لم تعد المستشفيات وحدها شاهدة على وجع الإنسان، بل صار الجسد العربي نفسه مختبرًا مفتوحًا لكل أشكال الانهيار: الجسدي، النفسي، والأخلاقي.
الطبيب علي قدور، وهو من الأصوات القليلة التي ما زالت تصرخ من قلب الفوضى، يرفع صوته قائلًا إن الطب في جوهره لم يعد كما كان، وإننا في العالم العربي نُعالج الجسد بينما نترك الروح تموت.
تلك الصرخة ليست مجرد رأي مهني، بل تشخيص عميق لأمةٍ فقدت البوصلة بين ما هو علاجي وما هو إنساني، بين ما هو مهنة وما هو رسالة، بين الطبيب والإنسان.
اليوم، يقف الطب العربي أمام مرآة مكسورة، يرى فيها وجهًا شاحبًا بلا ملامح، بعدما اختُزلت المهنة في وصفة طبية، وأُقصيت الرسالة التي كانت تمنحها قداسة.
من أين يبدأ الانهيار؟ من التعليم أم من القيم؟ من المستشفى أم من المجتمع؟
علي قدور لا يبحث عن إجابات جاهزة، بل يُعيد السؤال إلى جوهره: «كيف يمكن للطبيب أن يشخّص علّة الجسد وهو عاجز عن فهم علّة الإنسان؟».
الجسد ليس منفصلًا عن النفس، ولا المرض حالة بيولوجية باردة، بل تفاعل معقّد بين الخوف والأمل، بين القهر والتعب، بين ما يُرى وما يُكتم.
لكنّ منظوماتنا الصحية صارت تُدير الإنسان كما تُدار الآلات: رقم في سجل، حالة في ملف، زمن يُقاس بعدد المرضى في اليوم، لا بعدد الأرواح التي استُعيدت إليها الحياة.
هنا تكمن المأساة. الطب في العالم العربي يعيش اليوم مرحلة فراغ وجودي.
فبين الطبيب الذي يُسابق الزمن ليبقى على قيد الأمل في قسم طوارئ مكتظ، والمريض الذي يُعامل كعبء إداري، تضيع العلاقة النبيلة التي شكّلت أساس هذه المهنة منذ قرون.
صارت المستشفيات مصانع للأجساد لا بيوتًا للرحمة.
صارت الشهادة العلمية بديلاً عن الضمير، والراتب بديلاً عن النداء الداخلي.
من هنا، تأتي حدة نقد علي قدور الذي يرى أن الطبيب فقد مكانته الرمزية، لا لأن علمه تراجع، بل لأن إنسانيته تقلّصت.
الطب، كما يقول، «ليس حرفةً تُمارس، بل ضميرٌ يُستيقظ كل صباح». إن الأزمة الصحية في جوهرها ليست أزمة معدات أو أدوية، بل أزمة رؤية.
حين يغيب الوعي الجمعي بأن الطبّ رسالة أخلاقية قبل أن يكون قطاعًا اقتصاديًا، يتحول الطبيب إلى موظف، والمريض إلى سلعة.
لذلك فإن إصلاح المنظومة الصحية لا يمكن أن يتحقق بالقرارات الوزارية ولا بتغيير المسؤولين، بل بتغيير الثقافة نفسها، الثقافة التي جعلت الطبيب عبدًا للمردودية والربح، بدل أن يكون رسولًا للرحمة والعلم.
في الغرب، لا يزال الطبيب يُربّى على فكرة "الضمير الطبي"، أي أن أول قسم يُؤدّيه ليس أمام الإدارة بل أمام الإنسان. أما في كثير من بلداننا، فقد صار القسم مجرد طقس شكلي يُلقى قبل أن يُنسى.
الطبيب الشاب يدخل المستشفى حاملاً حلم الإنقاذ، ثم يصطدم بجدران البيروقراطية والفساد، فيتآكل حلمه ببطء حتى يتحول إلى عادة يومية باردة.
علي قدور يصف هذا المشهد بمرارة حين يقول: «لقد حوّلوا الطبيب إلى موظف زائل، بينما الأصل أن يكون حاملًا لرسالة خالدة».
من خلال تجربته الطويلة، يرى قدور أن الطب فقد توازنه حين تخلّى عن الإنسان كمرجع. صار التكوين الجامعي تقنيًا أكثر من كونه إنسانيًا، وصار التقييم يُقاس بكمّ العمليات لا بنوعية العناية.
في هذا السياق، تتراجع اللغة الإنسانية التي كانت تُرافق المريض وتُطمئنه، وتُستبدل بلغة باردة من الأوامر السريرية والتحاليل الرقمية. وحين تُختزل العلاقة بين الطبيب والمريض في ورقة، يصبح الشفاء معجزة.
لأنّ الجسد لا يلتئم دون كلمة طيبة، ولا يشفى المريض دون أن يشعر أنه مفهوم ومحبوب ومحترم. الطبّ ليس فقط علمًا يُدرّس في الكليات، بل هو تجربة وجودية في مواجهة الألم والموت والقدر.
الطبيب الحقّ هو من يتعلم كيف يُصغي إلى وجع الناس، لا فقط كيف يُشخّصه. الطب الحقيقي يبدأ من لحظة النظر في عيون المريض، من فهم صمته قبل أن يُنطِقَه التحليل.
علي قدور يذكّرنا بأنّ الطبيب الذي لا يعرف كيف يقرأ الإنسان، سيعجز مهما بلغت مهارته عن مداواة الجراح التي لا تُرى.
«طبّ العقول» كما يسميه، هو الطبّ الذي يُعيد الإنسان إلى مركز المهنة، ويُعيد الأخلاق إلى لغة الممارسة.
وحين يتحدث عن «طبّ العقول»، فهو لا يقصد الطب النفسي بالمعنى الضيق، بل الطب الذي يُعيد التفكير في فلسفة العلاج نفسها.
الطبّ الذي لا يُعالج الأعراض بل الأسباب، لا الجسد بل الوعي، لا المرض الفردي بل المرض الجماعي الذي أصاب القيم والعلاقات والمجتمع. إنه الطب الذي يرى في الجهل والفساد والتفاوت الاجتماعي أمراضًا أخطر من السرطان نفسه. ولهذا فإن مشروع علي قدور الفكري يتجاوز العيادة إلى المجتمع، لأنه يرى أن الطبيب المثقف هو من يشخّص أمراض الأمة قبل أن يشخّص أمراض الأجساد. الإنسان في العالم العربي اليوم يعيش تعبًا متراكمًا، تعبًا جسديًا ونفسيًا وروحيًا.
لقد فقد الثقة في المؤسسات، في الدولة، في العدالة، حتى في الطبّ نفسه. حين يدخل المستشفى، لا يبحث فقط عن علاج، بل عن كرامة، والمفارقة أن الكثير من المستشفيات العربية، بدل أن تُعيد للإنسان كرامته، تُهينه في طوابير الانتظار، في غياب الأدوية، في الإهمال الذي صار نظامًا.
علي قدور يرى أن هذه الإهانة اليومية للمريض ليست عرضًا، بل عرضٌ لمرضٍ أكبر: غياب الضمير المهني، وموات الحسّ الإنساني.
الطبيب في نظره يجب أن يكون مثقفًا قبل أن يكون تقنيًا، قارئًا للفكر الإنساني، متأملًا في معنى الحياة والشفاء، لأن من لم يفهم الإنسان لن يُعالج الإنسان.
ولهذا يدعو إلى إعادة بناء منظومة التكوين الطبي على أسس فلسفية وأخلاقية، تُعيد للطالب علاقته بالإنسان، لا بالآلة.
إن الطب الذي يُدرّس دون إنسانية يُخرّج أطباء بارعين في التقنية، عاجزين عن الرحمة. وهذه هي الكارثة.
الطبيب علي قدور يذهب أبعد من ذلك، فيعتبر أن "المرض الحقيقي" الذي أصاب المهنة هو مرض العُرف الاجتماعي الذي جعل من الطبيب سلطة متعالية لا خادمًا للإنسان. فبدل أن يكون الطبيب نموذجًا في التواضع والإنصات، أصبح في بعض الحالات رمزًا للتكبر والعزلة المهنية.
هذا التحول، كما يقول، هو ما دمّر الثقة بين الطبيب والمريض. فالثقة لا تُبنى بالمعرفة فقط، بل بالتواضع. الطبيب المتعالي، مهما بلغت درجته العلمية، يبقى ناقصًا إن لم يكن قريبًا من الناس. أما الطب العربي اليوم، فهو يعيش على هامش منظومة علمية عالمية ضخمة لا يُشارك في صنعها بل يستهلك منتجاتها.
الأبحاث شبه غائبة، والمخابر خالية، والاعتماد على الخارج شبه مطلق. وحين يغيب البحث العلمي، يُصبح الطب العربي مجرد صدى لا صوت. علي قدور يعتبر أن «التبعية العلمية» شكل آخر من المرض، وأنّ استقلال الأمة يبدأ من استقلال علمها وصحتها، لأن من لا يملك دواءه لا يملك قراره.
لكن قدور لا يكتفي بالنقد، بل يقدّم تصورًا واضحًا: أن يكون الطب العربي مشروع نهضة، لا قطاع خدمات. مشروعًا يعيد للطب مكانته الحضارية، كما كان في زمن ابن سينا والزهراوي، حين كان الطبيب فيلسوفًا وعالمًا ومفكرًا. الطب في جوهره معرفة بالإنسان، ومن يجهل الإنسان لا يستحق أن يداويه.
ولذلك فإن إصلاح المنظومة الصحية يبدأ من إصلاح التعليم والتربية والثقافة، لأن الطبيب الذي تربّى في بيئة تُهين الإنسان، لن يعرف كيف يحترمه حين يلبس المئزر الأبيض. لقد علّمنا علي قدور أن الطب ليس مهنة للنجاة من الفقر، بل رسالة لإنقاذ الإنسان من الفقر الروحي.
وأن الطبيب لا يُقاس بعدد العمليات التي أنجزها، بل بعدد الأرواح التي حفظ كرامتها. وأن الشفاء ليس نتيجة دواء، بل نتيجة صدق وضمير وإيمان بأن الإنسان يستحق أن يُعامل كبشر لا كملفّ. وفي النهاية، لا يدعو علي قدور إلى utopia حالمة، بل إلى صحوة ضمير.
إلى أن نعيد تعريف الطبيب، لا بوصفه فنيًا في إصلاح الأعطال البيولوجية، بل كحارسٍ على الوعي الإنساني. فحين يشفى الضمير، يشفى الجسد، وحين يُصلَح العقل، تُصلَح الأمة. إنّ أمتنا اليوم لا تحتاج فقط إلى أطباء للأجساد، بل إلى أطباء للعقول، إلى من يعالج الغياب لا الحمى، العجز لا الألم، الخوف لا المرض.
هذا هو الطب الحقيقي الذي يريده قدور، الطب الذي يُعيد بناء الإنسان قبل أن يُعيد بناء المستشفى، ويزرع في قلب الطبيب يقينًا بأن الطبّ، كما الوطن، لا يُبنى إلا على الصدق والرحمة والإخلاص.
هكذا يتحدث علي قدور، بصوتٍ يشبه ضمير الوطن أكثر مما يشبه مهنة.
صوته دعوةٌ إلى ثورة في الوعي، لا في الأجهزة، إلى «طبّ العقول» الذي يعيدنا إلى جوهر الإنسان قبل أن نغرق في تشريح الجسد. فربما آن الأوان أن نفهم أن المرض الأكبر فينا ليس في الجسد، بل في الفكرة.