475
0
ترامب في الخليج: أمن إسرائيل أولاً..وغزة تدفع الثمن

بقلم: بن معمر الحاج عيسى
لم تكن زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السعودية وقطر مجرد تحرك دبلوماسي عابر، بل جاءت كرسالة سياسية مشحونة بالرمزية والمضمون، في توقيت إقليمي بالغ الحساسية.
فبينما تشتعل غزة تحت نيران القصف، ويُدفع آلاف الفلسطينيين إلى حافة التهجير، وتتصاعد دعوات نزع سلاح الفصائل، يتحرك ترامب بين العواصم الخليجية حاملاً في جعبته أجندة تتجاوز الشكل البروتوكولي إلى جوهر الصراع في المنطقة.
إن هذه الزيارة تكشف عمق التحولات التي تشهدها العلاقات الأميركية–العربية، وتفضح التداخل القائم بين أمن إسرائيل، وبقاء الأنظمة الخليجية، وتصفية القضية الفلسطينية.
دونالد ترامب، الذي لطالما عرف بوضوح أجندته الموالية لإسرائيل، لم يُخفِ أهدافه خلال زيارته، بل أكد من خلال خطاباته ومحادثاته المغلقة أن أمن إسرائيل هو أولوية لا تقبل النقاش، وأن ثمن هذا الأمن يجب أن يُدفع من خزائن الخليج وعلى حساب الحقوق الفلسطينية.
وهنا، تبرز معالم صفقة خفية يُعاد ترتيب ملامحها بصمت: تطبيع شامل مع إسرائيل، إعادة هيكلة قطاع غزة سياسياً وأمنياً، فرض نزع السلاح على الفصائل، وتقديم حزمة من المشاريع الاقتصادية والإنسانية كبديل عن الحقوق الوطنية.
في السعودية، طرح ترامب شروطاً مغلفة بالوعود: استقرار النظام مقابل التطبيع، حماية من "التهديد الإيراني" مقابل تمويل مشاريع إسرائيلية غير معلنة، شراكة اقتصادية مقابل القبول بالحلول الأميركية للقضية الفلسطينية التي تبدأ من غزة ولا تنتهي عند القدس.
أما في قطر، فالمعادلة كانت أكثر تعقيداً، ترامب يعلم أن لقطر علاقات متشعبة مع الفصائل الفلسطينية، وأنها تلعب دوراً محورياً في التمويل الإنساني والإعمار في غزة، لكنه أيضاً يعلم أن الضغط على الدوحة قد يفتح الباب أمام دور "معدّل" لها، بحيث تتحول من حاضنة للفصائل إلى وسيط في مشروع نزع السلاح وإعادة هيكلة السلطة في القطاع.
هنا لا بد من الإشارة إلى البعد الأخطر للزيارة، وهو محاولة فرض واقع جديد في غزة، يبدأ من تحييد الفصائل، ويمر عبر التهجير القسري، وينتهي بتفكيك المقاومة وتحويل القطاع إلى كيان منزوع الإرادة.
ففي ظل التصعيد الإسرائيلي المستمر على غزة، وارتفاع وتيرة القصف والاستهداف، لا يبدو أن ما يحدث عشوائي أو عرضي، بل هو جزء من خطة أكبر تديرها تل أبيب بدعم أميركي وتواطؤ إقليمي، هدفها إنهاء ما تبقى من الحالة الفلسطينية الثورية، وإعادة هندسة غزة تحت شعار "التهدئة مقابل الإعمار"، أو "السكوت مقابل الكهرباء والماء".
ما لا يُقال في العلن هو أن هناك صفقة تُطبخ على نار هادئة، قوامها أن تعيش غزة في فقر منظم وسكون قسري، وتُغذى بمساعدات مشروطة تأتي من الخليج بيد، وتنتزع منها أدوات الدفاع والمقاومة باليد الأخرى.
ترامب، من خلال هذه الزيارة، أراد أن يؤكد بأن زمن الدعم غير المشروط للفلسطينيين قد انتهى، وأن واشنطن لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي مقاومة فلسطينية تُهدد أمن إسرائيل، حتى لو كان ذلك يعني تهجير مئات آلاف السكان، أو قصف المستشفيات والمدارس، أو فرض حصار قاتل.
الخليج من جانبه، بدا منقسماً: بعضه يتجه لتقديم الطاعة الكاملة مقابل الحماية، وبعضه يحاول التوازن بين قضايا الأمة وتحالفات المصالح، لكنه في المحصلة يدفع الثمن من صورته ومن ثقته لدى شعوبه، التي ترى في التطبيع خيانة، وفي التواطؤ على غزة سقوطاً أخلاقياً.
أما الخلفيات غير المعلنة للزيارة، فتتعلق بشكل أساسي بالاقتصاد والهيمنة، فترامب يدرك أن مبيعات السلاح إلى الخليج لا يمكن أن تستمر دون تهديد دائم، وأن استمرار الوجود الأميركي العسكري في المنطقة يحتاج إلى ذريعة، وبالتالي فإن بقاء إيران كفزاعة، وغزة كمصدر دائم للتوتر، يُبرر للولايات المتحدة كل قواعدها وتحركاتها وابتزازاتها المالية.
كما أن المشاريع الضخمة التي يُروّج لها، سواء في الطاقة أو البنية التحتية، ليست سوى وسائل لربط الخليج بإسرائيل اقتصادياً تحت عباءة أميركية، وتحويل المنطقة إلى سوق موحد يخدم الرؤية الصهيونية للمنطقة الممتدة من النيل إلى الفرات، ولكن بطابع جديد أكثر حداثة وأقل ضجيجاً، وفي النهاية، فإن كل هذه التحركات تضع القضية الفلسطينية في مهب الريح.
ما يجري ليس مجرد تطبيع علاقات، بل تطبيع للاحتلال، وشرعنة للتهجير، ومحاولة لإعادة تعريف الشعب الفلسطيني ككائن اقتصادي يعيش على المساعدات، لا كقضية تحرر وطني.
زيارة ترامب كانت بمثابة إعلان غير رسمي عن دخول مرحلة جديدة، عنوانها: "الشرق الأوسط الجديد" حيث يُعاد توزيع الأدوار، ويُرسم الأمن الإقليمي بما يخدم أمن إسرائيل أولاً وأخيراً.
في هذا السياق، تصبح غزة عبئاً يجب التخلص منه، وتتحول المقاومة إلى هدف يُجرّم ويُجتث، وتُستبدل الهوية الوطنية الفلسطينية بهوية إنسانية مجردة من أي حق سياسي.
هذه هي الحقيقة المرّة التي تنكشف تباعاً، والتي لا يمكن مواجهتها إلا بإرادة شعبية فلسطينية وعربية تقلب الطاولة على من باعوا القدس وغزة تحت مسميات الواقعية والبراغماتية والسلام.