459
0
تحت شعار "رانا نسترزقوا" مهن صيفية تغري الأطفال بدل الترفيه

نسرين بوزيان
"محاجب سخونين وحارين …البينيي البينيي ... أتاي أتاي سخون!" عبارات مألوفة تتردد صيفا على طول الشواطئ، يصرخ بها أطفال بائعون يجوبون الرمال الحارقة ذهابا وايابا، تجدهم يحملون على سواعدهم الصغيرة صواني مليئة بالمأكولات السريعة، ووجبات خفيفة مثل “المحاجب” ووآخرون يعرضون خدمات كراء الكراسي والمظلات للمصطافين، بينما يسحب بعضهم عربات مملوءة بالمشروبات الباردة، أو يبيعون مستلزمات السباحة وألعاب الأطفال، وإن اختلفت تفاصيل المهنة ، إلا أن الغاية واحدة.
تراهم صغار السن، ولكنهم كبار في الهمّة، يقطعون الشاطئ عشرات المرات يوميًا تحت لهيب الشمس، بحثا عن رزق لا يكفي سوى لسد بعض الحاجيات اليومية أو المساهمة في شراء لوزام الدراسة مع اقتراب الموسم الدراسي.
وفي جولة ميدانية قامت بها " بركة نيوز " إلى أحد شواطئ العاصمة ، اقتربنا من عدد من هؤلاء الأطفال والتقينا بهم، حيث تناثرت من أفواههم عبارات صادقة تعكس براءتهم من جهة، وشعورهم المبكر بالمسؤولية من جهة أخرى "نحب نخدم من صغري"،"أنا نحب نتكل على روحي" ، "مصيرفة زايدة ".
مؤكدين أن سلعتهم تلقى رواجا لدى المصطافين، الذين يتعاملون معهم بلطف ولباقة، اعترافا ببراءتهم وصغر سنهم، وتقديرا لصدق مسعاهم.
رانا نسترزقوا
يقول لنا الطفل محمد، باللهجة الدارجة: "رانا نسترزقوا"، بهذه العبارة البسيطة والصادقة لخص وضعيته، ثم أخبرنا أن فكرة بيع قارورات الماء البارد خطرت على باله بعد أن لاحظ عدداً من أصدقائه في الحيّ يزاولون هذه المهنة على الشواطئ. فاختار بدوره بيع الماء البارد في علب خاصة تحافظ على البرودة لساعات طويلة تحت لهيب الشمس.
ويضيف محمد أنه يسعى من خلال هذا العمل الموسمي إلى تحقيق هدفين أساسيين: شراء هاتف نقال خاص به، وتوفير مستلزمات الدخول المدرسي، لتخفيف العبىء عن والديه.
خدمت باش مانقولش لبابا اعطيني
أما الطفل إقبال، فقد كانت هذه أول تجربة له في خوض غمار العمل الصيفي، لم يكن الأمر سهلا في البداية، لكنه اتخذ قراره عن قناعة، وبدأ ببيع مأكولات خفيفة مثل " المحاجب"التي تعد وجبة مفضلة لدى المصطافين.
هدفه كان بسيطا في ظاهره، لكنه عميق في معناه تمثل في تغطية مصاريفه اليومية بنفسه، دون أن يثقل كاهل والده بطلبات متكررة. .
قال لنا إقبال، بنبرة بريئة وصادقة: "خدمت باش مانقولش لبابا اعطيني."
موضحا أن الإقبال على شراء المحاجب يزداد بشكل ملحوظ في يومي الجمعة والسبت، في هذين اليومين يحقق ربحا كبيرا مقارنة بباقي أيام الأسبوع.
وأضاف لنا إقبال، بكل عفوية وصدق، أن ما يحصل عليه من أرباح يتفاوت يوميا بين 200 إلى 1500 دينار، وهو مبلغ يعتبره مصدرا مهما لمصروفه اليومي ولتغطية بعض احتياجاته الشخصية.
دعم جمعية "البركة"
سعد الدين، طفل آخر امتهن بيع الوجبات الخفيفة المالحة على الشاطئ، لم يكن دافعه ماديا فقط، بل تأثر كثيرا بعبارة كثيرا ما تتردد على لسان أقرانه:
"متبقاش قاعد، اخدم على روحك."
هذه الكلمات كانت كفيلة بتحفيزه على الانخراط في العمل، ولكن الجميل في قصته أن سعد الدين لم يفكر في نفسه فقط، بل يخصص جزءا من أرباحه، مهما كانت بسيطة، لدعم جمعية "البركة"، وهي جمعية تعنى بمساعدة أطفال ونساء قطاع غزة، الذين يعانون ظروفاً صعبة تحت الحصار.
الطفل يضطر للكذب عن عطلته الصيفية
في حديثه لـ " بركة نيوز" أكد الخبير في الصحة النفسية، البروفيسور أحمد قوراية، على أهمية إعادة النظر في تركيبة الأسرة الجزائرية، مبرزا أن هذه الأخيرة كانت في الماضي تشكل "الدرع الواقي"، لأفرادها، و"الحصن الحصين"لحماية أطفالها. وأوضح أن الأسرة الجزائرية التقليدية كانت تقوم على أدوار واضحة، حيث كان الأب يوفر لقمة العيش، بينما كانت الأم تصون بيتها وتكتفي بما يجود به زوجها الذي كانت تراه "مول الدار"، لما له من مكانة وهيبة.
وأشار البروفيسور قوراية إلى أن الأمور انقلبت رأسا على عقب في وقتنا الحالي، حيث أصبحت النظرة المادية تطغى على التفكير الأسري، حتى ولو كان ذلك على حساب الطفولة.
وأبرز أن هناك أطفالا دون سن العاشرة يجبرون على بيع قوارير المياه في الطرقات ومحطات النقل، أو على الشواطئ لبيع مأكولات للمصطافين، في مشاهد صادمة.
وتابع قائلاً: "عندما تسأل الطفل لماذا يبيع؟ يجيبك: والدي عاطل عن العمل، أو يقول إن والده متوفي ولا معين للأسرة".
مؤكدا أن غلاء المعيشة لا يبرر بأي شكل حرمان الطفل من حقوقه في اللعب والترفيه كبقية أقرانه.
كما أوضح البروفيسور قوراية من الناحية القانونية، أن الجزائر كانت سباقة في المصادقة على الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحماية الطفولة، منها اتفاقية 1989، كما صادقت على الاتفاقية الدولية المتعلقة بأسوأ أشكال عمل الأطفال سنة 1999. وأشار إلى أن المشرع الجزائري جرم عمالة الأطفال، وسن قانون حماية الطفل رقم 15-12، إضافة إلى عدة تنظيمات تعزز هذه الحماية.
وأكد على أن مسؤولية إعالة الأسرة تقع على عاتق الأب، وليس على الطفل الذي لم يختر واقعه الاجتماعي.
ونوه البروفيسور قوراية بأن الترفيه واللعب لهما دور كبير في تطوير الحياة النفسية والعقلية للطفل، ويساهمان في توازنه الاجتماعي، وبناء شخصيته وأناه الداخلية، مضيفًا أن "الحرمان من الطفولة يولد تعقيدًا نفسيًا"، وقد يؤدي إلى مشكلات مستقبلية مثل الانطواء.
مضيفا "حين يطلب من طفل أن يكتب موضوعًا عن ‘كيف قضيت عطلتك الصيفية؟، يضطر للكذب، ويتخيل حياة لم يعشها: بحر، سفر، حدائق ، بينما الحقيقة أنه قضى الصيف تحت لهيب الشمس يبيع الماء.
ودعا في الختام إلى توفير فضاءات للترفيه، ومساعدة الأولياء على أداء دورهم التربوي والنفسي، مؤكدًا أن مؤسسات الدولة والأسرة معًا، مسؤولون عن ضمان حياة طبيعية للطفل.
بناء مجتمع سليم على قيم إنسانية لا مادية
من جهتها، أبرزت المدير العام لمركز البحوث والتطبيقات النفسية، سميرة فكراش، أن ظاهرة استغلال الأطفال في البيع على الشواطئ والطرقات موجودة منذ سنوات، لكنها عرفت تغيرا في دوافعها.
ففي الماضي، كان الطفل يستغل للمساهمة في مصاريف المدرسة والعائلة خاصة لدى العائلات محدودة الدخل، أما اليوم، فأوضحت أن الظاهرة لا تقتصر على العائلات الفقيرة فقط، بل تشمل أيضًا عائلات ميسورة.
وأشارت إلى أن البعض حولوا عمل الطفل إلى مشروع استثماري، وأقنعوه بضرورة جني المال والنجاح المادي، مما أدى إلى تغليب القيم المادية على القيم الاجتماعية والإنسانية، وهو ما يفقد الطفل توازنه النفسي ويجرده من طفولته، بل ويدفعه احيانا إلى تبني سلوكيات تفوق سنه.
وأكدت فكراش أن هذا المسار يضع الطفل في مواجهة مباشرة مع سوق غير قانوني، ويؤثر على تطوره النفسي والاجتماعي، مما قد يؤدي إلى أزمات نفسية عميقة في المستقبل.
وشددت على ضرورة توفير بدائل ترفيهية حقيقية خلال العطلة الصيفية، مرفقة بحملات توعية داخل المجتمع، مع متابعة من طرف المصالح الاجتماعية للأطفال المنتشرين في الطرقات دون رقابة، خاصة تحت أشعة الشمس ودرجات الحرارة المرتفعة.
وختمت بالتأكيد على أن حماية الطفولة ضرورة لبناء مجتمع سليم، قائم على القيم الإنسانية وليس على الماديات.
تبقى هذه الظاهرة ناقوس خطر يستدعي توفير بدائل حقيقية للأطفال خلال فصل الصيف، تشمل فضاءات ترفيهية منظمة وآمنة، مخيمات صيفية مجانية أو مدعومة، إضافة إلى برامج تعليمية وأنشطة رياضية وثقافية متنوعة.