82

0

سينما: عن وصفةٍ مُعَيَّنة

لنيل ثقة المنتجين وتقدير المشاهدين في نفس الوقت، هليوبوليس وأمثلةٌ أخرى

.

بقلم عمر خضرون

    لغرض التذكير بالمجازر التي تعرض لها الشعبُ الجزائري، المعروفة بمجازر الثامن من ماي 1945، بثَّت قنوات التلفزيون العمومي في وقت واحد من سهرة الخميس الماضي، فيلم هليوبوليس، بعد أن كانت قد سبَّقَتْهُ بحملة إعلامية متواصلة، طوال أيام متتالية قبل العرض.

     يعتبر الأمر بمثابة امتياز لم يستفد منه أي فيلم جزائري منذ عقود. فما الذي قاد مخرج الفيلم جعفر قاسم لهذا الامتياز، وماهي وصفته؟

     هذه قراءة في هذا الحدث ومحاولة لفهم وتشريح هذه الوصفة التي أصبحت تستهوي بعض مخرجينا، ومنهم جعفر قاسم رُبَّما.

   لا يُخفِي مُخْرِجو بعض المسلسلات الرمضانية تأثرَهم بنوعٍ مُعيَّن من الأعمال الغربية "المُبهِرة"، وهذا، منذ عقدين من الزمن أو أكثر قليلا.  ويَصل الأمرُ أحيانا إلى مستويات عالية من التقليد مثل اقتراح أعمال تُصَوَّرُ مشاهدُها كُلِّيا في ديكورات غريبة عن عوالم المتفرج الجزائري المألوفة: فهي ديكورات الويسترن ومشاهدُ الغرب الأمريكي في سلسلة بوبالطو سيئةِ الذكر، أو كواليس جريدة يومية في مدينة كبيرة تشبه نيويورك ظهَرتْ في مسلسلٍ مُمِلٍّ بُثَّ في رمضان الماضي، أو تقليد واضح لأفلام الخِفَّة والدهاء والسرقة مثل التي أبدعها ستيفن سودربرغ عن "الأستاذ" أوشن وجماعته، بالإضافة إلى أمثلة أخرى، غير مُبرَّرة ولا مفهومة.

    ويستمر التأثرُ بعد ذلك لِيَبْلُغَ ذروتَه في اختيار الشخصيات ووصف العلاقات التي تَحْدُثُ بينها، وكذا في الإخراج والتمثيل واللباس والديكور، وفي رسم المشاهد ووضع الموسيقى وغير ذلك من الاختيارات التقنية التي، وإن كانت أحيانا تفرضُها قواعد الحرفة العامة، إلا أنها ترمي خصوصا إلى التَمَثُّلِ، دون حياء، بقوالب أمريكية سادت العالمَ المغلوبَ كُلَّه فأضحت، بالنسبة لهؤلاء المخرجين المتحمسين، أمثلة لا مفرَّ من تقليدها، وكل هذا على حساب الخصوصيات المحلية التي يتظاهرون بوضعها في واجهة العمل حتى يُصبِغون عليه الطابعَ الجزائري ثم يعملون على نثرها هنا وهناك في حلقاتهم بسلسلة من المشاهد المستهلكة الموروثة من الاسكاتشات القديمة ومن التعابير والحركات السخيفة التي يختصرون بها ثقافة الشعب كلها، ومن المواقف التي يراد بها التهكم الظريف على الذات كاللعب على تناقضات المجتمع وعلى اختلاف اللهجات فيه.  

    ومن حق هؤلاء المخرجين الموهوبين أن يتحججوا بكون أعمالهم لا تدعي الجِدَّ والصرامة وإنما أنجزت فقط لأغراض الفرجة والترفيه، وهي الأغراض المتكررة التي يطالب بها المتفرجون والمنتجون معا، كُلَّما حَلَّ شهر الصيام.

إلا أنَّ الأمرَ يحدث بشكل طوعي تبدو فيه هذا الأعمال كما لو كانت تنبعُ مِنْ خُطَطٍ مُفَكَّرٍ فيها بعناية حتى ولو كان أصحابها لا ينكرون بأنَّها، في نهاية الأمر، مجرد أعمال موجهة للاستهلاك السريع..... بمثابة إهدار مؤسف للأموال ..... والمواهب. 

    وليست الأفلام السينمائية الجزائرية" الجادة" المنجزة في الفترة الأخيرة، أو بعضها على الأقل، مُنزهَةً من هذا التأثر حتى ولو جاء بعضُها، بشكل ما، مُوَفقا ومقبولا، ولكن ينبغي البحث عن آثاره المعيبة في تفاصيل أخرى، دقيقة وخَفِيَّة.

   يمكن أن نشعرَ به مثلا في فيلم "هليوبوليس" للمخرج جعفر قاسم

   هذا المخرجُ الموهوب الذي أتى من عالم المسلسلات التلفزيونية، أصبح يملك شهرة طاغية لا يضاهيه فيها أي مخرج آخر في الجزائر كُلِّها، ولكنه أصبح، فيما يبدو، سجينا لاتجاهٍ مُعيَّن في التَصَوُّرِ والكتابة والإخراج.

    ويمكن للمشاهد أن يتذكر تلك الحلقات التي تجرعناها عن طِيبِ خاطر في رمضانات متتالية، إثر وجبات إفطار دسمة تدفع للخمول، ليشعر بمدى تأثر المخرج بتلك النوعية من الأعمال السطحية التي يُقْبِلُ عليها المراهقون.

   يكفي أن نعطي هذه الأمثلة: حلقات عديدة من مسلسلاته الأولى، تلك التي أخرجها للتلفزيون العمومي، جاءت فيها الشخصيات مثيرة للإشفاق لأنها مجرد تقليد لنماذج شهيرة: شخصية الماسْكْ التي أداها الممثل الكندي "جيم كاري" وشخصية الغول "اشْراكْ" وشخصية "دجانغو" القادمة من أفلام الويسترن "سباغيتي"، وشخصيات أخرى هندية وتركية ومصرية، بالإضافة إلى بعض الشخصيات في السلسلة الشهيرة، عاشور العاشر، التي جاءت نسخة مستوحاة من سلسلة "كاملوت" الشهيرة التي كانت تُبثُّ على قناة M6 الفرنسية، باعتراف جعفر قاسم نفسه.

   هناك خيطٌ من الاختلاف، دقيقٌ وضروري، بين التقليد الساذج وبين المحاكاة الساخرة   Parodieالتي يراد منها استنساخ بعض الأفكار من السينما العالمية وإسقاطها على الواقع المحلي لغرض السخرية والنقد الاجتماعي.

وجعفر قاسم يبرهن على أنه بارع في ذلك، في الجزء الثاني خصوصا من عاشور العاشر، ولكن أعماله التلفزيونية الأخرى سوف تظل شاهدةً على إهدار أموال التلفزيون في نوع من المتع الزائلة، الرامية لإضحاك جمهور من المتكاسلين.

   لا تخلو الأعمال التي تحترف محاكاة الأعمال المشهورة من التباهي، فلسان حال المخرجين الذي يمتهنون هذه الهواية هو: أنظروا، نحن قادرون، بقليل من الوسائل، على تصوير نفس المشاهد في بلادنا بنفس القدر من الاتقان، ولكن ينبغي توفر الحد الأدنى من صفات التحكم في تقنيات التركيب والإخراج والخدع السينمائية والصوتية.

وهي الصفات التي لا ننكر وجودها لدى جعفر قاسم فهي التي مكنته من تكريس نفسه كأكثر المخرجين مهارة ضمن مجموعة المخرجين العاملين بالتلفزيون. إلى أن جاء هليوبوليس، فيلمه الروائي الأول المُوَجَّهِ للشاشات الكبيرة.

   حاز هذا الفيلم الحذر، الذي لا يخوض في الجَدَلِ ولا في التابوهات ولا في الإزعاج، على ثقة المؤسسات المنتجة منذ البداية.

ومن الظريف أن نذكر هنا أنَّهم قاموا بتنظيم عروضٍ مجانية، سريعة ومرتجلة، في عدد قليل من المدن تدعيما لملف مشاركته في مسابقة الأوسكار التي تقتضي، من بين شروطها، أن يكون الفيلم قد وصل لجمهوره المحلي قبل أن يصل للقائمة الطويلة.

   ورُوِّجَ للفيلم أنه جاء ليروي، بصفة غير مسبوقة، أحداث الثامن من ماي الرهيبة التي قَضَى فيها، على يد شرطة الاحتلال الفرنسي وعلى يد المُعَمِّرين، ما يقارب الخمسة والأربعين ألفا من الشهداء، في "سطيف" وفي "خراطة" وفي أماكن أخرى من البلاد، وبالخصوص في "قالمة"، مسرح أحداث هذا الفيلم، اللاصقة ببلدة هليوبوليس التي سُمِّيَ بها العمل. وسنعود لهذا الأمر المتعلق بعنوان الفيلم لاحقا.

   يَزعُمُ جعفر قاسم بأن الفيلم مستوحى من قصة حقيقية. ولا يليق بطبيعة الحال أن نكَذِّبه.

ولكن هل غابت كل قصص الأهالي الذي قتلوا بدم بارد ثم أحرقت جثثهم، أولئك الجزائريون الفقراء المقهورون والمعذبون الذين ظهروا بشكل رهيب في رائعة "وقائع سنين الجمر" الحائز على السعفة الذهبية في كان 1975 وحتى في "خارجون عن القانون" (2010)، فيلم "رشيد بوشارب" الذي وصل صداه للبرلمان الفرنسي، حتى نركز اهتمامنا على فتى مُعيَّن من دون الآخرين، فتى من عائلة بورجوازية، يكتشف فجأة الاستعمار والظلم و"الحُقْرة"؟

   وهكذا، فإن الإحساس بالحُقْرة هو الذي سيجُرُّه، وفق قصة الفيلم، للانخراط في السياسة.

بعد ماذا؟ بعد سببٍ يبدو تافها بالنظر لمآسي الشعب آنذاك: فالإدارة في معهد فرنسي جامعي متعدد التقنيات تراسله لتبلغه برفضها لطلب تسجيلٍ، بعد نيله شهادة الباك بامتياز.

هناك، اقتنع الشاب بأن الدراسات العليا مُحَرَّمَةٌ على العرب والانديجان. ومضى بعد ذلك يناقش، في هذا الأمر، والِدَه الثري الذي لا يقل "تحضرًا" عن جيرانه المُعَمِّرين، ويقنعه بضرورة التمرد على الظلم والاهانة.

وهذه مغالطة تبدو أساسية حتى وإن كانت بعيدة عن موضوعنا لأن سلطات الاحتلال الفرنسي كانت بالعكس تشجع أبناء الطبقة الميسورة من العائلات الجزائرية المتعلمة ومن مُلَّاك الأراضي والباشاغوات وغيرهم، للدراسات في المعاهد الفرنسية، لدوافع استراتيجية خبيثة من قبل المُخططين في سلطة الاحتلال.

ودلائل ذلك، في التاريخ الجزائري الحديث، كثيرة متعددة. ولكن جعفر قاسم يؤكد أن القصة حقيقية. ومن الممكن أن تكون القصة قد حدثت بالفعل، فلِكُلِّ أمر استثناءاته الجديرة بالذكر، غير أن كُتَّابَ السيناريو، الجامعيان "صلاح الدين شيهاني" وزوجته "كاهينة محمد أوسعيد"، تكاسلا عن الإحاطة بهذا الأمر وعجزا عن وصفه بشكل كامل، متجانس مع المعاناة الغالبة، السائدة آنذاك في أوساط العامَّة.

   المؤكدُ تاريخيا أنَّ ضحايا الإبادة في مجازر الثامن من ماي 1945 كانوا في الغالب من الفقراء والفلاحين والمناضلين الذين اختار المخرج أن يضعهم وراء أبطال عمله في أدوار ثانوية محتشمة، حتى أن مشاهد التقتيل الجماعية التي أنهى بها قصته، والتي يتعرض لها في الفيلم عدد من الفلاحين البسطاء بدت مختصرة رغم قسوتها الشديدة.

ويبدو أن ما كان يهم جعفر قاسم أولا هو مأساة هذا الفتى الذي تنقلب حياته رأسا على عقب بعد أن ظل يعيش في مظاهر من الرفاه عاشها طوال سنوات في مزرعة واسعة تثير حسد الملاك الفرنسيين.

فتى يطرب على إيقاعات الموسيقى الامريكية الراقصة رفقة أترابه الفرنسيين ويتمتع بأشكال واسعة من الرعاية في حضن عائلته الميسورة، وهذا الأب البورجوازي الذي يحاور أولاده بفرنسية راقية حول طاولة الطعام، وتلك الأخت الصغرى المدللة التي تبدو مستعارة من المسلسلات الغربية، الهائمة في قصةِ حُبٍّ سطحية تربطها بعامل وسيمٍ في المزرعة: قصةٌ حُبٍّ أُقحِمت إقحاما دون دافع ولا تعمق، لأن المخرج يغفل عن إثرائها بما يكفي ليبرر ضرورة وجودها، لكنه، على الرغم من ذلك، لا يغفل عن وصف مواهب الشاب في الرعاية بالخيول وفي مباريات السباق التي تنظمها البلدية الاستعمارية ويشارك فيها الشاب الجزائري ضد متسابقين فرنسيين، كل ذلك ضمن مشاهد تجارية من خيال كُتَّابَ القصة، إيعازا من المخرج الذي شارك في الكتابة.

ويبدو أن جعفر قاسم قد نجح في مسعاه فعلا لأن الفيلم سيثبت سحره على المتفرجين الذين غصَّت بهم القاعات خلال العروض الأولى. ويكفي أن نتذكر أن جمهور الشباب، بقاعة "السينماتيك" التي عرضت الفيلم لأول مرة، كان يتابع مشهد سباق الخيل كما لو كان أمام مباراة ساخنة من مباريات "الداربي"، وكيف راح يصفق طويلا على البطل الجزائري إثر فوزه بالسباق.

   ويمكن لقاسم أن يبرر اختياراته بكونه يفضل التركيز على قصة فرد واحد أو مجموعة قليلة العدد من الأفراد بحكاياتهم البسيطة وتناقضاتهم المؤلمة التي من شأنها أن تؤثر في وجدان المشاهد ولا يميل في مقابل ذلك للملاحم الكبرى التي صنعت مجد السينما الجزائرية والتي تصف بطولات الشعب ونضالاته والتي تستدعي النفس الطويل والإمكانات الضخمة والتي يعاب عليها في بعض الأحيان تلك الخطب والشعارات التي جعلت الجمهور ينفر من هذه الإنتاجات ويغيب عنها بدافع من النفور والتعود.

   فلا ينبغي إذن أن يُلام جعفر قاسم كثيرا وهو يحاول أن يتجاوز مشكلة غياب الجمهور ويبدي بالمناسبة رغبته المشروعة في إخراج أفلام يمولها المنتجون دون تَخَوُّف ويصفق لها المشاهدون دون تَمَنُّع. 

   الامر إذن متعلق بالجمهور. وهو الأمر الذي جعل السينما المصرية على سبيل المثال، السباقة في هذا المجال، ترتمي منذ عقود، ودون ورع، في موجة مفضوحة من الأعمال التجارية، استجابةً لواقعٍ مُعيَّن.     

   فلقد راح منتجو الأفلام في مصر، ابتداء من السبعينيات يلفتون الانتباه إلى أن جمهور السينما بدأ يهجر القاعات في أرض الكنانة لصالح أنماط أخرى من الاستهلاك مثل شرائط الكاسيت وقنوات التلفزيون المفتوحة، نظرا لِعواملَ اقتصادية واجتماعية قاهرة، ونظرا لعوامل نفسية أخرى مترتبة عن الهزائم المذلة التي نتج عنها إحساسٌ بالشكِّ في ضمائر الأمة كلها بعد 67.

وكانوا يَدَّعون أن جمهور السينما يمكن استرجاعه بأعمال سريعة غير مكلفة وقصص بسيطة مليئة بالإيحاءات الجنسية والضحك الأبله والتهريج، وأفلام كانت تصور أحيانا في أيام قليلة ويُنسخُ بعضها، دون حياء، من أفلام أمريكية نالت النجاح وراء الأطلسي ثم اكتسحت العالم كله.  

   علينا إذن أن نشكر العناية الإلهية التي حفظت المخرجين الجزائريين، ومن بينهم جعفر قاسم إذن، من هذه الانحرافات.

ولكن وجب التنبيه إلى أن حالة السينما في مصر تظل متميزة بما لها من تاريخ زاهر وعريق، وعلاقة متينة ربطتها، طوال قرن أو يزيد، بمنطق الربح والشُبَّاك.

أما في الجزائر، فإن مجمل الأفلام الجزائرية، بما فيها تلك التي صُورت في العهد الذهبي، لم تتح للجمهور الواسع في القاعات، واكتفت بعروض متفرقة حضرها عددٌ متفرق من المتفرجين ونخبةٌ واسعة من النقاد والمثقفين المتحمسين، ولو أنها عوضته بعد ذلك بنجاحات مذهلة في أعرق المهرجانات (كان والبندقية وموسكو وقرطاج وغيرها)، ثم بعروض مجانية متكررة تابعها الملايين من المتفرجين على قنوات التلفزيون العمومي.

   ومن الطبيعي، بالنظر لهذه الظروف، أن يوجد المخرجون الجزائريون في حالات من اليأس ومن الإحباط ظلت تلُمُّ بهم طوال سنوات بل ازدادت في الفترات الأخيرة حتى جعلتهم يبحثون عن المواضيع التي تمكنهم من استعطاف الجمهور واستدراجه للقاعات، أو لِما تبقى منها على الأقل، ويجربون أشكالا من القصص تضمن لهم ثقة المنتجين وتتيح لهم الحصول على الأموال الكافية لإنجاز مشاريعهم بعد أن ارتفعت نفقات التصوير بشكل لا يطاق، حتى أصبحت السلطات العمومية تتردد أحيانا في تمويل هذه الأفلام التي لن تتمكن من تعويض خسائرها مهما يكن من أمر.

   ولذا، راح بعضهم يكتشفون ضرورة إدراج مشاهد كانت في السابق محتقرة، مثل مشاهد العنف (أغلب الأفلام الجديدة) ومثل الغراميات المشوقة ( أفلام: "حب في باريس" و"حب ممنوع" مثلا) وقصص الحنين ل"ماضٍ مُعيَّن" ( سنوات التويست المجنونة) وأنواع أخرى من الافلام التي يمكن أن تستهوي الجمهور مثل "التريلير" والأفلام البوليسية اللاهثة (فيلم "مورتوري" عن رواية الكاتب الجزائري ذي الصيت العالمي "ياسمينة خضرا"، وفيلم "196 متر" الصادر مؤخرا) والأفلام التي تبحث في التاريخ المغيب، في الوجود العثماني مثلا (الملكة الأخيرة) وفي أحداث الفتنة السوداء التي أدمت البلد في التسعينيات (فيلم "التائب")، أو الأعمال التي يمكن أن تثير النقاش حول مسائل اللغة والهوية ("ماشاهو"، "الربوة المنسية" ...الخ...)،  والشباب ("بابيشا"،  "الساحة"، "نورمال" ...) والتطرف الديني ( "رشيدة"، "باب الواد سيتي" ... ) وغيرها.

   كل ذلك يبقى مشروعا طالما ظل هؤلاء المبدعون يتمثلون بكلاسيكيات الفن السابع ببلادنا ويلتزمون بخطه المجيد. غير أن أغلبهم أصبحوا الآن مضطرين إلى تنويع مصادرهم باللجوء الى شركات إنتاج غربية صارمة، في فرنسا خصوصا وفي دول أخرى (بلجيكا، هولندا، ودول الخليج أيضا...)، لتصوير أعمال تُوجه أساسا للمهرجانات أو تُبثّ على قنوات لا يهمها، في نهاية الأمر، إلا أن تنال الإعجاب بنسب مشاهدات تنافس البرامج التي تُبَثَّ في نفس التوقيت. ولنتذكر كيف ارتمى المخرج الطلائعي "مرزاق علواش" (صاحب "عمر قتلتو" 1976) في أحضان المنتجين القطريين لتصوير بعض أفلامه بعد أن سُدَّت في وجهه مصادر التمويل التي اعتاد عليها. وكيف تراجع المجاهد العنيد لخضر حامينا، صاحب "ديسمبر" و"ريح الاوراس" فلجأ لقناة التلفزيون الفرنسية TF1 المقربة من اليمين، خلال العام 1985، لتمويل جزء من فيلمه "الصورة الأخيرة".

   وعلى الرغم من المآخذ التي يمكن أن تُسَجَّل على الانتاجات المشتركة بخصوص الشروط التي يفرضها المنتج الأجنبي على حساب جنسية المخرج وقناعاته وعلى لغة الفيلم أيضا (يشترط بعض المنتجين الفرنسيين أن تكون لغة الفيلم فرنسية بنسبة لا تقل عن 51 بالمائة)، إلا أن هؤلاء المبدعين سيظلون، على الأقل، محميين من مغريات الاسفاف والتهريج الذي يميز الأعمال التجارية الوضيعة المشار إليها أعلاه، نظرا لأن هذه الأسواق الغربية الصارمة تتطلب الحد الأدنى من الجد والإتقان في كتابة السيناريو وفي الاخراج.

   ويبدو أن حتمية الإنتاج المشترك لم تعد حكرا على السينمائيين الجزائريين. ففي توجه عربي تصاعدي يرفض الخضوع للوضع الراهن، لجأ، في السنوات الأخيرة، عدد من المخرجين الطموحين من تونس ومن المغرب ومن لبنان واليمن والصومال وفلسطين والعراق وموريتانا وحتى من مصر، للبحث عن مصادر تمويل أوروبية لتصوير أفلام كانت، في البدء، تبدو مستحيلة لأنها أفزعت، بمواضيعها الجريئة، شركات الإنتاج في هذه البلدان. ويبدو أن هذا المسعى أتي بفائدته على صناعة الفن السابع بالعالم العربي بعدد من الأفلام الوثائقية والروائية التي تميزت بقدر عال من الاتقان والجودة، منها الفيلم المصري التسجيلي الحامل لهذا العنوان المعبر "رفعتُ عينيَّ للسماء" من انتاج مشترك (مصري-دانماركي-فرنسي-قطري-سعودي!) الذي حاز على جائزة العين الذهبية في كان 2024، مناصفة مع فيلم المخرج الهايتي "راؤول باك" عن حياة المناضل الثوري "باتريس لومومبا"، والذي يحمل عنوانا متميزا لا يقل تعبيرا عن سابقه: أنا لست عبدا لك.

   أما الأفلام الجزائرية التي تشتغل على المقاومة وعلى حرب التحرير، على غرار فيلم هليوبوليس، فإنها ستظل لفترة أخرى تحضي برعاية الدولة وتمويلها الكامل لأنها، بالشكل الذي تكتب به حاليا، تأتي دائما لتكرس الخطاب الرسمي الرامي لتذكير الشعب بانتصاراته المجيدة التي تدعوه حتما للفخر بمآثر الوطن. هذا، على الرغم من بعض المحاولات التي قام بها بعض المخرجين المتأخرين لإقحام عدد من المشاهد المجانية أحيانا، والتي تتحدث مثلا، عن خيانة الوطن من قبل بعض أبنائه، أو تبالغ في وصف الشخصيات المسيحية واليهودية التي تعاطفت فعلا مع الشعب، أو تصف العنف الذي ميز أحداث التحرير والذي راح ضحيته أبرياء من الجانبين وأخيرا في إقحامها لمشاهد من الفتن ظلت مطموسة عن طيب خاطر في ذاكرة الجزائريين ولكنها حدثت بالفعل بين قادة الثورة، مثل مشهد الحوار العنيف الذي جرى، ذات يوم من أيام الكفاح، بين الشهيد الرمز "العربي بن مهيدي" والمجاهد أحمد بن بلة الذي سيصبح أول رئيس للبلاد المستقلة، في "بن مهيدي"، هذا الفيلم الذي لم يتمكن الجزائريون من مشاهدته إلى اليوم، لأسباب تتعلق خصوصا بالخلاف العميق الذي حدث بين منتجه الأساسي، وزارة المجاهدين، ومخرجه المشاكس "بشير درايس"، جراء هذا المشهد بالذات (وجراء عدد من التفاصيل الأخرى).

   أما المخرج الهادئ والمهذب جعفر قاسم، فإنه يبدو، على الرغم من محاولته التميز والاتقان، مختلفا عن هؤلاء المخرجين بحرصه الواضح على تجنب الصدام مع المنتجين. وما فيلمه" هليوبوليس " إلا مثال بليغ من بين الأمثلة الكثيرة عن بعض الأفلام الجزائرية الجديدة التي، حتى وإن كانت تبحث عن إعجاب المشاهدين، إلا أنها تميزت بقدر كبير من الحذر ومن الالتزام ببنود العقد، يضاف إليها مزايا تقنية تشفع لها في اختيار الديكورات وفي التقاط الصوت والصورة. وكل ذلك لا يغطى على العيوب المذكورة أعلاه والتي يمكن أن يضاف لها نوع من العاطفية المفرطة ونوع من الخلل في تقديم الشخصيات يؤدى إلى الخلط بينها في بعض الأحيان ونوع من الإخفاق في إدارة الممثلين حتى جاءت أدوار بعضهم زائدة ومتكلفة.

   سبق أن تحدثنا عن عنوان الفيلم، هليوبوليس.

   للأسف، ليس هناك في الفيلم إشارات تبرر بقدر كاف سبب اختيار هذا المكان وهذا العنوان، إلا ربما اختيار المخرج أن تدور قصته في مزرعة عائلية تقع في منطقة هليوبوليس، على أطراف مدينة قالمة.  فلنكن واضحين: من حق أي مخرج أن يختار المكان الذي يشاء لحوادث عمله. كما أن مدينتي "قالمة" و"هليوبوليس" متلاصقتان جغرافيا ولا يفصل بينهما في الواقع فاصل كبير، فمن المؤكد إذن أن يكون قد سقط عدد كبير من الضحايا في هليوبوليس. ولكن الأحداث التصقت تاريخيا بقالمة، أما هليوبوليس فإنها دخلت التاريخ بكونها خُصِّصت لحرق الجثث وطمس الدلائل قصد إخفائها عن المحققين الذين جاؤوا من باريس للنظر في تلك المجازر التي فاحت دماؤها في العالم بأسره. ولكن المخرج ربما لا يهمه هذا الجانب بالقدر الذي يهمه اختيار أماكن تبهر بأسمائها الرومانية المتفرجَ الشاب وتدفعه للحلم والانتشاء. نعم. فعنوان مثل هليوبوليس عنوانٌ جذاب بالفعل وهو قادر على لفت الانتباه. ولو أن المخرج جعفر قاسم أنهى فيلمه بمشاهد كافية عن هليوبوليس المكان وعن المحارق التي جرت فيه وعن التحقيق الذي سيأتي ليحدد المسؤوليات والذي كان يمكن الإشارة إليه ولو في جينيريك النهاية، لو فعل جعفر قاسم ذلك لمنح لنا ربما فيلما رائعا ينتقل من أفلام الابادة في جزئه الأول إلى نوع مُعيَّن من الأفلام السياسية في جزئه الأخير، ولكان فيلمه يغوص لأول مرة (منذُ "زاد") في هذا المجال المدهش والشيق، مجال المحاكمات السياسية.

   وعلى الرغم من ذلك، علينا أن نعترف بأن الوقت يمر سريعا عند مشاهدة الفيلم لأنه ماتع بالقدر الكافي وليس فيه تلك العيوب الصارخة التي ميزت أكثر أفلام الثورة منذ عشريتين. كما يجدر التذكير بأن هليوبوليس هو أول فيلم سينمائي لجعفر قاسم، وغالبا ما تكون التجارب الاولى قاصرة ومتعثرة. فمن المنتظر إذن أن يكون فيلمه الثاني عن بطل الثورة الشهيد "بوقرة" خال نوعا ما من هذه الهنات، لأن قائد الولاية التاريخية الرابعة، محمد بوقرة، خريج المدارس القرآنية وعضو الكشافة الإسلامية ومناضل في سن السادسة عشر ومشارك نشيط في أحداث الثامن من ماي على الرغم من صغر سنه، وهو سليل أسرة فقيرة ليس لها أي صلة بمظاهر الراحة التي يحبها جعفر قاسم. ولنا أن نتأسف مرة أخرى حين نتذكر أن قاسم قد عاد مرة أخرى، بعد هليوبوليس، لمسلسلاته التلفزيونية بعمل كوميدي وضخم "دار الفشوش"، ولكنه لم يلق النجاح المناسب للأموال التي رصدتها منتجة العمل، قناة "سميرة" التلفزيونية المتخصصة في الطبخ. وربما يكون جعفر قاسم، إثر مغامرة هليوبوليس الطموحة وإثر هذا المسلسل، اللمَّاع والضعيف في آن واحد، قد اكتشف أخيرا الفرق بين "الاسكاتشات" وبين الأعمال السينمائية التي تتطلب الجهد الكبير وطول النفس واحترام ذكاء المشاهدين والصرامة في كتابة السيناريوهات والإحاطة بكل الجوانب المتعلقة بشخصيات الفيلم ونفسياتها. لعله يدرك أخيرا ما الذي ينبغي فعله لامتلاك المشاهد الجزائري الحقيقي والحصول على مشاعر غير مزيفة من الاحترام والتقدير.

   ويجب التذكير أخيرا أن أفلاما جزائرية عديدة أنتجت خلال العشرية السابقة وكانت على قدر محترم من الجمال والمتعة لأنها حاولت المغامرة في مجال الترفيه بما يكفي لاسترجاع جماهير القاعات وطمأنة منتجيها، ولكنها لم تحظ بالرعاية الإدارية التي حظي بها فيلم جعفر قاسم حتى توزع بالشكل الكافي. يكفي أن نذكر العناوين التالية على سبيل المثال: "البئر" (2015) للطفي بوشوشي الذي رشح للأوسكار، فيلم "زبانة" (2012) لسعيد ولد خليفة الذي يروي الأيام الأخيرة في حياة شهيد المقصلة زابانا (من سيناريو للشاعر والكاتب والوزير عزالدين ميهوبي) وفيلم "فاطمة نسومر"(2014) لحجاج بلقاسم (عن حياة المقاوِمة الجزائرية العظيمة فاطمة نسومر) وكذا فيلم "لخضر حامينا" الأخير، غروب الظلال، الذي لم ينل النجاح المرتقب.

   والمؤسف أن هذه الأعمال، بخلاف هليوبوليس وأفلام قليلة أخرى، لم تحظ بالتوزيع الكافي وبقي البعض منها حبيس الادراج في مكاتب منتجيها، بعد عروض أولى للصحافة حضرها جمهور متحمس في العاصمة، تلتها عروض بعدد أصابع اليد في مدن أخرى، وُجِّهتْ لصالح هذا الجمهور الذي يبدو واسعا وكبيرا إلا أنه يظل عصيا على العودة والاقناع لأنه أصبح منذ أمدٍ غارقا في مشاعر مختلطة من الضجر والاكتفاء والنفور.

 

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services