركية الدعوية ، لتصطف باقي المرجعيات الحركية والفكرية الكبيرة والجليلة إلى جانب القامتين الشامختين ( القطبين )، بعدئذ في التكوين والترشيد، والبناء الإسلامي الراشد .
فقد كان الإلهام القطبي برمزية الفداء ممثلا في الشهيد الكبير سيد رحمه الله ، والإلهام الفكري التربوي ممثلا في الأخ الأصغر المربي والمفكر الحصيف محمد قطب رحمه الله تعالى.
و لوجه الحق أقول : لو حللت قناعاتي الفكرية كسائر جيلنا ثقافيا وفكريا ودعويا، ومصطلحاتي التخاطبية في عرض القضايا الإسلامية ، والرؤية الثقافية والفكرية ، والحيز المنهجي الذي تتحرك فيه مخرجاتي الفكرية والثقافية ، لَوَجَدْتُها في أسسها وإطارها بل وكثير من تفاصيلها في دائرة المنهج القطبي بركنيه.
لقد تحول ذاك المنهج الكريم في اللسان التخاطبي ، ونمط التفكير لدى جيلي من شباب الصحوة الإسلامية المباركة إلى مسلمات ، ينظر لكل الحياة من خلالها ، وبمقتضى مقولاتها ، وهداياتها .
كان للشهيد الكبير صياغة الرؤية والتصور ، وبناء القاعدة العقائدية بالصياغة المعاصرة المجددة لقضايا العقيدة والحياة ، فصار لدينا مفهوم ومقولات ( التصور الإسلامي للخالق والكون والحياة ) بمثابة علم العقيدة الذي يخاطب العصر بلغته ، ويكون الشخصية الشبابية المعاصرة تكوينا عجيبا يجمع بين المعتقد و منهج الدخول في الحياة بمنهج جديد للتغير .
وعلى خط التربية الفكرية والثقافية والسلوكية ، والبناء النفسي والعاطفي ، وحتى الفني، تمتد حركة النور القطبية في إشاعة أنوارها في سماء الشباب وحياتهم .
فقد حصنتني وجيلنا كتب المفكر والأستاذ العملاق محمد قطب ــ رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة ورفعه لمقام الصِدّقِين ـــــــ حصانة فكرية ونفسية متينة من كل المؤثرات العاتية للثقافات المباينة للمنهج الإسلامي الفكري والعقائدي التي كانت تعج بها سماء الثقافة العربية .تربيت عليها ثقافيا وفكريا ، في تعميق الرؤية الإسلامية للإنسان في توازنه العجيب المعجز كما صاغها الإسلام ترجمها للغة العصر ونمط الفكر فيه كتابه الفريد"الإنسان بين المادية والإسلام".
فتحت بصيرتي على عمق التأثير اليهودي في الثقافة العالمية وأهم علومها الإنسانية من خلال أكبر أقطابها {اليهود الثلاثة: فرويد ـ. ماركس ـ دوركايم } .
فأكتسبتُ الحصانةالفكرية اللازمة إزاء تيار الفلسفة المادية الجارفة التي كانت تحاول أن تكتسح مناهجنا التعليمية ، وفضاءنا الثقافي .
رسمت لي "منهج التربية الإسلامية" ج1،2 من منبعه الصافي ( الوحي ) ، بمنهجية عصرية بديعة ، تسلكك في دورة الحياة بزاد تربوي فعال ، يؤثر في الحياة والواقع ولا يتأثر به إلا في حدود ما هو إيجابي ؛ فالمنهج القطبي منهج حركي فاعل ، يتجه للواقع لتغييره جذريا ، وليس تصالح تطابق معه فضلا عن تبعية أو ذهول بدعاوى التسامح ، والعصرنة ، والتحضر ، وضغوط الواقع ، وغيرها من الأردية التي تفضى بالشخصية الإسلامية في النهاية إلى فقد الذات ، وضياع الرسالة ، وإنتقام السنن الإلهية .
أما صنمية العصر ، من خلال" جاهليته " في مفارقة عجيبة بين تطور علمي ، وهبوط أخلاقي ، ومادية طاغية ، فقد جمع متفرق الكشوفات عنها ، والتوعية بمخاطرها ، وخطورتها المدمرة على الوجود الإنساني ، ضمن كتابه البديع ( جاهلية القرن العشرين).
وللذين تعج أمخاخهم باستهجان هذا الوصف في قرن الحضارة التي يوحي لها غرورها وعنحهيتها أنّ تسعى جادة إلى تبديل جينات الإنسان ومادة خلقه ؛ يقول "آل غور" نائب الرئيس كلينتون ، ومرشح الرئاسة الأمريكية بعده نظير خصمه بوش الإبن في كتابه العجيب"المستقبل" وهو كتاب في جزئين مترجم للعربية ، أصدره المجلس الأعلى للثقافة والفنون ، المؤسسة الكويتية الوقور ضمن إصداراتها الشهرية الاستثنائية في العالم العربي "عالم المعرفة" يجب على من يحمل صفة مثقف أن يقرأه ؛ فلن يملك إن شرع في ذلك أن ينصرف عنه ، فضلا عن أن يقليه :" للمرة الأولى يخلق العالم الرقمي للبشر قدرة جديدة على تغيير تكوين الكائن البشري. التقاء الثورة الرقمية مع ثورة علوم الحياة لا يغيير فقط معرفتنا وطريقة تواصلنا، وطبيعة أعمالنا وطريقة تنفيذها فقط، بل بدأ يغيير تكويننا كبشر" ج2ص83. فإن "غزة" حملت للبشر قاطبة الجواب الفصل في طور مدنيتها الغربية الأخير . وأنطقت الفطرة الإنسانية اضطرارا في عقر دارها بالثورة على " جاهلية " إبادة " الطفولة " على مدار الساعة بمرأى العالم الذي أنشب وحوشه من ساسة الغرب أنيابهم وأظافرهم في أشلاء الفطرة / الطفولة، وتلذذ أشفق الظواري والكواسر مما فاقه فيه " بشر" مسافات بسنين ضوئية .
فكان من تأثيره في جيلنا رَ دُّ كل قول أو فعل أو سلوك ، أو نظام ، أو فكرة تُبَايِنُ المنهج الإسلامي إلى قالب الجاهلية الذي أبدعت في صياغته المدرسة القطبية صياغة بديعة ، أدّت دورها بفعالية في تلك الفترات المتسمة بطغيان الحضارة الغربية على فكر وسلوك وأنظمة الحياة في العالم العربي . فَخَلَّصَنَا المصطلح نفسيا وشعوريا وفكريا ، وكتاب الأستاذ محمد قطب تحديدا من عقدة المغلوب مولع باتباع الغالب وتقليده .
لقد صاغ وجداني الفني والأدبي كتاب " منهج الفن الإسلامي " ، فصار إمامي في الدعوة للأدب الإسلامي ، والعمل له ، وكتابة المقالات فيه ، والاهتمام به ، والترويج له . فقد وسّع به رحمه الله تعالى ما أسس له الشهيد سيد من مبادئ وأسس كبرى لنظرية الأدب والفن في الإسلام، لتمتد بعدهما كل الكتابات والإنجازات في هذا الفضاء الرحيب ، منطلقة من إنجازيهما الخالدين .
وفي مسار الرحلة القطبية المباركة ، كانت تغذوني كتابات الأستاذ محمد قطب رحمه الله تعالى، من خلال كتبه ذات المقالات المتنوعة، والموضوعات الهادفة، بتوسيع مداركي،والنهوض بتفكيري في قضايا الحياة والوجود ، بتيار لغوي سلس عذب ، متين ، مؤثر رشيق . يحمل إليك الفكرة فترتوي بها ، لتضمأ من قريب لمزيد منها .
فأنا مثل أكثر شباب الصحوة من جيلي ، فكريا وثقافيا ، ونظرة للحياة والوجود والكون، وحصانة إسلامية متينة، حصيلة قطبية في المقام الأول، لتأتي بعدئذ قافلة الحق المباركة من العلماء والدعاة والمفكرين ، فَيُرْسِي كلّ منهم مَبْنَاه في أرجاء الصرح الشامخ الذي شيداه .
رحمهما الله وأعلى منزلتيهما في مقام الشهداء والصالحين ومتعهما برفقة الأنبياء والمرسلين ، لما نصحا لأجيال كاملة كانت أُكْلَة مبذولة لحطام الدنيا ، وسماسرة جهنم .