75689

0

مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 144

بقلم اسماعين  تماووست 

"كان ذلك الوقت كأنَّه حفرة عميقة سقطت فيها القيم والمبادئ، واختفت معالم الإنسانية خلف ستارٍ كثيفٍ من الدخان والدم، كانت الجماعات المتطرفة أشبه بآلة حرب متوحشة، تدوس على الأسر دون رحمة، وتدمر كل ما يعترض طريقها،  لم يكن هناك تضامنا أو أصوات شجاعة تدافع عن الضحايا أو تدين الجناة بشكل علني وواضح، كأن الجميع ارتضى الصمت، وبقي كالمتفرج على مشاهد الموت وكأنها عرض سينمائي عابر.

اليوم، نكاد ننسى، نحن أبناء هذا الوطن، الأسباب الحقيقية التي أشعلت تلك الحرب المشؤومة. كان هذا التناسي أشد وطأة من الحرب نفسها، إذ جعلنا نغفل عن فظاعة الأضرار التي ألحقتها بنا تلك الحرب، التي أشعلها متمردون جهلة وغير مدركين لعواقب أفعالهم، حولت أرضنا إلى مسرح للفوضى والخراب، حيث لم يسلم  بيت من شرورها.

كان هؤلاء القتلة يعيثون في الأرض فسادًا، يتلذذون بسفك الدماء دون أي مبرر سوى الجهل المطلق والكفر بكل القيم الإلهية، لقد كانوا كأدوات شيطانية، يجرّهم الشر إلى التمرد على كل وصية إلهية، متسببين في انهيار كل ما هو مقدس وعادل، أفعالهم لم تكن سوى انعكاس لظلام نفوسهم، حيث استمتعوا  في انتهاك الحقوق الإنسانية الأساسية، بل دنسوا تعاليم الدين التي كانت تنبذ الفساد وتدعو إلى السلام.

في تلك اللحظة، كنت أقف وحيدًا، بين تقارير الجريمة وصراخ الضحايا، أتساءل: كيف وصلنا إلى هذا الدرك السحيق؟ 
كيف وصلنا  إلى أقصى درجات الانحدار الروحي الأخلاقي و المادي...
لم أكن أملك إجابات، لكنني كنت متأكدًا من أن العدالة ستنتصر يومًا ما، وأن أولئك الذين غرقوا في الظلام لن يفروا من عقاب السماء.

كان والدي، الذي فقدته وأنا في الخامسة من عمري، رمزا للنضال، ولكن لا ذاكرة لي عن كلماته أو وصاياه. ومع ذلك، شعرت أن غيابه كان صرخة خفية تخبرني أن أواصل البحث عن الحقيقة، مهما كان الثمن. ربما كان هذا السبب الوحيد الذي دفعني لأكون ما أنا عليه الآن: مفتشًا يسعى خلف العدالة وسط بحر من الفساد والدماء.

لكن العدالة، كما أدركتها لاحقًا، ليست مجرد قرار محكمة أو توقيف مجرم. إنها صراع داخلي بين أن تبقى إنسانًا في وجه الظلم، أو أن تتحول إلى وحش آخر في معركة لا نهاية لها. كنت أجد نفسي كل ليلة أمام مرآتي، أتساءل: هل ما زلت إنسانًا؟ أم أنني، مثلهم، أصبحت جزءًا من هذا العبث الدامي؟

في الحقيقة، لم يكن ذلك سوى مزيج من الجهل وفساد العقل وروح الانتقام، الذي دفعهم نحو طريق مظلم،  هذا الطريق سلبهم إنسانيتهم وقادهم  إلى مسار مدمر وأشد خطرًا، وكأنهم انقادوا لشياطين أُحيطت بهم ولم تترك لهم خيارًا سوى الانحدار الى هاوية الفساد.

كان من العبث حقًا أن يصل الأمر إلى هذا الحد، بل إلى هذه الحالة المدمرة والقاتلة، في الواقع، يرى البعض أن الإرهابيين كانوا ضائعين تمامًا، قد أعرضوا عن كل سبيل للحق والهداية، فانقادوا إلى طريقٍ بلا عودة، أكاذيب زعمائهم وخداعهم كانت كالنار التي تلتهم قلوبهم وعقولهم، تدفعهم بلا هوادة إلى أعماق الانحطاط والضياع.

ومع ذلك، فإن تدهورهم لم يكن مرتبطًا فقط بالجهل، بل كان نتيجة لعصيانهم الواضح للإله الحق، كما قال تعالى: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ" (سورة الرعد، الآية 17). إذ أن نفوسهم التي أغلقت أبوابها أمام الحق قد باتت ترزح تحت وطأة الشرور والأوهام. لقد خلعوا عن أنفسهم كل مظاهر الإنسانية واستبدلوها بطاعة عمياء لقادة مضللين، خدعوهم بأوهام القوة والسيطرة، فكأنهم أسلموا أنفسهم للشيطان يتحكم  بأجسادهم  وعقولهم، مصداقًا لقوله تعالى: "وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ" (سورة الزخرف، الآية 36). وهكذا، انحرفوا عن الطريق المستقيم، الطريق الوحيد الذي يمكن أن يقودهم إلى النجاة.

أعتقد أن ما حدث كان نتيجة عوامل مشتركة مرتبطة بالجهل العميق، بما في ذلك نقص المعرفة بالدين الحق، فقد قيل: "العقل زينة، ومن افتقده فقد افتقد ميزانه، والجهل عدو النفس، وهو أساس كل شر".
بالطبع،  كذلك كان وراء ذلك  أوهام السيطرة على السلطة والطمع في حياة أفضل، ثرواتهم كانت مكتسبة بطرق غير شرعية، إلى جانب جرائم أخرى خطيرة ارتبطت بشبح الإرهاب الذي لا يترك خلفه سوى الدمار.

لذلك، كنت غالبًا أتساءل عن اللغز الذي دفعهم للتحول إلى شياطين ملعونة، تقتل بلا سبب...

إرهابيون ليسوا مجرد أعداء للبشرية؛ إنهم يشكلون تهديدًا وجوديًا يتجاوز التهديدات التقليدية. لقد خرجوا تمامًا من إطار الإنسانية، ليصبحوا كائنات مشوهة لا تعرف إلا العنف والدمار.

هؤلاء الأفراد الذين كانوا في يوم من الأيام جزءًا من النسيج الاجتماعي، تحولوا إلى وحوش تمشي على الأرض، يحملون في أعماقهم شرًّا يلتهم كل ما يواجهه، لم يكن تحولهم إلى هذه المخلوقات الوحشية محض صدفة، بل كان نتيجة لتراكم طويل من الانحرافات الفكرية، والدينية، والاجتماعية التي اختاروا أن ينجرفوا إليها.

لقد نجحوا في تغيير هويتهم الإنسانية، وخلقوا لأنفسهم عالمًا موازيا مليئًا بالضلال والغدر. وفي هذا العالم الذي صنعوه بأيديهم، لا مكان للرحمة أو الشفقة، بل تتربع فيه الكراهية والتدمير كقيم أساسية، هؤلاء الأشخاص الذين انقادوا وراء أكاذيب قادتهم وزعمائهم المضللين، أصبحوا مجرد أداة في يد شياطين البشر الذين أقنعوهم أن كل ما يفعلونه هو في سبيل "الحق".

ما يجعل هذا التحول أكثر إيلامًا هو أنه لم يكن نتاج جهل بسيط، بل كان ثمرة جهد مدروس ومخطط له. كان هؤلاء الأشخاص يعانون من فراغ داخلي عميق، وهو ما دفعهم إلى التعلق بأفكار مغلوطة تغذيها مشاعر العجز والرفض للأوضاع التي يعيشون فيها. 

لم يكونوا في حرب مع أعداء خارجيين فقط، بل كانوا في حرب داخلية مع أنفسهم، صراعًا بين ما كانوا عليه وما أرادوا أن يكونوا عليه، لكنهم اختاروا في النهاية أن يتخلوا عن إنسانيتهم.

ومع ذلك، فإن القصة لا تتوقف عند هذا الحد. هؤلاء الأفراد، الذين وقعوا في شراك الخداع والتضليل، اختاروا أن يبتعدوا عن الطريق المستقيم، ليذهبوا في طريق آخر مظلم مليء بالدماء والدمار. إنهم لم يفهموا أن الإرهاب ليس مجرد فعل مادي، بل هو حالة ذهنية وروحية تؤدي إلى انعدام القيمة الإنسانية، لقد فقدوا كل ارتباط بالواقع، وأصبحوا أسرى لأساطير زائفة وتصورات مشوهة.

عندما أتأمل في هذا الانحراف الكبير، أتساءل دائمًا عن الأسباب الحقيقية التي دفعتهم إلى هذا المسار، هل كان ذلك بسبب جهلهم، أم كان هناك شيء أعمق؟ ربما كان ذلك نتيجة لمجموعة من العوامل التي تضافرت في الوقت نفسه: الفقر، العزلة، فقدان الأمل، والتهديدات التي لا تنتهي من قادتهم الذين وعدوهم بمستقبل مشرق في عالم مثالي، سرعان ما تبين أنه مجرد سراب. كانت هذه هي البداية التي أدت بهم إلى القاع، حيث لا يوجد سوى العنف.

وقد قال الله في كتابه الكريم: "إِنَّ اللّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (الرعد: 11). إنهم لم يدركوا أن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، وأنهم إذا لم يغيروا أنفسهم، فلن يمكنهم أبدًا أن يغيروا العالم من حولهم. كانت عقولهم مغلقة أمام النور، وقلوبهم مملوءة بالظلمات، لدرجة أن أصوات العقل والضمير لم تعد تجد مكانًا في قلوبهم.

أصبح هؤلاء الأفراد مثل آلات قاسية، يقتلون دون أن يشعروا بأي ندم. قتلوا باسم الدين، بينما كان الدين منهم براء. قتلوا باسم الجهاد، بينما كان الجهاد يشير إلى الدفاع عن الحياة والعدالة، لا إلى سفك الدماء وتدمير الأرواح. وبدأت الحقيقة تظهر ببطىء، وكأنها تشق طريقها بين الظلال: العنف لا يولد سوى العنف، والدم لا يمكنه أن يغسل نفسه بدماء جديدة.

وفي ذلك الوقت، كان من الصعب أن نفهم كيف تحول هؤلاء الأشخاص الذين كانوا في يوم من الأيام جزءًا من مجتمعاتنا إلى أدوات للدمار. لكن، الحقيقة كانت واضحة: هؤلاء لم يكونوا سوى ضحايا أنفسهم، الذين اختاروا الانخراط في دوامة العنف بدلًا من مواجهة واقعهم بشكل سلمي. كانت حجتهم في ذلك أنهم يسعون لإقامة "العدالة"، لكن العدالة لا تتحقق إلا بالرحمة، ولا يمكن بناء المستقبل على أنقاض الماضي المدمر.

لقد أدركنا، كرجال أمن ومواطنين، أن محاربة الإرهاب ليست مجرد مسألة قتال بالأيدي، بل هي معركة ضد الأفكار التي تغذي هذا العنف. وكما قال القرآن الكريم: "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا" (الإسراء: 81). وقد كان هذا هو سر قوتنا في مواجهة هذا الظلام؛ أن الحق مهما تأخر، فإنه في النهاية يهزم الباطل.

 يبقى الأمل في أن نعلم أنفسنا والأجيال القادمة أن الطريق إلى التغيير يبدأ من داخل كل فرد، وأنه لا يوجد مبرر لأي شكل من أشكال العنف. ونحن، كأفراد، يمكننا أن نعيد بناء مجتمعنا على أسس من المحبة، والاحترام، والعدل، وأن نتجاوز هذه الحقبة السوداء من تاريخنا التي حاولوا فرضها علينا.

يتبع...

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services